حوار شانغريلا:

استمرار التوتر في العلاقات بين واشنطن وبكين رغم جهود التهدئة

12 June 2023


عُقدت الدورة العشرين لقمة الأمن الآسيوي، المعروفة إعلامياً باسم "حوار شانغريلا"، خلال الفترة من 2 وحتى 4 يونيو 2023، بسنغافورة، وهو الحوار الذي ينظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بشكل سنوي منذ عام 2002، بمشاركة كبار مسؤولي الدفاع والقادة العسكريين والدبلوماسيين ومصنعي الأسلحة والمحللين الأمنيين من 49 دولة، حيث تمت مناقشة عدد من القضايا والتحديات الأمنية المهمة في سبع جلسات عامة، وعدد من الجلسات الخاصة.

بيئة إقليمية ودولية مضطربة:

انعقد حوار شانغريلا الأمني بسنغافورة في سياق بيئة أمنية يشوبها الاضطراب والتوتر على المستويين الإقليمي والعالمي، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1- توتر أمريكي صيني متصاعد: شهدت الفترة السابقة على انطلاق فعاليات الحوار عدة تطورات ترتب عليها توتر كبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، ولاسيما في بُعدها العسكري. ويتمثل أبرزها في رفض وزير الدفاع الصيني، لي شانغ فو، قبول دعوة للقاء نظيره الأمريكي، لويد أوستن، على هامش الحوار، بهدف إجراء محادثات رسمية بين الجانبين.

كما انتقدت وزارة الدفاع الأمريكية، في 4 يونيو 2023، ما وصفته بالتصرفات "الخطرة بشكل متزايد" للقوات المسلحة الصينية في آسيا، وذلك في إشارة إلى تنفيذ مقاتلة صينية مناورة عدوانية بلا داعٍ بالقرب من طائرة عسكرية أمريكية فوق بحر الصين الجنوبي، في 30 مايو 2023. ويلاحظ أن المناوشات العسكرية بين الجانبين استمرت بعد ذلك، إذ اقتربت سفينة حربية صينية من مدمرة أمريكية في مضيق تايوان يوم 5 يونيو 2023 وعبرت أمامها بطريقة وصفتها البحرية الأمريكية بأنها "غير آمنة".

2- اضطراب البيئة الأمنية في آسيا: شابت البيئة الأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في الفترة الأخيرة، عدة مظاهر عكست وجود اضطراب إقليمي، ومنها على سبيل المثال، استمرار التهديد الكوري الشمالي لليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى التوترات بين الصين وبعض جيرانها الآسيويين، في بحر الصين الجنوبي، فضلاً عن توجه العديد من دول المنطقة، كاليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، نحو تعزيز تحالفاتها الأمنية والدفاعية مع واشنطن. 

ويضاف إلى ما سبق قيام بعض الدول بتعديل استراتيجياتها الأمنية والدفاعية، كاليابان وأستراليا، لمواجهة ما ترى أنه "تهديد صيني" لأمنها القومي. وقوبلت تلك الخطوات بانتقاد حاد من جانب بكين، باعتبار أنها ستؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، بجانب أنها تصب في سياق المحاولات الأمريكية المتواصلة لاحتواء وتطويق الصين في آسيا.

3- استمرار الحرب الروسية الأوكرانية: لا تبدو هناك أي بوادر لانتهاء الحرب الروسية الأوكرانية، بل تشير التطورات الميدانية والعسكرية لطرفيها إلى اتجاهها نحو مزيد من التصعيد، خاصة بعد إعلان أوكرانيا، على استحياء، بدء هجومها المضاد لاستعادة أراضيها من سيطرة القوات الروسية، وهو الهجوم الذي تخلله تعرض سد نوفا كاخوفكا، الواقع في الأجزاء الخاضعة لسيطرة روسيا من منطقة خيرسون في جنوب أوكرانيا، يوم 6 يونيو 2023 للتدمير في جزئه العلوي، الأمر الذي ينذر بتصعيد الصراع لمدى أكبر، خاصة مع بحث الدول الغربية إمداد أوكرانيا بمقاتلات "أف–16".

اهتمام متزايد بالأمن الآسيوي:

أظهرت القضايا التي تمت مناقشتها خلال دورة هذا العام من حوار شانغريلا للأمن الآسيوي، مجموعة من الدلالات، يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:

1- تكريس النفوذ الأمني لواشنطن في آسيا: يعكس حرص الولايات المتحدة على المشاركة في حوار شانغريلا على أعلى المستويات الأهمية الجيوستراتيجية الكبرى التي تحظى بها القارة الآسيوية في إطار السياسة الخارجية لإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وذلك انطلاقاً من استراتيجيتها تجاه منطقة "الإندو باسيفيك"، والتي تهدف إلى احتواء وتطويق الصين عبر سلسلة من التحركات والإجراءات والتحالفات الأمنية والعسكرية مع حلفائها الإقليميين في المنطقة.

ويتضح ذلك من إعلان الولايات المتحدة، بعد لقاء وزير دفاعها مع نظيريه الياباني والكوري الجنوبي، عن سعيها لإعداد خطط مشتركة مع حليفتيها طوكيو وسيول، لتدشين نظام لتبادل المعلومات بشكل مباشر وسريع عن الصواريخ الكورية الشمالية بحلول نهاية العام الجاري، من أجل مواجهة التجارب الصاروخية المتكررة من جانب بيونغ يانغ. 

وقد تم الإعلان عن هذا التطور في بيان مشترك لوزراء دفاع الدول الثلاث، في 3 يونيو 2023، على هامش حوار شانغريلا، بهدف تمكين الدول الثلاث من رصد عمليات إطلاق الصواريخ من قبل كوريا الشمالية وتحليلها بصورة أفضل. ومن هنا، فإن أحد الأهداف الرئيسية لمشاركة واشنطن في هذا الحوار، تتمثل في تكريس وجودها ونفوذها الأمني في القارة الآسيوية، من خلال توضيح الإجراءات التي تعتزم القيام بها للدفاع عن أمن حلفائها الإقليميين.

2- رفض بكين الهيمنة الأمريكية: يلاحظ أن الصين تعمل على توظيف مشاركتها في الحوار بهدف طرح رؤيتها وأفكارها بشأن كيفية تحقيق الأمن والاستقرار في دول القارة الآسيوية، والتي ترتكز على ما تطرحه بكين من مبادرات أمنية، ومنها مبادرة الأمن العالمي، التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ، في إبريل عام 2022. 

وتتباين الرؤية الصينية للأمن الآسيوي مع الرؤية الأمريكية للأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما يتضح من رفض الوفد الصيني المشارك في الحوار، ما وصفه بالاتهامات الزائفة التي ساقها وزير الدفاع الأمريكي ضد الصين في حوار شانغريلا، قائلاً إن "القيادة" لا تعني الهيمنة، والأفعال تحدد الموقف. وجاء هذا الرد على لسان اللفتنانت جنرال جينج جيان فنج، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة للجنة العسكرية المركزية الصينية، في مؤتمر صحفي، في 3 يونيو 2023، حيث صرح بأن واشنطن تجاهد للحفاظ على هيمنتها من خلال الترويج لما يسمى "استراتيجية إندو باسيفيك" للمحيطين الهندي والهادئ، مؤكداً أن سيادة بلاده على جزر في بحر الصين الجنوبي والمياه الإقليمية لا تقبل الجدل.

3- تنامي اهتمام الغرب بالأمن الآسيوي: يلاحظ أنه على الرغم من أن حوار شانغريلا مخصص أساساً للقضايا الأمنية الآسيوية، فإنه بدأ يجذب العديد من القوى الغربية المهمة للمشاركة في فعالياته وجلساته. وهو ما تجسد في مشاركة وزراء دفاع من دول أوروبية عديدة في حوار هذا العام، وهو ما يعكس وجود اهتمام كبير من جانب أوروبا بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، بفعل الضغوط الأمريكية. وربما يفسر ذلك ما ذهبت إليه ألمانيا من إعلانها خلال الحوار أنها تعتزم إرسال سفينتين حربيتين خلال العام المقبل إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وسبق لمسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن دعا، في 23 إبريل 2023، القوات البحرية للدول الأعضاء في التكتل الإقليمي إلى القيام بدوريات بحرية في مضيق تايوان، وهو ما أثار غضب بكين.

مخرجات متباينة:

ناقش الحوار عبر جلساته العامة العديد من القضايا والتحديات الأمنية، ويمكن رصد أبرز ما تمخض عنه من مخرجات ونتائج في النقاط التالية:

1- استمرار التوتر الصيني الأمريكي: على الرغم من المصافحة الودية التي جرت على هامش الحوار بين وزيري الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، والصيني، لي شانغ فو، فإنه لم يتم التطرق خلالها إلى أي محادثات جوهرية بين البلدين. ويلاحظ تأكيد أوستن في مداخلته أمام الجلسة العامة الأولى للحوار، في 3 يونيو 2023، أهمية إجراء حوار بين واشنطن وبكين، لتجنب إمكانية حدوث أي صراع بين الدولتين، مبدياً قلقه الشديد تجاه ما وصفه بعدم استعداد الصين للتعاون مع بلاده لحل الأزمة العسكرية بينهما، وهي التصريحات التي أغضبت الصين.

وكان الوزير الصيني أكد، في مقابلة مع وكالة "رويترز" بتاريخ 3 يونيو 2023، أن الصين تسعى إلى الحوار وليس للمواجهة مع الولايات المتحدة، مستدركاً أنه من الطبيعي أن توجد خلافات بين الدول، مشيراً إلى أن "المواجهة بين الصين والولايات المتحدة ستكون كارثة لا تحتمل للعالم". ومع ذلك، يبدو من الواضح أن التقييمات الصينية تنصرف إلى أن واشنطن لن تتراجع عن جهودها الرامية إلى تطويقها عبر بناء تحالفات مناهضة لها، سواءً بشكل مباشر، أو غير مباشر، وذلك عبر استغلال التهديد الكوري الشمالي. 

2- التحذير من الناتو الآسيوي: حذر وزير الدفاع الصيني، في 4 يونيو 2023، من إقامة أحلاف عسكرية مماثلة لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، قائلاً إنها ستغرق المنطقة في "زوبعة" من الصراعات. وقد نفى وزير الدفاع الأمريكي، في وقت سابق، محاولة بلاده تشكيل أي هيكل أمني غربي جديد، على غرار حلف "الناتو"، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لكنه أكد أن بلاده تعتزم زيادة التنسيق والتخطيط العسكري والتدريب القتالي مع حلفائها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

ومن الواضح أن نفي وزير الدفاع الأمريكي يفتقد إلى المنطق، وذلك بالنظر إلى قيام بلاده بتأسيس تحالف "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا، لمراقبة التحركات البحرية الصينية، وكذلك، تحالف "كواد" الرباعي مع أستراليا واليابان والهند.

3- مبادرة لتسوية الأزمة الأوكرانية: على الرغم من أن القضايا الرئيسية التي طُرحت أمام الحوار ركزت على الأمن الآسيوي، فإن الحرب الأوكرانية كانت من ضمن القضايا التي نوقشت خلال جلسات الحوار، ولاسيما الجلسة الثالثة، التي ركزت على حل التوترات الإقليمية، وتحدث فيها كل من وزيري الدفاع في إندونيسيا وكوريا الجنوبية، علاوة على جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، حيث اقترح وزير الدفاع الإندونيسي، برابور يوبيانتو، في 3 يونيو 2023، مبادرة للحل السلمي لأزمة أوكرانيا، تتضمن وقف إطلاق النار وإقامة منطقة منزوعة السلاح، علاوة على نشر قوات تابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام، وإجراء استفتاء في المناطق التي ضمتها روسيا من أوكرانيا لتقرير مصيرها، وهي الخطة التي رفضتها أوكرانيا، واصفة إياها بـ"الغريبة".

وفي التقدير، يلاحظ أن دورة حوار شانغريلا للأمن بسنغافورة هذا العام أخفقت في تقريب الرؤى ووجهات النظر بين أكبر قوتين فاعلتين على الساحة الآسيوية، وهما بكين وواشنطن، في ضوء ما شاب علاقتهما أخيراً من توتر، وتنامي مظاهر الاضطراب وعدم الاستقرار في البيئة الأمنية الآسيوية، نتيجة للتحركات الأمنية الأمريكية في آسيا والمحيط الهادئ، والتي تُقابل برفض شديد من جانب الصين، الأمر الذي يُتوقع معه استمرار التوتر وعدم الاستقرار كصفة أساسية للبيئة الأمنية الآسيوية في ظل عدم حل الخلافات بين واشنطن وبكين.