تصعيد مُدار:

مسارات المواجهة العسكرية بين إيران والولايات المتحدة في سوريا

03 April 2023


يشير تصعيد المواجهات العسكرية بين إيران والولايات المتحدة يوم 23 مارس 2023 في سوريا إلى أن مرحلة جديدة من الحرب غير المباشرة بين الجانبين قد بدأت، سعياً وراء ممارسة أقصى قدر من الضغوط لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لكلا الجانبين في سوريا على وجه التحديد وفي منطقة الشرق الأوسط بوجه عام.

أسباب التصعيد الإيراني

استهدفت فصائل موالية لإيران في سوريا يوم 23 مارس 2023 قاعدة أمريكية بمنطقة "خراب الجير" بالقرب من الحسكة في الشمال الشرقي السوري بطائرة مسيّرة انتحارية، مما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي وإصابة 5 جنود ومقاول آخر. وقد فتح هذا الهجوم الباب لمجموعة من الهجمات المتبادلة بين الجانبين، استهدفت قاعدتين أمريكيتين أخريين ومجموعة من المواقع والمنشآت الإيرانية في سوريا، وهو تصعيد جاء ارتباطاً بعدد من الأسباب، يمكن تفصيلها على النحو التالي:

1- تحركات تأكيد الحضور: ارتبط التصعيد الإيراني الأمريكي في سوريا بتحركات كلا البلدين في الفترة الأخيرة لتأكيد حضورهما السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، وخاصة في كل من سوريا والعراق. فعلى الجانب الأمريكي، أجرى وزير الدفاع، لويد أوستن، جولة شرق أوسطية شملت العراق، في 7 مارس 2023، لتأكيد الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وبغداد، وتأكيد بقاء القوات الأمريكية في العراق لاستمرار مهام محاربة تنظيم داعش. 

وتزامنت هذه الجولة مع زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، في 4 مارس، إلى سوريا وتفقده عدداً من القواعد الأمريكية هناك، والإعلان عن تنفيذ عملية عسكرية مشتركة بين التحالف الدولي والقوات الكردية لضبط الحدود السورية العراقية التي تنشط فيها المليشيات المدعومة من إيران. ورأت طهران والفصائل الموالية لها في العراق وسوريا هذه التحركات بمثابة استفزاز لها واستعراض للقوة. 

أما الجانب الإيراني، فتمثلت تحركاته الأساسية في الجولة التي قام بها أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني الأدميرال، علي شمخاني، في المنطقة وزيارته إلى العراق، في 19 مارس 2023، وتوقيعه وثيقة أمنية مشتركة بين الجانبين واتفاقه على إجراءات للالتفاف على الضغوط الأمريكية على الاقتصاد العراقي في مسألة توفير الدولار، علاوة على ما أعلنته فصائل عراقية، مثل كتائب حزب الله، وحركة النجباء من استنفار رداً على زيارة أوستن إلى العراق، وتعهدها بالرد عليها. 

2- الضغط على إسرائيل: كثفت إسرائيل في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد كارثة الزلزال الذي ضرب سوريا من هجماتها التي تستهدف المنشآت والمواقع الإيرانية، أو التي تتمركز فيها قوات إيرانية في سوريا، ومنها استهداف مطار حلب مرتين في أقل من أسبوعين. 

وتمت هذه الضربات، على الأرجح، بضوء أخضر أمريكي، إذ تنظر واشنطن إلى هذه الضربات باعتبارها بديلاً عن التصعيد الشامل في مواجهة طهران، أو استهداف منشآت داخل إيران قد يرتب نتائج غير محسوبة. ولذلك قد تكون إيران هدفت من مهاجمة القواعد الأمريكية الضغط على واشنطن لدفع إسرائيل لوقف هجماتها التي تستهدف الوجود الإيراني في سوريا. 

3- اتفاقات التهدئة الإقليمية: أسهم الاتفاق الذي جرى توقيعه بين السعودية وإيران، في 10 مارس 2023، بوساطة صينية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في تهدئة التوتر بين الرياض وطهران، غير أنه كان له تداعيات سلبية، من وجهة النظر الإيرانية، خاصة في الملف السوري، إذ أنه يسهم في الانفتاح العربي على التعامل مع الحكومة السورية، خاصة بعد كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023، فضلاً عن الوساطة الروسية بين دمشق والرياض لاستعادة العلاقات. 

ولا تزال إيران تنظر بقلق لمثل هذا الانفتاح، نظراً لأنه قد يرتب في مرحلة تالية تدفقاً للاستثمارات الخليجية على سوريا، برعاية روسية، وهو ما سينتقص من النفوذ الإيراني، خاصة وأنها لا تزال مثقلة بالعقوبات الأمريكية. ولذلك رأت إيران، أنه قد يكون من المهم الضغط على الوجود الأمريكي لدفع الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا، خاصة في ظل الضغوط التي تُمارس من الداخل الأمريكي على إدارة الرئيس، جو بايدن، لسحب القوات من هناك، وذلك لفرض أمر واقع جديد في الميدان السوري تعزز فيه إيران نفوذها العسكري، كما أن مثل هذا الاستهداف قد يكون رسالة ضغط من إيران على الولايات المتحدة لدفع الأخيرة إلى وقف الهجمات الإسرائيلية التي تستهدفها.  

4- استثمار التحركات الروسية: تحركت روسيا للضغط على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا خلال الفترة الأخيرة. وكان من مظاهر ذلك ما أعلنه قائد القوات الجوية التابعة للقيادة المركزية الأمريكية، في 22 مارس، أن طائرات حربية روسية اخترقت المجال الجوي لقاعدة التنف الأمريكية نحو 25 مرة خلال شهر مارس، منتهكة اتفاقاً بين الجانبين لتنسيق العمل العسكري في سوريا منذ 4 سنوات، الأمر الذي يفسر بأنه تحرك روسي يهدف لتحقيق أقصى قدر من الضغط على الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، بما يدفع الولايات المتحدة، في النهاية، إلى الانسحاب، خاصة وأن القوات الأمريكية تتمركز بالقرب من حقول النفط والغاز السورية، وتقوم باستخراج النفط من هذه الحقول، والتي تقدر بحوالي 82% من إجمالي الإنتاج السوري من النفط، وفقاً لبعض التقديرات. 

وتتهم موسكو واشنطن بسرقة هذه الحقول. ولا شك أن انسحاب القوات الأمريكية من هناك سوف يساعد الحكومة السورية على مواجهة أزمة الطاقة الخانقة التي تتعرض لها، بما يساعد على استقرار الأوضاع في سوريا. ويبدو أن إيران قد استثمرت ذلك التحرك للضغط على الوجود الأمريكي أكثر، خاصة وأن الهجمات الإيرانية الأخيرة أدت إلى مقتل متعاقد مدني أمريكي وإصابة عدد من الجنود.

مسارات المواجهة المحتملة

يرتبط مسار التصعيد الراهن بين إيران والولايات المتحدة في سوريا بعاملين أساسيين، وهما كالتالي:

1- حسابات الداخل الأمريكي: ترى إيران أن تكثيف استهداف الوجود الأمريكي في سوريا وإيقاع قتلى ومصابين في صفوف القوات الأمريكية المتمركزة هناك، والبالغ عددها نحو 900 عنصر، قد يمثل عامل ضغط داخلي على الإدارة الأمريكية لفك الارتباط بالملف السوري، وسحب قواتها من هناك، والتي تتمركز بشكل أساسي بالقرب من حقول النفط والغاز في شرق البلاد. 

وأحدثت الضربات الأخيرة ردود فعل واسعة داخل الكونغرس، بشكل عده مشرعون أمريكيون تهاوناً من جانب إدارة الرئيس بايدن في ردع إيران، ولاسيّما مع ما أعلنه وزير الدفاع، لويد أوستن، خلال مثوله أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ يوم 28 مارس بأن إيران ووكلاءها شنّوا نحو 83 هجوماً على مواقع أمريكية في سوريا والعراق منذ تسلم جو بايدن الرئاسة، فيما ردت واشنطن في 4 مرات فقط. 

وبناءً على ذلك، تتزايد الضغوط على الإدارة الأمريكية لتحقيق أحد خيارين، وهما إما سحب القوات الأمريكية من سوريا، أو تكثيف الهجمات التي تستهدف إيران ووكلاءها لردعها عن مزيد من استهداف المصالح الأمريكية. وبينما أكد البيت الأبيض بقاء القوات الأمريكية في سوريا ارتباطاً بمكافحة داعش وحفظاً للأمن القومي الأمريكي، فإن الإدارة الأمريكية كذلك قد تراجعت عن توجيه ضربات إضافية ضد المليشيات المدعومة من إيران في سوريا حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية. 

وقد يؤدي ذلك إلى تزايد احتمالات ضغوط المشرعين الأمريكيين على إدارة بايدن للانسحاب، خاصة بعد تصويت مجلس الشيوخ بالأغلبية على إلغاء تفويض استخدام القوة العسكرية في العراق لعامي 1991 و2002، والذي يمثل رسالة من الكونغرس بأنه سيؤدي دوراً أكبر في تحديد إرسال، أو بقاء قوات أمريكية خارج الحدود.

2- الرغبة المشتركة في كبح التصعيد: بادرت إيران باستهداف القاعدة الأمريكية في "خراب الجير" بما فتح الباب للضربات اللاحقة بينها وبين واشنطن، كما أنها حذرت من خلال المركز الاستشاري الإيراني في سوريا، والمتحدث باسم مجلس الأمن القومي الإيراني، بأنها سترد على أي استهداف أمريكي لمواقعها وقواعدها الموجودة في سوريا بناءً على طلب الحكومة السورية وأن لها اليد الطولى هناك، غير أنها عادت ونفت من خلال المتحدث باسم الخارجية، ناصر كنعاني، صحة ما صدر عن المركز الاستشاري، وقال إن وزارة الخارجية أو السفارة الإيرانية في دمشق هي الوحيدة التي يمكنها إصدار بيانات رسمية بشأن المستشارين العسكريين لطهران وموقفهم من مكافحة الإرهاب في سوريا. 

ويشير ذلك إلى رغبة إيرانية في إبقاء التصعيد الأخير مع الولايات المتحدة ضمن حدوده التقليدية وعدم تطوره إلى مواجهة مفتوحة، فضلاً عن التجاوب مع ما أبدته الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية من عدم نسبة الهجمات التي استهدفت القواعد الأمريكية إلى إيران مباشرة، وإنما لجماعات مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، والذي يعبر كذلك عن رغبة أمريكية في عدم التصعيد الكامل مع إيران، بما أوضحه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بتصريحه بأن الولايات المتحدة لا تبحث عن صراع مع إيران، لكنها مستعدة للرد بقوة لحماية المواطنين الأمريكيين.

وفي الختام، يلاحظ أنه بناءً على عاملي الداخل الأمريكي والرغبة في تجنب التصعيد، ستتضح مسارات المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران في سوريا، ولكن يظل من المرجح أن تعمل إيران على استغلال ما تتعرض له الإدارة الأمريكية من ضغوط على المستويين الإقليمي والدولي وحالة وحدة المسارح العملياتية بين سوريا والعراق لتكثيف الضغط عليها لسحب قواتها من سوريا، ولكن بما لا يؤدي إلى انفلات التصعيد إلى مواجهة مفتوحة أو بانتقاله من سوريا إلى العراق ما سيوقع إيران في حرج مع الحكومة العراقية، خاصة وأن الإدارة الأمريكية على وقع الضغوط الداخلية قد تعمد إلى رد أكثر قوة على أي هجمات إيرانية أخرى، وخاصة إذا ما تسببت في سقوط قتلى ومصابين من الجانب الأمريكي.