أضرار متفاوتة:

مخاطر "تسليح الاقتصاد" في العام الثاني لحرب أوكرانيا

30 March 2023


لا يستطيع أحد أن يحصي خسائره بدقة من الحرب الروسية الأوكرانية بعد دخولها عامها الثاني، فقد تزامنت إرهاصات هذه الحرب مع بدء تعافي العالم من جائحة "كورونا"، حتى إن الكثير من أعراض الحرب الجارية لا يمكن فصلها عن تداعيات الإغلاق الطويل والركود الاستثنائي الذي واكب تفشي هذه الجائحة. وقد لجأ أطراف هذه الحرب إلى توظيف الأدوات المتاحة لكل منهم في مواجهة الآخر، وكان من بينها الأدوات الاقتصادية، سواء فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية المشددة المفروضة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها على روسيا، أو سلاح الطاقة الروسي في مواجهة الخصوم من الغرب.

خسائر اقتصادية:

تذكر دراسة ألمانية حديثة أن الحرب الروسية الأوكرانية كلفت الاقتصاد العالمي 1.3 تريليون دولار في عام 2022. وكانت أوروبا الأكثر تضرراً من الحرب، في ظل ما عانته من اضطراب الملاحة البحرية والجوية في مناطق حيوية للنشاط الاقتصادي. كما تعرضت أوروبا الشرقية إلى موجات كبيرة من اللاجئين الأوكران من شأنها أن تؤثر في السلام المجتمعي في عدد من دولها، خاصة أنها تأتي بالتزامن مع موجات اللجوء المستمرة من سوريا. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن بولندا وحدها قد استقبلت حتى تاريخ حديث ما يقرب من 10 ملايين لاجئ أوكراني، وهو عدد ضخم تم استقباله في عام واحد فقط منذ اندلاع الحرب.   

ووفقاً للبنك الدولي، تقلّص الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا بنسبة 35% في عام 2022. وقدّرت أكاديمية كييف للاقتصاد الأضرار بنحو 138 مليار دولار، بالإضافة إلى 34.1 مليار دولار خسائر القطاع الزراعي. ووفقاً لبيانات نشرتها وزارة المالية الروسية، فقد تراجع فائض الميزانية الروسية. ففي نهاية يونيو 2022، بلغ هذا الفائض 1.37 تريليون روبل (23 مليار دولار)، وبحلول نهاية أغسطس الماضي انخفض إلى 137 مليار روبل فقط (2.3 مليار دولار)، فضلاً عن 300 مليار دولار من احتياطي النقد الأجنبي تم تجميدها. هذا كله يُضاف إلى الخسائر الناتجة عن زيادة الإنفاق العسكري والتسليح، وامتداد العقوبات الاقتصادية لتطال العديد من الكيانات وبعض الأفراد الروس.

كما يُعد اضطراب سلاسل التوريد، وصدمات التضخم، والاتجاه نحو سياسات التشديد النقدي من قِبل البنوك الفدرالية والمركزية، من بعض تجليات الحرب الأوكرانية، ومن قبلها جائحة "كوفيد19". وقد استتبع ذلك تفجر أزمات الدين العام وخاصة الخارجي، على خلفية ارتفاع أسعار الفائدة والدولار الأقوى نسبياً، وتعالت معها صيحات قيادات مؤسستي "بريتون وودز" "البنك وصندوق النقد الدوليين" لإنقاذ الدول الغارقة في الديون من التشديد النقدي الذي قاده الفدرالي الأمريكي في محاولة منه لمحاصرة مستويات غير مسبوقة من التضخم منذ 40 عاماً.

وقد سقطت بعض قيادات الحكومات الكبرى ضحية للأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحرب الأوكرانية والجائحة، وكان أبرزهم ليز تراس التي استقالت من منصبها كرئيسة لحكومة بريطانيا، بسبب تخبّط حكومتها في التعامل مع أدوات السياسة المالية، ومنح إعفاءات ضريبية لا يمكن تمويلها من الموازنة العامة.

تسليح المدفوعات والطاقة:

أقدم المعسكر الغربي المؤيد لأوكرانيا على تسليح نظام المدفوعات "سويفت" في مواجهة التدخل العسكري الروسي، وامتدت العقوبات إلى بيلاروسيا بسبب تضامنها مع موسكو في حربها ضد أوكرانيا. ولم يتمكن نظام المدفوعات الروسي البديل "SPFS" من حل الأزمة، خاصة فيما يتعلق بتعاملات روسيا مع العالم الخارجي، حيث إن غالبية تعاملات التجارة العالمية تمر عبر نظام "سويفت". كذلك لا يمكن أن تصدر روسيا منتجات النفط ومشتقاته إلا عبر أنظمة الدفع المُعترف بها عالمياً، ولولا استثناء النفط والحبوب "أخيراً مع اتفاق الحبوب المدعوم أممياً ومن تركيا" من العقوبات لما تمكنت موسكو من تصدير غالبية منتجاتها، خاصة أن الشركاء التجاريين يخشون أن تطالهم يد العقوبات لو أنهم خرجوا عن الإجماع الغربي في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية. 

وتسليح نظم المدفوعات له أضرار كبيرة في الأجل الطويل، لأن الكثير من الدول والتجمعات مثل "بريكس" تسعى إلى التحرر من تلك الأنظمة المالية مستقبلاً، بل ومن سيطرة الدولار الأمريكي على التعاملات والاحتياطيات بالبنوك المركزية؛ خشية أن تتعرّض لعقوبات الحجب عن الأنظمة أو تجميد الأرصدة، كما حدث مع روسيا وإيران وغيرهما.

أما روسيا فلم تنجح في تسليح منتجات الطاقة، بل إن الغاز الطبيعي الروسي الذي كان يمثل 40% من إمدادات أوروبا لم يتسبب انقطاعه أو اضطراب إمداداته وتعمّد رفع أسعاره في "شتاء أوروبي قارس ومجهد"، على عكس التخطيط الروسي. إذ نجحت أوروبا، وخاصة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي "ألمانيا"، في تنويع مصادر الطاقة بعيداً عن الغاز الطبيعي الروسي، وتحديداً بعد ضرب خط "نورد ستريم 2" في البحر الأسود. صحيح أن النجاة الأوروبية من قبضة الغاز الروسي كانت بتكلفة مرتفعة، وجاءت على حساب أهداف التنمية المستدامة بشكل كبير، حيث تم إرجاء خطط وقف العمل بمحطات الطاقة الكهربائية العاملة بالفحم والذي كان مقرراً له هذا العام، بل إن إيقاف محطات توليد الكهرباء العاملة بالطاقة النووية كأحد أنواع المحطات الملوثة للبيئة، قد تم تأجيله أيضاً، حيث كان مخططاً أن يتم بشكل كامل بحلول العام 2030.

وتتعدد مخاطر تسليح الطاقة، حيث إنها سلاح عادة ما يمكن استخدامه لمرة واحدة فقط، بعدها ترتد سهامه إلى مصوّبه، لأن المستهدفين بهذا السلاح لن يظلوا خاضعين له حتى وإن بحثوا عن بدائل أخرى أعلى تكلفة. وكان هذا واضحاً من إصرار أوروبا على وضع سقف لأسعار الغاز الطبيعي الروسي، بعد شهور من الارتباك الذي انعكس على خلافات أوروبية تجاه التعامل مع العقوبات على موسكو، خاصة في مجال منتجات الطاقة. صحيح أن فكرة "السقوف السعرية" لم تكن ناجحة لاعتبارات عملية، لكنها كانت مؤشراً على ميل المركز التفاوضي لأوروبا الغربية نحو مزيد من القوة والرسوخ النسبي في مواجهة الدب الروسي.

ومرونة أوروبا الغربية في التعامل مع الطاقة، لم تقابلها مرونة من الجنوب النامي في التعاطي مع أزمة الحبوب والمواد الغذائية التي كانت كل من روسيا وأوكرانيا المصدر الآمن والرخيص لإمداداتها طوال سنوات. فيما استطاعت تركيا أن تخرج مستفيدة من الصراع الروسي الأوكراني؛ نظراً للدور المحوري الذي أدته في تمرير وتأمين اتفاق الحبوب عبر البوسفور بشروط ورقابة دولية، مما أدى إلى تحسّن الوضع الخاص بندرة القمح الذي ظل متراكماً بكميات كبيرة في ميناء أوديسا الأوكراني بما يزيد عن 20 مليون طن، وتسبب في تثبيط المزارعين عن الاستمرار في زراعة القمح للموسم التالي نتيجة للفشل في التصرف في المخزون الحبيس. وبالرغم من أن اتفاق الحبوب قد واجهته صعوبات في التنفيذ والتجديد أيضاً، ولاسيما بعد ادعاء الجانب الروسي أن الاتفاق لا يحقق له النفع المُتفق عليه سلفاً، بل ويروج إلى أن بعض الشحنات التي مرّت في البحر الأسود لم تحمل حبوباً فقط لكن حملت سلاحاً ومعدات؛ بيد أن الوساطة التركية تمكنت مجدداً من بث الحياة مرة أخرى في هذا الاتفاق.

الدور الصيني:

الصين بدورها كانت وما زالت رقماً مهماً في معادلة الحرب الأوكرانية، فقد اختارت بكين موقفاً محايداً عمدت إلى بلورته في عدد من المواقف والتصريحات، كان آخرها إعلانها في 24 فبراير 2023 مبادرة من 12 بنداً لتحقيق السلام في أوكرانيا وإنهاء الحرب. لكن تطلّع روسيا إلى مؤازرة الصين لها في بداية عملياتها العسكرية في أوكرانيا، كان واضحاً في تصريحات المسؤولين الروس، ولو أن الرهان الروسي على دعم الصين جاء في محله، لتبدّلت موازين القوى، ولأقدمت بكين على تعويض موسكو عن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الغربية، فضلاً عن الدعم اللوجستي والعسكري الذي أكدت الولايات المتحدة أخيراً عبر تصريحات لوزير خارجيتها، أنتوني بلينكن، أنه لن يكون مقبولاً. وفي الواقع، حافظت الصين على مسافة متوازنة لحد ما بين طرفي الحرب، ولم ترد أن تخسر مصالحها مع الغرب المُتقدم، مع محاولة تحقيق مكاسب استراتيجية من خلال اللعب بورقة تايوان والسعي إلى ترسيخ مبدأ "صين موحّدة"، الذي تفرضه كشرط وحيد في مختلف تفاهماتها الدولية ومساعداتها المشروطة للدول النامية والناشئة.

كذلك ظلت هناك تأثيرات محدودة لمحاولات التبادل التجاري بين مجموعة دول "بريكس" باستخدام العملات المحلية لدول التجمّع بهدف تقليل الاعتماد على الدولار الامريكي. وربما ذلك مرده إلى أن الهند، إحدى أهم دول هذا التجمّع، لا تريد أن تغضب الولايات المتحدة أو تخسر تحالفها الاستراتيجي معها تحت أي ظرف. كذلك ما زال الدولار الأمريكي مُهيمناً على 80% من حركة التجارة العالمية، ويُعد الإضرار بقيمته بمثابة إضرار مباشر بقيمة احتياطي النقد الأجنبي لدى معظم دول "بريكس" ذاتها وفي مقدمتها الصين.

مستقبل الحرب:

تسيطر القوات الروسية على نحو 20% من أوكرانيا، لكن الجانب الأوكراني يؤكد أنه تمت استعادة 40% من أراضيه. ويُعتقد أن قاذفات "هيمارس" الصاروخية الأمريكية التي يبلغ مداها 80 كيلومتراً، أسهمت في التقدّم الميداني الذي سجلته القوات الأوكرانية في الخريف، وفي استعادتها مساحات شاسعة من أراضيها في مناطق خاركيف في الشمال الشرقي، وخيرسون في الجنوب. وفي نوفمبر 2022، قدّر معهد البحوث الألماني "كيل" قيمة المعدات العسكرية التي وعد شركاء أوكرانيا بتقديمها لها بنحو 37.9 مليار يورو.

وما زالت روسيا متمسكة بخوض حربها حتى تحقق مكاسب حاسمة على الأرض، حتى لا تخسر مكانتها الدولية، وسيطرتها على دول الاتحاد السوفيتي السابق، حتى ولو اضطرت إلى استخدام أسلحة نووية تكتيكية، خاصة مع استمرار تسليح الغرب لكييف.  

ختاماً، من المتوقع أن يستمر الاقتصاد في التأثير والتأثر بمجريات الحرب الروسية الأوكرانية خلال عامها الثاني، مع تفاوت التداعيات الناجمة عن ذلك للأطراف كافة. كما أنه من المُحتمل أن يتجاوز مدى هذه الحرب الطابع الإقليمي، لترسم خطوطاً عريضة لنظام عالمي جديد، ينشأ على أُسس مبتكرة وتوازن بين عدة قوى دولية، وينزع عن الأمم المتحدة ومختلف أذرعها "ورقة التوت الأخيرة"، خاصة وقد سمعنا لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عن نيات ألمانية ويابانية للتسلّح وتقوية جيشيهما لحماية مصالحهما.