المحددان الكردي والإيراني في التقارب السوري - التركي

09 January 2023


في عام 1848، تحدث رئيس وزراء بريطانيا الراحل، اللورد هنري بالمرستون، أمام البرلمان وقال عبارته الشهيرة: "ليس لدينا حلفاء أبديون، وليس لدينا أعداء دائمون، بل مصالح أبدية ودائمة، وتلك المصالح من واجبنا اتباعها". ولطالما عمل ساسة العالم وفق هذه المقولة المأثورة، التي تفسر اللقاء الذي عُقد في موسكو بين وزراء دفاع روسيا، سيرغي شويغو، وتركيا، خلوصي أكار، وسويا، علي محمود عباس، يوم 28 ديسمبر 2022. 

والمتابعون لتعقيدات الملف السوري لم يستغربوا هذا اللقاء؛ نظراً للتمهيد الذي سبقه من الجانب التركي، وتصريح الرئيس رجب طيب أردوغان في منتصف الشهر الماضي بأنه يرغب في لقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، بعد قطيعة دامت نحو 12 عاماً. وقبلها كان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قد صرح في أغسطس 2022 بأنه التقى نظيره السوري، فيصل المقداد، بشكل سريع، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في بلجراد في أكتوبر 2021، وهو ما مهد طبعاً للقاء وزراء الدفاع الأخير في موسكو.

العدو المشترك:

ذهب السوريون على مضد إلى موسكو، نزولاً على رغبة الرئيس فلاديمير بوتين، ولو تُرك الأمر لهم لما عُقد أي لقاء مع الجانب التركي قبل الانسحاب من جرابلس والباب وإعزاز، الذين سيطرت عليهم تركيا في عام 2016، وكذلك عفرين التي سقطت تحت سيطرة تركيا في عام 2018. وقبل لقاء موسكو الأخير، كان الجانبان السوري والتركي قد وضعا سلسلة مطالب وشروط، أبرزها بالنسبة للسوريين التعهد بالانسحاب من جميع القرى والبلدات المُحتلة، والتي تقول أنقرة إنها مستعدة للتخلي عنها، شرط القضاء على التنظيمات الكردية في شرق الفرات وبسط سلطة الحكومة السورية عليها. 

وفي الوقت الراهن يجمع بين دمشق وأنقرة عدو مشترك، هو حزب العمال الكردستاني والتنظيمات التابعة له في سوريا، من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ومجلس سوريا الديمقراطي (مسد)، وصولاً إلى وحدات حماية الشعب الكردي. ولذا لا تعارض دمشق الشرط التركي بشأن القضاء على التنظيمات الكردية، وتعتبر أن جميع هذه الفصائل الكردية خارجة عن القانون ومغتصبة للأرض ولحقول النفط السورية، وما كانت أن تصل إلى كل هذه المكاسب لولا الدعم العسكري الذي تلقته من الولايات المتحدة الأمريكية. وكان الرئيس الأسد قد وصف هذه الفصائل المدعومة من واشنطن بـ "الخونة"، مؤكداً أنه "لا يوجد شيء اسمه القضية الكردية في سوريا". 

بناء الثقة:

نحن اليوم أمام مرحلة بناء ثقة بين أنقرة ودمشق، وفي انتظار الطرف الذي سيُقدم على الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. منطقياً، من المفترض أن تتولى تركيا مهمة تفكيك مكونات "الدولة الكردية،" وتكون مهمة دمشق الجلوس معهم إلى طاولة المفاوضات. فالجيش السوري وحده لا يمكنه القضاء على الفضائل الكردية، نظراً لوجود قوات أمريكية حولهم، وسيتوجب على تركيا إما الهجوم بمفردها أو تحييد القوات الأمريكية المجاورة لكي يتمكن السوريون من التقدم عسكرياً. خلال هذه التحضيرات، يجب إيجاد قناة تواصل مباشرة بين البلدين وفتح سفارات مع زيارات أمنية وعسكرية، تمهيداً للقاء الأسد وأردوغان، الذي من المتوقع أن يتم قبل الانتخابات التركية المقبلة خلال النصف الأول من العام الجاري. 

المؤكد أنه وبسبب التنسيق السوري – التركي، لن يأخذ الأكراد أي تنازلات من السوريين، لا حقوق إدارية، ولا سلاح خفيف في مناطقهم، ولن يتم تدريس اللغة الكردية في مدارسهم، وبالطبع لن تبقى تنظيماتهم العسكرية، فكل ما كان مطروحاً قبل التقارب السوري – التركي بات اليوم غير مطروح على طاولة التفاوض. 

ومن غير المرجح أن تنتهي المسألة الكردية بشكل سريع، وهو ما يفتح الباب أمام الحديث عن إمكانية هل يتم إحياء "اتفاق أضنة" المُبرم بين سوريا وتركيا في عام 1998 والمتوقف منذ عام 2012، والذي كان يجيز لتركيا الدخول إلى الأراضي السورية بعمق 5 كيلومترات لملاحقة الانفصاليين الأكراد بعد أخذ موافقة الجانب السوري، وشريطة الخروج السريع فور تحقيق هدفهم العسكري. قبل سنوات، طرح الرئيس بوتين إمكانية العودة إلى "اتفاق أضنة"، ولم يمانع أي من الطرفين السوري والتركي، لكن الأتراك يطالبون اليوم بما لا يقل عن 35 كيلومتراً في عمق الأراضي السورية، وهو ما ترفضه دمشق بشكل مطلق. ويمكن لموسكو أن تسعى للتوصل إلى حل وسط، بحيث تصبح المساحة 10 كيلومترات مثلاً، وهو ما قد تقبله دمشق شرط أن تكون هذه المنطقة منزوعة السلاح خالية من أي وجود عسكري تركي. وسيحتاج ذلك إلى مفاوضات جديدة واتفاق جديد، وقد يكون الحل نشر قوات مشتركة سورية – روسية على الشريط الحدودي، لطمأنة أردوغان وضمان عدم اقتراب الفصائل الكردية مستقبلاً من حدوده.    

خيارات متاحة:

الاتفاق مع تركيا ربما يكون مؤلماً بالنسبة لدمشق، ولكنه يبقى "أهون الخيارات"؛ نظراً لحاجة السوريين الماسة إلى استعادة حقول النفط من الأكراد، بسبب أزمة المحروقات الخانقة التي تعيشها سوريا حالياً. 

أما عن بقية الخيارات، فهي تتراوح بين التنازل للغرب في العملية السياسية، وهو ما ترفضه دمشق بشدّة، أو أن تفك ارتباطها مع إيران وحزب الله، وهو أيضاً مرفوض. فقد تكون سوريا مستاءة من تأخر طهران في إرسال مشتقات نفطية إليها، وقد يكون الإيرانيون قد تجاوزوا في مطالبهم من سوريا، وفقاً لما نُشر مؤخراً عن وجود ضغوط إيرانية لانتزاع "تنازلات سيادية" من دمشق، مثل رغبة إيران في الحصول على قواعد عسكرية ثابتة على البحر المتوسط، وأن يُعامل الإيرانيون في المستشفيات والمؤسسات العلمية وغير ذلك كما يُعامل السوريون. وفي حال ارتكب إيرانيون جريمة، فإنهم يُحاكمون أمام القضاء الإيراني وليس القضاء السوري. بيد أن هذه الخلافات قد لا تعني أن العلاقات الإيرانية – السورية في طريقها إلى التراجع. 

أدوار مستقبلية:

قبيل الحرب، كان الاعتقاد السائد لدى معظم الدول هو أن السوريين هم الأكثر اعتدالاً فيما كان يُسمى حينها بـ "محور المقاومة"، والأكثر قدرة على التأثير سواء على حزب الله أو على إيران. فقد نجحت دمشق، مثلاً، في إقناع حلفائها بقبول مراقبين دوليين في لبنان عام 1996 بعد عملية "عناقيد الغضب" (ما عُرف يومها بتفاهم نيسان)، وانتزاع قبول من حركة حماس لمبادرة السلام التي أعلنها العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز في قمة بيروت عام 2002. وفي عام 2006، نجحت سوريا في إقناع حزب الله اللبناني بقبول قرار مجلس الأمن رقم 1701، أو بالأصح عدم معارضته، وهو تعلق بوقف الحرب في لبنان آنذاك. وبعدها بسنة، لعبت دمشق دور الوسيط في إطلاق سراح البحارة البريطانيين المحتجزين في إيران. ومن ثم، فإن الحفاظ على وجود علاقات بين سوريا وإيران، من وجهة نظر البعض، ربما يثمر مستقبلاً، مثلاً، عن إقناع حزب الله بضرورة قبول رئيس جمهورية حيادي في لبنان، خلفاً للرئيس ميشال عون. 

وتريد إيران، بدورها، قطف ثمار تدخلها العسكري في سوريا، لكنها تدرك أنها لا تستطيع أخذ موقع عسكري دائم في البلاد كما فعلت روسيا، أو منطقة آمنة في الأراضي السورية، كما يسعى الأتراك، وبذلك ستكون حصتها في مستقبل سوريا، على الأرجح، محصورة في المجالين السياسي والاقتصادي فقط.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه بسبب الحاجز اللغوي والعرقي المذهبي، لم تتمكن إيران من كسب حاضنة شعبية في سوريا، وبغيابها، يستحيل تحويل سوريا إلى قاعدة إيرانية. وربما ترغب إيران اليوم في طيّ صفحة الخلاف السوري – التركي؛ أملاً في إيجاد محور جديد في المنطقة للوقوف في وجه الولايات المتحدة، بحيث يكون مؤلفاً من روسيا وإيران وتركيا وسوريا. ولهذا السبب عرضت الواسطة بين دمشق وأنقرة، ولكن السوريين فضلوا أن تكون الوساطة في يد الرئيس بوتين حصراً.

الخلاصة أن مستقبل العلاقات التركية - السورية مرهون بتحقيق مصالح الطرفين فيما يتعلق بالمسألة الكردية. وعلى الرغم من الاتفاق في وجهات نظر الطرفين بهذا الشأن، تبقى أمور أخرى عالقة بينهما، أهمها مصير الفصائل السورية المسلحة التي تعتمد على الدعم التركي، ومدى إمكانية أن تدخل في عمليات مصالحة كتلك التي حدثت في غوطة دمشق وجنوب سوريا، بالإضافة إلى مصير اللاجئين السوريين في تركيا، هل سيتم ترحيلهم بالقوة أم تُقام لهم وحدات سكنية ممولة من قِبل الجانب التركي لاستيعابهم داخل سوريا؟ وهو ما تحدث عنه أردوغان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر الماضي، فالرئيس التركي لا يمكنه الإبقاء على اللاجئين في أراضيه نظراً لتزايد الحملات العنصرية ضدهم، ومطالبة الأحزاب التركية المعارضة بترحيلهم لأنهم، وبحسب تعبير تلك الأحزاب، مسؤولون عن أزمات تركيا المعيشية والاقتصادية.