تحولات لافتة:

تكريس النفوذ الصيني في منطقة القرن الأفريقي

07 February 2022


في يناير 2022، أعلن وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، تعيين مبعوث خاص لتعزيز "الاستقرار الدائم والسلام والازدهار" في القرن الأفريقي، حيث تشهد المنطقة صراعات إقليمية وحروباً أهلية، وذلك خلال جولته في إريتريا وكينيا وجزر القمر خلال الفترة من 4 وحتى 7 يناير 2022، والتي تأتي في إطار التقليد الدبلوماسي الصيني الممتد لأكثر من 32 عاماً، حيث يتوجه وزراء خارجية الصين إلى أفريقيا في أولى زياراتهم الخارجية في بداية كل عام. 

دوافع تعيين المبعوث الصيني: 

تعددت دوافع تعيين المبعوث الصيني لمنطقة القرن الأفريقي ما بين دوافع سياسية واستراتيجية، واقتصادية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- منافسة النفوذ الغربي بالمنطقة: لا تعتمد الصين في تقديم مساعداتها الاقتصادية للدول الأفريقية على مبدأ المشروطية السياسية على عكس الدول الغربية التي طالما تقوم بربط معوناتها الاقتصادية بمدى تحقيق الديمقراطية، أو الإيفاء بمطالب سياسية معينة. 

وفي حين كانت الولايات المتحدة تقوم بفرض العقوبات على الحكومات في منطقة القرن الأفريقي لأسباب تتعلق بسياستها الداخلية، كانت الصين ترفض ذلك عبر تأكيدها عدم تدخلها في الشؤون الداخلية لهذه الدول، بل كانت تسعى لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع دولها على غرار ضم الصين أريتريا للاستراتيجية الصينية العالمية للاستثمار في نوفمبر 2021، كما أعلن الرئيسان الصيني، شي جين بينج، والإريتري، أسياس أفورقي، "الارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى شراكة استراتيجية". 

ولذا يمكن النظر إلى القرار بتعيين مبعوث صيني للقرن الأفريقي بأنه محاولة للتنافس مع نفوذ الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، التي تعثرت جهودها الدبلوماسية مؤخراً لإنهاء الحرب الأهلية في إثيوبيا، وحماية الانتقال الديمقراطي في السودان إلى حد كبير. 

ويلاحظ أنه بالتزامن مع إعلان الصين تعيين مبعوثها الجديد في يناير 2022، عينّت واشنطن مبعوثاً أمريكياً جديداً، وهو "ديفيد ساترفيلد"، والذي يسعى جاهداً بالتعاون مع مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، مولي فيي، التوصل إلى حلول للأزمات السياسية التي تشهدها السودان وإثيوبيا من خلال زيارات متكررة للمبعوث الأمريكي لهذه الدول وتوظيف أداة العقوبات الاقتصادية. 

وفي إطار إدراك الولايات المتحدة لخطورة تنامي النفوذ الصيني في القارة الأفريقية، أعلن الرئيس الأمريكي اعتزامه عقد قمة أمريكية – أفريقية. ولا تنظر الولايات المتحدة وحدها إلى تصاعد الدور الصيني في القارة الأفريقية بقلق، إذ تشاطرها باريس نفس الهواجس، وهو التطور الذي سعت باريس لمواجهته عبر تأكيد علاقاتها بالدول الأفريقية. وكانت أحد مؤشرات ذلك انعقاد مؤتمر القمة الأفريقي – الفرنسي الجديد في أكتوبر 2021.

2- الأهمية الاستراتيجية للقرن الأفريقي: يقع القرن الأفريقي على طريق الشحن الرئيسي لنقل النفط من الخليج العربي إلى أوروبا والولايات المتحدة. وتعتبر واحدة من أكثر المناطق أهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم. 

كما أن المنطقة مليئة بالأنهار والبحيرات والغابات والثروات الحيوانية، ولديها رواسب غنية غير مستغلة من الموارد الطبيعية، بما في ذلك الذهب والنفط والغاز الطبيعي وما إلى ذلك. وانطلاقاً مما سبق، تُعتبر منطقة القرن الأفريقي هي البوابة التي تشهد مرور التجارة الصينية من البر الصيني باتجاه أوروبا. وهذا ما يفسر وجود قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي لتمثل نقطة ارتكاز للقوات البحرية الصينية لتأمين تجارتها التي تمر بالمنطقة. 

3- حماية الاستثمارات الصينية: تُعد بكين الشريك الاقتصادي الأكبر والمستثمر الأول في منطقة القرن الأفريقي، وذلك من خلال توجيه الاستثمارات وإقامة المشروعات في هذه المنطقة، فضلاً عن تقديم المساعدات والقروض إلى دول القارة. 

ويتمثل السبب الأكبر وراء تعيين مبعوث جديد لأفريقيا هو حماية الاستثمارات الصينية في القرن الأفريقي، خاصة في ضوء تصاعد أعمال العنف بالمنطقة وتهديده المحتمل للاستثمارات الصينية. وتجدر الإشارة إلى أن الصين لا تزال أكبر مقرض للكثير من الدول في منطقة جنوب الصحراء، حيث تمثل القروض الصينية حوالي خمس إجمالي القروض. فقد بلغ الإقراض الصيني السنوي ذروته عند 29.5 مليار دولار في عام 2016، وفقاً لأرقام مبادرة أبحاث الصين وأفريقيا بجامعة جونز هوبكنز، على الرغم من تراجعها في عام 2019 إلى 7.6 مليار دولار. 

وتعتبر إثيوبيا من أكبر المتلقين للقروض والاستثمارات الصينية، والذي يشمل تمويل خط سكة حديد من أديس أبابا إلى جيبوتي، والذي يشهد مرور 95% من الواردات الإثيوبية، بالإضافة إلى توسيع مطار أديس أبابا. كما قامت الصين بتمويل المشروعات التنموية في جيبوتي، والتي تُقدر قيمتها بحوالي 16.6 مليون دولار، وتستثمر الصين بصورة رئيسية في قطاعي البنية التحتية والطاقة في منطقة القرن الأفريقي.

محددات دور بكين الأفريقي:

هناك عدد من المحددات السياسية والاقتصادية والتي تُسهم بشكل أساسي في التأثير على الدور الصيني المتوقع بمنطقة القرن الأفريقي، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- لعب أدوار خارجية نشطة: تعلن بكين استعدادها للعب دور بناء في جهود دول منطقة القرن الأفريقي لتحقيق السلام والأمن في المنطقة، وذلك بهدف إطلاق العنان لإمكانات التنمية وتحسين الحكم. ولا يزال من غير الواضح ما هو التأثير الذي ستمارسه بكين من الناحية العملية، وما إذا كان المبعوث الجديد سيلعب دوراً في محادثات السلام بتلك الدول أم لا. وفي حالة إقدام بكين على ذلك، فإن هذا سيمثل تحولاً لافتاً في سياستها، خاصة أنها كانت تعمد إلى تجنب التدخل في الصراعات السياسية، وتركز على مصالحها الاقتصادية.  

وعلى الجانب الآخر، فسر بعض المحللين تعهد الصين بتعيين مبعوث سلام للقرن الأفريقي على أنه ابتعاد "رسمي" عن موقفها التقليدي المتمثل في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ومؤشراً على اتجاهها للعب دور نشط على الساحة الدولية، سياسياً واقتصادياً، وربما عسكرياً في مرحلة تالية.

ويلاحظ أن السياسة الصينية قد شهدت تحولاً مع تولي الرئيس "شي جين بينج" الحكم في عام 2012، إذ اتجهت الدولة الصينية لتخفيف من سياسة عدم التدخل التي التزمت بها رسمياً لأكثر من 60 عاماً، حيث أقامت بكين في عهد شي جين بينج، أول قاعدة بحرية خارجية لها في جيبوتي بقوام حوالي 10 آلاف جندي، كما أقرت قانوناً يسمح بتمركز قواتها في الخارج. كما سبق أن لعبت بكين دوراً بارزاً في جهود الوساطة على غرار النزاع في جنوب السودان.

2- إقامة علاقات اقتصادية تتسم بالاستدامة: تسعى بكين من خلال تعيين مبعوث خاص للقرن الأفريقي إلى نفي الادعاءات الغربية بشأن تبني الصين سياسة "فخ الديون" تجاه الدول الأفريقية، حيث تزعم التحليلات الغربية  أن الصين تسعى لتقديم قروض ضخمة لدول القارة، والتي بدورها تعجز عن سدادها، لذلك تضطر الدول الأفريقية في نهاية الأمر للتنازل عن عدد  من أصولها لصالح الصين.

وذكرت وسائل الإعلام المحلية الأوغندية العام الماضي أن الحكومة الأوغندية تسعى لتعديل اتفاقية قرض صيني لتجنب فقدان السيطرة على المطار الدولي الوحيد في البلاد، وهو ما وصفته بكين بأنه ادعاءات "مختلقة".

وأشار بعض المحللين إلى أن هذه الانتقادات قد أسهمت بشكل غير مباشر في انخفاض تعهدات  الصين المالية لأفريقيا للمرة الأولى منذ أكثر من عقد، لتبلغ قيمتها حوالي 40 مليار دولار، وذلك خلال منتدى التعاون الصيني – الأفريقي الأخير، وهو ما يقل بحوالي 33% عن التعهدات المالية خلال ذات القمة في عام 2018. 

وجاء ذلك الانخفاض في حجم الأموال الصينية الموجهة لأفريقيا ليمثل تطوراً غير مسبوق، لاسيما أن الصين طالما كانت تضاعف التزاماتها المالية تجاه القارة كل ثلاث سنوات منذ عام 2006 عبر المنتدى السابقة الإشارة إليه، وهو الأداة الرئيسية لبكين لإدارة علاقتها مع القارة. 

والجدير بالذكر أن الصين في العقد الماضي برزت كأكبر دائن دولي غير تجاري في العالم، حيث قدمت البنوك المملوكة للدولة الصينية قروضاً للدول النامية أكثر مما يقرضه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وتجدر الإشارة إلى أن انخفاض القروض الصينية المقدمة قد صاحبها إعلان بكين أنها سوف تزيد من حجم وارداتها من الدول الأفريقية، وهو ما تبلور خلال المنتدى التعاون الصين – الأفريقي الأخير، إذ أعلنت الحكومة الصينية عن زيادة وارداتها من أفريقيا إلى إجمالي 300 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، بعد أن بلغت فقط 72.7 مليار دولار عام 2020. 

ويكشف هذا الإعلان عن حرص الصين على نقل صورة عنها بأنها تسعى لإقامة علاقات اقتصادية مربحة للطرفين، وأنها تسعى لتحقيق التوازن التجاري مع أفريقيا. فالجدير بالإشارة إلى أن العجز التجاري بين الصين وأفريقيا قد ارتفع في عام 2020 بنسبة 243%، مع تسجيل الصادرات الصينية قيمة تصل إلى 114.2 مليار دولار، في حين بلغت قيمة الواردات الصينية حوالي 72.7 مليار دولار. 

وفي التقدير، يمكن القول إن إخفاق الدول الغربية في التعامل مع الأزمات المتتالية بمنطقة القرن الأفريقية، وقلق بكين من انعكاس هذه الصراعات على مصالحها الاقتصادية، قد مثّل فرصة سانحة أمام بكين لكي تبدأ في لعب دور سياسي نشط، يضاف إلى دورها الاقتصادي الواسع في القارة الأفريقية، وهو ما يعني أن النفوذ الغربي عامة، والأمريكي خاصة، سوف يشهد تراجعاً نسبياً، خاصة أن الصين يمكن أن تقدم متنفساً للدول، التي تعاني سياسة العقوبات الأمريكية، خاصة أريتريا والسودان.