استعادة التفاهمات :

إنهاء معاهدة كيرينالي للخلافات الفرنسية – الإيطالية

08 December 2021


بعد سنوات من التوترات الدبلوماسية بين فرنسا وإيطاليا، أبرمت البلدان في 26 نوفمبر الماضي اتفاقية صداقة وتعاون تاريخية، أطلق عليها "معاهدة التعاون الفرنسي – الإيطالي المعزز" (French-Italian Enhanced Cooperation Treaty). وتهدف المعاهدة إلى إنهاء الخلافات الثنائية، التي وصلت ذروتها في عام 2019، وكانت مستترة العامين التاليين. 

توتر العلاقات الثنائية

وقع أسوأ خلاف دبلوماسي بين البلدين منذ الحرب العالمية الثانية في فبراير 2019؛ حينما التقى نائب رئيس الوزراء الإيطالي، لويجي دي مايو، بقادة حركة "السترات الصفراء" الفرنسية، والتي كانت تناهض سياسات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في عام 2018. وتسبب هذا اللقاء في تنامي الاستياء الفرنسي من روما، وأسفر عن استدعاء سفيرها في إيطاليا للتشاور.

ولم يحد الغضب الفرنسي من تصريحات دي مايو، بل تمادى في تأكيده أنه ليس نادماً على اللقاء مع قادة الحركة الاحتجاجية الشعبية الفرنسية، مؤكداً أن لديه الحق في الحوار مع القوى السياسية الأخرى التي تمثل الشعب الفرنسي. ويبدو أن وصول الشعوبيين، وتحديداً حركة النجوم الخمس والرابطة، إلى حكم إيطاليا عام 2018 أدى إلى تصدع في العلاقات بين البلدين، ويرجع ذلك إلى أربعة أسباب رئيسية، وهي: 

1- تباين الأيديولوجيات السياسية: كانت وجهات النظر متباعدة بين حكومة ماكرون، والتي تؤيد سياسات الاتحاد الأوروبي، والحكومة الإيطالية اليمينية الشعبوية، والتي صدرت فكرة مفادها أن الاتحاد الأوروبي، هو المسؤول الرئيس عن سياسات التقشف الاقتصادية القاسية التي يعانيها الشعب الإيطالي. 

وهكذا، بات من الواضح أن قيادات اليمين في إيطاليا والرئيس الفرنسي كانوا يقفون على طرفي نقيض، فبينما يسعى ماكرون إلى إقامة جيش أوروبي موحد ووضع سياسات اقتصادية نيو-ليبرالية، كانت الحكومة الإيطالية تؤمن بالمفاهيم القومية المناهضة لفكرة الاتحاد الأوروبي. 

2- تصاعد الخلاف حول ملف الهجرة: اندلعت حرب كلامية بين البلدين بالتزامن مع وصول الحكومة اليمينية الشعبوية إلى السلطة في إيطاليا في يونيو 2018، بعد أن رفضت روما استقبال سفينة تجوب البحر الأبيض المتوسط وعلى متنها أكثر من 600 مهاجر، الأمر الذي جعل فرنسا تندد بموقف روما، وتصف هذا الموقف بــ "المعيب وغير المسؤول". 

وبالمثل، ردت الحكومة الإيطالية بأنها لا يمكن أن تقبل دروساً منافقة من دولة فضلت غض النظر عن تحملها المسؤولية الدولية تجاه مشكلة الهجرة، وخلال هذه الجدالات تم التلويح بإلغاء لقاء رئيس الحكومة الإيطالية، جوزيبي كونتي، مع الرئيس الفرنسي ماكرون، ولم تنتهِ الأزمة سوى بعد قبول إسبانيا استقبال السفينة. وفي سياق آخر، كان دي مايو يتهم فرنسا دائماً بأنها المسؤولة عن ترسيخ الفقر في أفريقيا، والتسبب في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا.  

3- تعارض مصالح البلدان في ليبيا: مثّل الخلاف بين روما وباريس حول ليبيا القطرة التي أفاضت كأس الخلافات بين باريس وروما وفتحت الباب أمام حزمة من الملفات العالقة بين البلدين. ويرجع ذلك إلى إدراك إيطاليا أن فرنسا تريد مزاحمتها في ليبيا، والتي كانت بمنزلة الظهير الاستراتيجي لروما، ومجال نفوذها الأفريقي الأول، وسوق واسعة لصادراتها وشركاتها في مجال الطاقة، وعلى رأسهم إيني الإيطالية. 

وتنافس البلدان بشكل واضح في ليبيا، إذ إنه بينما تدعم روما حكومة الوفاق في الغرب، كانت فرنسا، تؤيد اللواء خليفة حفتر في الشرق، وتنظر بأهمية لمنطقتي شرق ليبيا والهلال النفطي باعتبارهما مكسباً يمكن استثماره لصالح شركة توتال الفرنسية. وهكذا، وجدت إيطاليا وفرنسا نفسيهما تدعمان طرفين متعارضين في حرب أهلية على أعتاب أوروبا. 

4- امتداد الخلاف للمغرب العربي: تفاقمت الخلافات الدبلوماسية بين فرنسا والجزائر بسبب انتقادات ماكرون المستمرة للحكومة الجزائرية، وتشكيكه في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. وقابل ذلك تقارب إيطالي – جزائري، والذي توج بزيارة الرئيس الإيطالي للجزائر في مطلع نوفمبر الماضي، إذ وصف المحللون هذه الزيارة بأنها محاولة من روما لطرح نفسها كبديل عن فرنسا. 

كما كان من الواضح أن إيطاليا تؤيد ضمنياً جبهة البوليساريو، نظراً لتقاربها مع الجزائر، بينما تدعم فرنسا ضمنياً الطرح المغربي في قضية الصحراء الغربية، من دون أن تنجرف، مثل الولايات المتحدة، في الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، حتى لا تتضرر المصالح الفرنسية مع الجزائر، والتي تراجعت خلال العامين الأخيرين، لصالح منافسين وخصوم، مثل تركيا والصين وإيطاليا.

دوافع تعزيز العلاقات 

مع تولي ماريو دراجي، رئاسة الحكومة الإيطالية في فبراير 2021، اتفق مع ماكرون على ضرورة رأب صدع العلاقات المتوترة بين البلدين. وعلى الرغم من أن حكومة دراجي لا تزال تضم النجوم الخمس والرابطة، فإنهما أصبحا أضعف من السابق، وبالتالي، تراجع تأثيرهم المناهض لفرنسا. 

وعلى هذا النحو، جاءت المعاهدة لتكون على غرار معاهدة الإليزيه بين فرنسا وألمانيا التي تعود لعام 1963، والتي شكلت العمود الفقري للعلاقات عبر نهر الراين منذ ذلك الحين، وبالمثل، فإن معاهدة "كيرينالي" ستكون أساس تطوير العلاقة بين البلدين في المجالات المختلفة، ويمكن تلخيص عدد من الأسباب وراء حاجة البلدين لإبرام هذه الاتفاقية:

1- التحسب للتطورات الأوروبية: تأتي الاتفاقية في وقت حرج سياسياً، في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن انتهاء حقبة ميركل التي استمرت مهيمنة على السياسة الأوروبية، مما يفتح الطريق لتحالفات جديدة، وهو ما دفع إلى تعزيز العلاقات بين البلدين، منعاً لحدوث انقسامات أوروبية إضافية، خاصة أن سياسات دراجي بشأن أوروبا تتوافق مع تطلعات ماكرون.

2- دعم فرنسا في مواجهة لندن: تسعى باريس لتعزيز موقفها أوروبياً في ضوء مشاكلها الحادة مع بريطانيا، خاصة أن الأخيرة شنّت حملة انتقادات عنيفة ضدّ الرئيس الفرنسيّ، متّهمة إيّاه باستخدام المهاجرين للضغط على بريطانيا تماماً كما يفعل الرئيس البيلاروسيّ، ألكسندر لوكاشينكو، على الحدود مع بولندا، وبالتالي يريد الفرنسيون أن يحصلوا على دعم روما في مواجهة لندن. 

3- التحوط الفرنسي من سياسة ألمانيا الجديدة: كانت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، المنتهية ولايتها دائماً تقاوم مشاريع ماكرون الداعية إلى الاستقلالية الأوروبية، غير إن رحيلها يجعل فرنسا تواجه حالة من اللايقين بشأن العلاقات المترقبة بين باريس وبرلين، نظراً لأن كل حزب في الحكومة الائتلافية الألمانية الجديدة يتبنى مبدأ ما يقلق فرنسا، سواء كان ذلك بسبب السياسة الدفاعية الضعيفة للاشتراكيين الديمقراطيين، أو التقشف الاقتصادي للديمقراطيين الأحرار، أو المعارضة الشرسة لكل القضايا النووية للخضر. وبالتالي، فإن هذه المعاهدة بمنزلة نوع من التحوط الاستراتيجي لفرنسا نتيجة قلقها بشأن موقف ألمانيا وعلاقاتها بالاتحاد الأوروبي. 

إعادة تشكيل الخريطة الأوروبية 

من المتوقع أن يكون لهذه الاتفاقية عدد من الانعكاسات الإقليمية، التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي: 

1- انتقال مركز التأثير للجنوب الأوروبي: يرى المحللون أن اتفاقية كيرينالي ستنقل مركز التأثير في أوروبا نحو الجنوب الأوروبي، وربما ستعزز من التفاهمات، ليس فقط بين إيطاليا وفرنسا، ولكن ربما ستفيد اليونان وإسبانيا وقبرص ومالطا. 

ومن ناحية أخرى، ستنقل السياسة الإقليمية أكثر باتّجاه تعزيز الاندماج الأوروبي خاصة في المشاريع الدفاعية؛ حيث يتبلور توجه لدى بعض الدول الأوروبية حول تعزيز قدرة القارّة على التحرّك بشكل مستقلّ كقوّة عسكريّة، وهو توجه يدعمه الرئيس الأمريكي جو بايدن.

2- قبول أوروبي للسياسات الفرنسية: يعتقد المتابعون للشأن الأوروبي أن هذه الخطوة تُرى بشكل إيجابي من قبل الدول الأصغر في الاتحاد الأوروبي، فقد كان دائماً يوجه إلى فرنسا وألمانيا اتهامات بأنهما لا تضعان في اعتباراتهما أي آراء للدول الأخرى، وأنهما تهيمنان على صناعة القرار في بروكسل، إلا أن اتفاقية كيرينالي، وكذلك اتفاقية الدفاع المشترك مع اليونان، تعكس تطلع باريس إلى تنوع تحالفاتها بما يعزز من مكانتها في النظام الدولي، لا سيما في شعورها بالعزلة بعد تشكيل تحالف "أوكوس" الثلاثي بين لندن وواشنطن وكانبرا. 

3- التوافق الفرنسي – الإيطالي حول ليبيا: ستنعكس الاتفاقية بشكل مباشر على الأزمة الليبية بحكم أن الجانبين الفرنسي والإيطالي كانا لاعبين متنافسين في تلك الأزمة. وبالتالي، فإن التوافق بينهما سيحول دون استمرار الصدام، وربما سيسهم في ضمان نجاح الاستحقاق الانتخابي في ليبيا المرتقب، وصولاً إلى إمكانية الاتفاق على دعم مرشح بعينه في الانتخابات القادمة. 

4- حل الخلافات الفرنسية – الإيطالية: يتوقع أن ينعكس الاتفاق على تهدئة التوتر في العلاقات الثنائية، والتي كان أبرزها الصراع الشديد بين شركتي بناء السفن نافال جروب الفرنسية، وفينكانتيري الإيطالية على تصدير الأسلحة البحرية إلى عدد من الدول، وكذلك اتهامات روما بأن باريس لا تريد تسليمها 14 إيطالياً مطلوباً  بتهمة الإرهاب، فروا إلى فرنسا، فيما تقول الأخيرة إنها لم تتلق طلبات رسمية لتسليمهم. 

وفي الختام، يمكن القول إنه على الرغم من أن تنفيذ المعاهدة الجديدة سيعتمد إلى حد كبير على نتائج الانتخابات المقبلة على جانبي جبال الألب، فإنه لا يمكن تجاهل انعكاساتها الإقليمية، سواء في القارة الأوروبية، أو في شرق المتوسط، إذ يتوقع أن تعكف فرنسا وإيطاليا على علاج معضلة المهاجرين في أوروبا، وتبني مواقف مشتركة حول مستقبل أوروبا والصراع في شرق المتوسط، بالإضافة إلى بلورة موقف موحد من الأزمة الليبية.