التنويع الاستراتيجي:

دوافع الانخراط التركي في أفريقيا جنوب الصحراء

05 January 2016


إعداد: وفاء ريحان


تحتل أفريقيا أهمية خاصة في السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة, وذلك في ضوء سعي أنقرة إلى تعزيز قوتها الاقتصادية في هذه القارة, واهتمامها بتوسيع دائرة علاقاتها بعيداً عن منطقة نفوذها التقليدية في الشرق الأوسط، خصوصاً مع توتر العلاقات بين تركيا وبعض القوى الرئيسية في المنطقة خلال الفترة الأخيرة, بالإضافة إلى سعي تركيا للحصول على دعم الدول الأفريقية في المنظمات الدولية.

في هذا الإطار, نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" دراسة تحت عنوان: "الانخراط التركي في أفريقيا جنوب الصحراء.. التحالفات المتغيرة والتنويع الاستراتيجي", والتي أعدها "ديفيد شين" David Shinn المدرس بكلية إليوت للشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن, وتناول فيها طبيعة وفعالية العلاقات التركية مع دول أفريقيا جنوب الصحراء.

دوافع تعظيم الدور التركي في أفريقيا

يرى الباحث أن الانخراط التركي في قارة أفريقيا قد ازداد بشكل كبير منذ عام 2005 في مجالات الدبلوماسية والتجارة والاستثمار والمساعدات والتعليم والأمن وغيره, ويتركز جزء كبير من هذا الانخراط في منطقة شمال أفريقيا، والتي لاتزال أكثر أهمية للاقتصاد التركي عن بلدان أفريقيا جنوب الصحراء.

ومع ذلك, تُولي تركيا اهتماماً كبيراً لدول أفريقيا جنوب الصحراء نظراً لأهميتها الاقتصادية المتزايدة، وعلى وجه الخصوص القوى الرئيسية بها مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا. كما أن عدداً من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء بها أغلبية أو أقلية مسلمة، ما يُشكل عاملاً إضافياً لمصلحة تركيا.

ويوضح الكاتب أن انفتاح تركيا على القارة السمراء يعود إلى عام 1998، حيث تم وضع خطة عمل للانخراط في مجالات عديدة في جميع أنحاء القارة, ولكن في عام 1999، ومع الزلازل والأزمات المالية التي عصفت بتركيا، فقد دفعها إلى تأجيل معظم أهدافها في أفريقيا.

ومع التعافي من هذه الأوضاع وفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية في عام 2002، عاودت تركيا التركيز مرة أخرى على أفريقيا, وبدأت انتهاج برنامج مكثف ومنظم بواسطة الحكومة ومنظمات المجتمع المدني لتوسيع النفوذ التركي في هذه المنطقة.

الأولويات التركية في أفريقيا

تشير الدراسة إلى أن الانخراط المتزايد لتركيا في قارة أفريقيا هو جزء من هدف أوسع لوضع نفسها كلاعب عالمي ذي سياسة خارجية معقدة. كما أن مساعي أنقرة إلى تعزيز الفرص الاقتصادية من خلال علاقاتها التجارية مع الدول الأفريقية، تعد أحد دوافعها للتركيز على هذه المنطقة. كذلك أولت تركيا اهتماماً بجوانب أخرى لعلاقاتها بدول أفريقيا جنوب الصحراء، مثل الاستثمار والمساعدات, بالإضافة إلى دور المجتمع المدني التركي والمنظمات الإنسانية غير الحكومية.

ويوضح "ديفيد شين" أن تركيا تتطلع إلى بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من أجل الحصول على الدعم بشأن عدد من القضايا مثل الفوز بمقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي, ومكافحة الإرهاب, وتدابير مواجهة القرصنة البحرية, والمنازعات في منظمة التجارة العالمية، وغيرها.

استراتيجيات الشراكة التركية مع أفريقيا جنوب الصحراء

تطرقت الدراسة إلى عدد من المجالات والاستراتيجيات التي انخرطت من خلالها تركيا في شراكة وعلاقات مع دول أفريقيا جنوب الصحراء، وهي:

1- السياسة والأمن والدبلوماسية:

يرى الباحث أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يبدو أنه طموح غير قابل للتحقيق, علاوة على ذلك كان لتغير التحالفات في الشرق الأوسط أيضاً تأثير كبير على انخراط أنقرة في أفريقيا جنوب الصحراء؛ فالعلاقات مع مصر توترت مع رفض الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" الاعتراف بشرعية النظام المصري الحالي برئاسة عبدالفتاح السيسي. كما أن الحكومات في القاهرة وأنقرة لديها وجهات نظر متناقضة حول كيفية التعامل مع الأزمات الحالية في سوريا واليمن, إذ تُعارض الحكومة التركية بشدة نظام "بشار الأسد" المدعوم من إيران في سوريا, وفي المقابل ترى مصر أن الجماعات المتطرفة هي التهديد الرئيسي في المنطقة, وأن نظام "الأسد" يعد حصناً مفيداً ضد تقدم تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.

وتشير الدراسة إلى أن العلاقات الباردة سابقاً بين تركيا والسعودية قد تحسنت بشكل ملحوظ مع صعود الملك "سلمان بن عبدالعزيز" إلى الحكم مع بداية عام 2015, حيث أصبحت رؤية الرياض للوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط أكثر انسجاماً مع أنقرة.

ويرى الباحث أن هذا الوضع الجيوسياسي المرن أكثر من أي وقت مضى في الشرق الأوسط، فضلاً عن التحالفات المتغيرة، يشير إلى أن تركيا سوف تواصل جهودها الدبلوماسية المكثفة في أفريقيا جنوب الصحراء.

لذلك, دشنت أنقرة برنامجاً لتأسيس بعثات دبلوماسية لها في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء, وتم افتتاح سفارات لهذه الدول في أنقرة. وفي الفترة بين عامي 2009 و2011 قام الرئيس التركي ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان ووزير الشؤون الخارجية بـ 37 زيارة لأفريقيا، وخلال نفس الفترة كان هناك 76 زيارة من قادة هذه الدول الأفارقة إلى أنقرة.

2- التجارة والاستثمار:

يذكر الباحث أن حركة التجارة - خاصةً الصادرات - هي واحدة من أهم دوافع تركيز تركيا في الآونة الأخيرة على أفريقيا جنوب الصحراء, فقد نمت الصادرات التركية إلى هذه الدول، إذ أصبحت تمثل نحو 2.7% من إجمالي الصادرات التركية في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2013.

وتقوم تركيا بتوقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية مع دول أفريقيا جنوب الصحراء, وذلك في مجالات الطاقة والاستثمار والتجارة الحرة. وثمة دور لعدد من المؤسسات في هذا الصدد، منها الاتحاد التركي لرجال الأعمال والصناعيين الذي يعمل بشكل خاص في جهود توسيع التجارة في أفريقيا.

3- المساعدات المالية:

بدأت دول أفريقيا جنوب الصحراء في تلقي المساعدات التركية التي بلغت حوالي 10 ملايين دولار وزعتها هيئة تخطيط الدولة التركية على هذه الدول منذ عام 1985. وقد ارتفعت المساعدات التركية إلى أفريقيا من 31 مليون دولار في عام 2006 إلى 52 مليون دولار في عام 2008. وبحلول نهاية عام 2011 كانت تركيا تضطلع بنحو 113 مشروع مساعدة إنمائية في 37 بلداً أفريقياً. وفي عام 2013 كانت أفريقيا المستفيد الأكبر من مساعدات وكالة التنمية والتعاون الدولي التركية، وتتلقى 33.7% من إجمالي إنفاق الوكالة.

كما وفرت تركيا منحاً دراسية في جامعاتها لأكثر من 5500 طالب من دول أفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2003 و2012. ويوجد حوالي 13 ألف طالب أفريقي يدرسون في تركيا، مع ألف منحة دراسية توفرها تركيا سنوياً.

4- المنظمات الإنسانية والمجتمع المدني:

أوضحت الدراسة عدداً من منظمات المجتمع المدني التركية التي تمارس أدواراً فعَّالة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وذلك كالتالي:

أ- حركة كولن: تأتي هذه الحركة في الطليعة عند الحديث عن دور المجتمع المدني التركي في أفريقيا. وقد بدأت الحركة باعتبارها مؤسسة (دينية، غير سياسية, ثقافية, وتعليمية) داخل تركيا، وانتشرت بعد ذلك على الصعيد العالمي, ولديها مدارس عديدة في دول أفريقيا جنوب الصحراء, إلا أن الخلاف الذى حدث بين "أردوغان" و"فتح الله كولن" الذي تحمل الحركة اسمه أدى إلى إغلاق المؤسسات التابعة لكولن. وفي قمة الشراكة الثانية بين تركيا وأفريقيا في نوفمبر 2014، حذر "أردوغان" القادة الأفارقة من الأجندات الخفية لكولن.

ب- مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية: هي منظمة غير حكومية توفر الإغاثة فى الحروب والكوارث الطبيعية. وقد بدأت عملها في أفريقيا عام 1996, وتعمل الآن في 35 بلداً في أفريقيا جنوب الصحراء.

ج- مؤسسة "كيمسا يوكمو" Kimse Yok Mu: وهي منظمة إغاثة مُستوحاة من حركة "كولن", وبدأت نشاطتها في تركيا بعد زلزال 1999 ثم توسعت على الصعيد العالمي. وقدمت بين عامي 2006 و2013 مساعدات تُقدر بنحو 65.4 مليون دولار إلى 45 دولة أفريقية, بيد أن الإجراءات التي اتخذها حزب العدالة والتنمية ضد مؤسسة "كولن" طالت مؤسسة "كيمسا يوكمو" هي الأخرى، وتم تجميد حساباتها المصرفية, والإعلان في أبريل 2015 بأنها قيد التحقيق بتهمة القيام بأنشطة إرهابية.

د- الهلال الأحمر التركي: لديه دور بارز هو الآخر في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء, وكان أكبر جهد له في هذه البلدان في عام 2011 عندما حشد لحملة وطنية كبرى لمساعدة ضحايا المجاعة في الصومال.

وبالإضافة إلى هذه المؤسسات التركية المهتمة بالشأن الأفريقي، يتطرق الكاتب إلى مجموعة من مراكز البحوث في عدد من الجامعات التركية التي لديها ذات الاهتمام، مثل مركز الدراسات الأفريقية بجامعة أنقرة, ومركز البحوث الجامعية لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بجامعة قادر هاس. كما بدأت عدد من الجامعات التركية في تقديم برامج دراسات عليا في الدراسات الأفريقية.

ختاماً، ينتهي الكاتب إلى أن استمرار الأزمات الاقتصادية والأمنية في أنقرة يعني أن الانخراط  التركي في دول أفريقيا جنوب الصحراء سيتراجع على المدى القصير, فالاقتصاد التركي يعاني عدداً من الصعوبات, فضلاً عن صعود "داعش" التي تسببت في تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين. كما تعززت الحركات القومية الكردية, بالإضافة إلى نتائج الانتخابات العامة في يونيو 2015, ما يشير إلى أن تركيا قد تصبح أكثر انعزالية وأقل احتمالاً لتوسيع جهودها في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء في المستقبل القريب.


* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "الإنخراط  التركي في أفريقيا جنوب الصحراء: التحالفات المتغيرة والتنوع الاستراتيجي", والمنشورة في سبتمبر 2015 عن المعهد الملكي للشئون الدولية.

المصدر:

David Shinn, "Turkey’s Engagement in Sub-Saharan Africa: Shifting Alliances and Strategic Diversification", (London: The Royal Institute of International Affairs,  September 2015).