رؤية من موسكو:

هل تسعى روسيا إلى زيادة دورها في اليمن؟

12 July 2021


حين بدأت الغارات الجوية الروسية في سوريا، رآها العالم باعتبارها استعراضاً للقوة من جانب موسكو، الغرض منه أن تبين استعدادها لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط. ولم يكن غريباً أن يؤدي الوجود العسكري الروسي في سوريا إلى إثارة تساؤلات وتكهنات عديدة حول إمكانية تكرار "السيناريو" السوري في دول أخرى في المنطقة، على غرار ليبيا واليمن. 

برجماتية موسكو:

لتقييم الوجود الروسي بالمنطقة، ينبغي أن نضع في اعتبارنا، قبل كل شيء، أن سوريا حالة خاصة، وتعد استثناء للقاعدة التي وضعتها موسكو لنفسها للتعامل مع صراعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي والأيديولوجية الشيوعية، صارت روسيا أكثر برجماتية، فلم تعد سياستها تقوم على منح التأييد الكامل غير المشروط لطرف ما، بل أصبحت - من حيث المبدأ - تهدف في المقام الأول إلى خدمة مصالحها الخاصة. وتعد سياسة الكرملين تجاه الأزمة في اليمن منذ بدايتها في عام 2011 وحتى الآن مثالاً للبرجماتية التي صارت السياسة الروسية تتسم بها.

وقامت روسيا منذ بداية الأزمة اليمنية بفتح قنوات مع جميع اللاعبين المؤثرين في الأزمة. فمنذ الأيام الأولى، حاولت موسكو أن تبعد نفسها عن الصراعات القبلية داخل البلاد بكل خصوصيتها وحساسيتها، حرصاً منها على عدم التورط في الصراع والانحياز لأي طرف من أطرافه. وإلى حد ما، لا يزال هذا الموقف الذي اتخذته موسكو يساعدها على أن تظل على اتصال بجميع الأطراف المتحاربة في اليمن. 

كما تتبنى موسكو موقفاً مشابهاً تجاه القوى الإقليمية المنخرطة - بشكل أو بآخر- في الصراع اليمني، وما زالت روسيا تحاول في هذا الصدد أن تحافظ على التوازن في علاقاتها مع إيران والسعودية، وألا تنحاز إلى أي منها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن موسكو تسعى دائماً إلى أن يكون للمبعوث الخاص للأمم المتحدة دور أكثر فاعلية في التعامل مع الصراع الإقليمي في اليمن، وهو ما يدل على رغبة موسكو في عدم تحمل المسؤولية بمفردها، وحرصها على "الاختباء" خلف الرأي الجماعي للأمم المتحدة. 

فعلى سبيل المثال، لم يسبق أن استخدمت روسيا حق الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن قضية اليمن، سواء كانت تلك القرارات أساسها مقترحات عربية أو غربية، وهو عكس موقفها من قضية سوريا.

تقاسم المسؤولية:

من المهم أن نلاحظ سمة أخرى من سمات الموقف الروسي تجاه الشرق الأوسط بوجه عام وتجاه اليمن بوجه خاص، أن روسيا استطاعت إقناع المجتمع الدولي باحترام رأيها في قضايا المنطقة، ومن ثم توجب عليها أن تجد وسيلة تمكنها من أن تظل ذات كلمة مسموعة ودور مهم في المنطقة، من دون أن يكلفها ذلك إلا القليل. فبسبب ظروفها الداخلية لا تريد روسيا أن تلعب دور الرجل الأول (ولا الثاني) في أي صراع يدور في الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع في سوريا؛ ففي السنوات الأخيرة بدأت موسكو تسعى للعثور على شريك يقاسمها مسؤولية تسوية الأزمة في سوريا ثم إعادة إعمار البلاد. 

وقد تصرفت روسيا بالمنطق نفسه في بداية الأمر في مسألة اليمن، فلم تسع إلى لعب دور رائد هناك، بل اكتفت بالمشاركة في أعمال مجموعة أصدقاء اليمن ومجموعة سفراء الدول العشر الراعية للمبادرة الخليجية بشأن اليمن. وفي فبراير عام 2014 قال السفير الروسي في اليمن، فلاديمير ديادوشكين، إن المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني "طبقاً لقرارات المبادرة الخليجية وقراري مجلس الأمن رقم 2014 و2015، قد استطاعوا إرساء أسس الاستقرار التي تضمن تحقيق التنمية في اليمن مستقبلاً".

وفي عام 2018 في لقاء مع وكالة الأنباء الروسية "تاس"، سُئل ديادوشكي عن إمكانية توسط روسيا لحل الأزمة في اليمن من خلال القيام بعملية شبيهة بعملية أستانا التي قامت بها في سوريا، فأجاب بالنفي، وقال إن اليمن يختلف عن سوريا، فمصالح أطراف الصراع تختلف في الحالتين، وكذلك مصالح وأهداف القوى الخارجية. وقال ديادوشكي: "فيما يتعلق بتلك المسألة، فإنني بصفتي سفير روسيا في اليمن أرى أننا نحتاج إلى التوصل إلى تسوية في اليمن من خلال اتباع الطرق المجربة سلفاً، لا أن نعيد اختراع العجلة؛ أقصد أنه يجب الاعتماد على المبعوث الأممي لليمن، مارتن جريفيث، ولقد دار بيني وبين مارتن حوار مثمر بناء بشأن هذه المسألة، لذا فإن روسيا تؤيد المبعوث الأممي تماماً".

منظور روسيا:

من المنظور البرجماتي الذي تحاول روسيا تبنيه تجاه الشرق الأوسط، لا يبدو اليمن شديد الجاذبية بالنسبة لها، للأسباب التالية:

1- تراجع المصالح الاقتصادية في اليمن: حيث إنه ليس لروسيا مصالح اقتصادية في اليمن، فحتى نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة كان النصيب الذي يسهم به اليمن في عائدات التجارة الخارجية الروسية في تناقص، إذ تدنى إلى 0,3% (بعد أن كان 0,5%- وهي نسبة ضئيلة أيضاً- في عام 2017). وفي الوقت نفسه فإن 85% من التجارة بين روسيا واليمن تأتي من تصدير القمح الروسي إلى اليمن. وبالتالي فإن المشكلة الرئيسية هي أن اليمن ليس سوقاً واعدةً بالنسبة لروسيا، "وإذا استثنينا القهوة والأطعمة البحرية وبعض مواد البناء، فيمكننا أن نؤكد أن اليمن لا تمثل أهمية للاقتصاد الروسي".

وينطبق الشيء نفسه على قطاع البترول اليمني، فالكميات ليست كبيرة، والاحتياطي يحتاج إلى تقييم حجمه وأهميته، واحتمالية استعادة السيطرة عليه ضعيفة. وتدرك شركات البترول الروسية الخاصة أن عليها أن تفكر مرتين قبل أن تقرر دخول السوق اليمنية، لأنها تعلم أن التكلفة ستكون باهظة، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الاعتبارات الأمنية، والحاجة إلى إعادة بناء البنية التحتية التي دمرها الصراع، وحل النزاعات القائمة بين مختلف القوى في اليمن. ومع ذلك فإنه من المحتمل أن يشارك قطاع النفط الروسي في اكتشاف حقول بترول جديدة في اليمن. 

2- الحفاظ على علاقات متوازنة مع دول الخليج: تتمثل أولويات سياسة روسيا في الخليج بوجه عام في إقامة علاقات قوية مع دول الخليج العربية. وكما أثبتت السنوات القليلة الماضية، تستهدف القيادة الروسية أن تحول نفوذها السياسي في المنطقة إلى اتفاقيات تعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة والاستثمار مع السعودية والإمارات وقطر. ولعل هذه النقطة على وجه الخصوص هي الأهم في تفسير موقف روسيا المتحفظ من الأزمة في اليمن، لا سيما أثناء التصويت في مجلس الأمن الدولي على قرارات ذات أهمية لدول الخليج، مثل القرار رقم 2216 لعام 2015، والقرار رقم 2342 لعام 2017. كما أن هذا هو السبب وراء عدم رفض روسيا أي مبادرة قدمتها السعودية أو أي دولة أخرى في الخليج لحل الأزمة في اليمن. 

3- عدم الرغبة في إنشاء قواعد عسكرية في اليمن: إن ما يُثار عن أن روسيا ترغب في أن يكون لها قواعد عسكرية في اليمن هو غير صحيح. فكل ما في الأمر أن روسيا تسعى إلى استعادة نفوذها السابق في المنطقة بعدة طرق، من ضمنها إعادة قواعدها العسكرية إلى البحرين المتوسط والأحمر (ولكن لا ينطبق ذلك على اليمن). وجدير بالذكر أن اليمنيين أنفسهم يعتقدون أن روسيا قد تسعى إلى إنشاء قواعد عسكرية في بلادهم، ففي خضم المنافسة الدائمة بين السياسيين اليمنيين، يحاول بعضهم التقرب من موسكو، فيتحدثون من حين إلى آخر عن إمكانية إنشاء قواعد عسكرية روسية في اليمن، ويحدث هذا عادة على وجه الخصوص قبل المفاوضات مع الطرف الروسي، ومن ثم يتلقف بعض السياسيين الروس، مثل هذه التصريحات وينشرونها كنوع من دعم النفوذ الروسي في المنطقة، كما يستغلونها في حربهم الكلامية ضد الغرب. لكن الحقيقة هي أن روسيا لا تشعر بالحاجة إلى نشر قوات عسكرية في اليمن، لا سيما أن مشاريع كهذه ذات تكلفة عالية، ولا تعود بنفع كبير على المصالح العسكرية الروسية. 

وثمة سبب آخر لإحجام روسيا عن إنشاء قواعد عسكرية في اليمن، وهو أن وجود قواعد روسية في البحر الأحمر وعلى خليج عدن لن يكون ذا جدوى حقيقية لموسكو، إلا إذا تمركزت البحرية الروسية هناك بشكل دائم، وهو شيء شبه مستحيل، نظراً لأن حجم الأسطول الروسي الموجود في البحر الأسود والمحيط الهادي (أي الأسطول الأقرب إلى البحر الأحمر وخليج عدن) لا يسمح بنشر قوات كبيرة داخل اليمن. وبالإضافة إلى ذلك، فليست هناك حاجة اقتصادية أو سياسية في الوقت الحالي لوجود روسي عسكري طويل الأمد في الموانئ اليمنية المطلة على البحر الأحمر أو خليج عدن. 

ختاماً، يمكن القول إن تكلفة التورط الروسي في الشأن اليمني، سواء بإظهار المزيد من الفاعلية أو بما هو أكثر أي بالتدخل العسكري الصريح، أكبر بكثير من الفائدة المتوقعة، وموقف روسيا الحالي من الأزمة في اليمن يخدم المصالح الروسية قصيرة الأمد وطويلة الأمد على حد سواء. في الوقت نفسه لا شك أن جميع القوى الداخلية في اليمن، وكذلك دول الجوار، يرون أن موسكو يمكن أن تلعب دوراً شديد الأهمية في حسم هذا الصراع، لكن موسكو تكتفي بدورها الحالي الذي لا يشكل عبئاً كبيراً على مواردها.