هسبريس:

هكذا تحول المجال البيئي إلى فرصة لاستدامة السلام في المنظومة العالمية‬

29 March 2021


فادت ورقة بحثية بأن الحروب العالمية التي شهدها العالم خلال القرن العشرين أسهمت في تدشين العديد من المجالات البحثية التي اهتمت بدراسات الحرب والسلام، إلا أنه مع انتهاء الحرب الباردة، تركز الاهتمام على الحروب الأهلية وعمليات إعادة بناء السلام والأمن الإنساني، وذلك في ظل التركيز على الإجابة عن تساؤل بالغ الأهمية حول ما إذا كانت نُدرة الموارد الطبيعية المتجددة ستتسبب في زيادة مخاطر اندلاع الصراعات.

وأوضحت المقالة، المنشورة بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أن النقاش تجدد مرة أخرى في النصف الأول من القرن الحالي، مع تخصيص مجلس الأمن إحدى جلساته للنقاش بشأن تغير المناخ والأمن، إلى جانب منح جائزة نوبل للسلام للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ عام 2007. وانطلاقًا من أن المجال البيئي أضحى يمثل قضية أساسية في السياسة الدولية، بل إنه أصبح مصدرًا لاجتذاب الصراع الدولي؛ فإن بناء السلام البيئي اكتسب المزيد من الزخم خلال السنوات الأخيرة باعتباره مجالا سريع النمو للبحث والممارسة، تتقاطع من خلاله عدة حقول معرفية أساسية تتعلق بالبيئة والصراع والسلام والأمن.

التعريفات والافتراضات

ظهر بناء السلام البيئي كمجال بحثي متخصص ومستقل بذاته في بداية القرن الحادي والعشرين، ويرجع ذلك جزئيًا كرد فعل على التركيز الضيق لأدبيات الأمن البيئي على العلاقة بين ندرة الموارد الطبيعية والصراعات، وذلك خلال فترة التسعينيات، وفق الورقة. ونتيجة لتنوع التخصصات التي تُشكل مجال بناء السلام البيئي وتنوع الجهات الفاعلة المعنية بهذا المجال البحثي، تعددت التعريفات المستخدمة لتفسيره، كما ظهر تحت تسميات مختلفة مثل: صنع السلام البيئي، والدبلوماسية البيئية، ودبلوماسية العلوم، وبيئة السلام. وحقيقة الأمر أن تعدد تلك التسميات زاد من تعقيد مفهوم بناء السلام البيئي.

ومن بين التعريفات المطروحة للمفهوم يمكن الاعتماد على ذلك التعريف بأن بناء السلام البيئي يشمل كافة الاقترابات والمداخل المختلفة التي يتم من خلالها دمج إدارة القضايا البيئية، بما يدعم منع الصراعات، والتخفيف من حدتها، وحلها والتعافي منها. ويُعد هذا التعريف هو الأكثر شمولًا، إذ يغطي كلا الساحتين الدولية والمحلية، وكذلك الدرجات المختلفة من الصراعات، سواء كانت كامنة أو نشطة. وقد أوضح المقال أن بناء السلام البيئي يشتمل في مضمونه على ثلاثة أبعاد:

1- الأمن: حيث إن بناء السلام البيئي بما يعنيه من الإدارة الشاملة والمستدامة للموارد الطبيعية يمكن أن يسهم في تجنب النزاعات حول هذه الموارد أو ما يرتبط بها، ومن ثم فهو يقدم عنصر الأمن والحماية، في ظل أن الاستغلال البيئي مع القليل من الاهتمام بالمجتمعات المحيطة يقوض الأمن البشري بشكل عام، ويمكن أن يؤدي إلى احتجاجات ومقاومة عنيفة.

2- سبل العيش والاقتصاد: فقد حدد العلماء انعدام الأمن المعيشي وضعف الأداء الاقتصادي كمؤشرات رئيسية للصراع العنيف وفشل بناء السلام. ومن ثم، تُعد الإدارة الفعالة والمستدامة للقضايا البيئية أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق الأمن المائي والأمن الغذائي، ومن ثم تقليص المساحات المتاحة لنشأة الصراعات. فالتركيز على الحوكمة أمر حيوي لاستعادة بناء السلام في حال تم تدمير البنية التحتية البيئية أثناء الصراع العنيف. ويُعد الحد من مخاطر الكوارث أمرًا حاسمًا أيضًا لتحقيق الأمن المعيشي.

3- السياسة والعلاقات الاجتماعية، حيث إن التحديات البيئية المشتركة بين الدول قد تعد مداخل مهمة للتعاون الدولي، حتى لو كان النمط العدائي هو المسيطر على تلك العلاقات أو أنها تتسم بعدم الثقة. فالتحديات البيئية توفر فرصًا للتعاون لأنها تتجاوز الحدود السياسية، وقد تكون أقل حساسية من حيث التناول من الموضوعات الأخرى ذات الطبيعة السياسية. على جانب آخر، يمكن أن يحفز التعاون البيئي على تدشين مؤسسات تُفضي إلى المزيد من التكامل وحل النزاعات، علمًا أن هذه المؤسسات المتكيفة والمرنة ستعد ضرورية لبناء القدرة على الصمود، والاستجابة للتحديات العالمية مثل تغير المناخ. كما أن التعاون الإيجابي بشأن التحديات البيئية سيعد مفيدًا في بناء الثقة والتفاهم بين الفئات الاجتماعية والقادة السياسيين. وغالبًا ما يشار إلى هذه الديناميكية باسم صنع السلام البيئي.

مستقبل بناء السلام البيئي

مر بناء السلام البيئي بعدة مراحل حتى الوصول إلى الجيل الثالث من الدراسات، الذي شمل العديد من الموضوعات والمناقشات التي ظهرت خلال العقدين الماضيين، وتعد مركزية لهذا الجيل الثالث من الدراسات والبحوث، وإن كانت تواجه العديد من أوجه القصور التي تحتاج إلى معالجة، يوردها المقال في ما يلي:

1- النهج/الاقترابات التصاعدية (Bottom-up Approaches): ركزت الأبحاث المتخصصة في مجال بناء السلام البيئي لفترة كبيرة على القيادة من أعلى إلى أسفل، وذلك من قبل المنظمات الدولية ومؤسسات الدولة رفيعة المستوى والمنظمات غير الحكومية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك جهود منظمة “Tearfund’s” غير الحكومية لحل الصراعات حول المياه من خلال الاهتمام بالبعد الأمني، ومحاولات برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) لتحسين الوضع البيئي في مجتمعات ما بعد الصراعات؛ هذا إلى جانب مبادرات النخب داخل الدول بالتعاون مع الداعمين الدوليين لإرساء السلام. إلا أنه ورغم ما سبق فقد كشفت الأبحاث أن المجتمعات المحلية -في كثير من الأحيان- تنجح في إدارة الموارد الطبيعية والتخفيف من حدة الصراعات البيئية أو إدارتها على نحو أفضل من التوجه المركزي للقيادات والنخب. فقد عملت النهج التصاعدية على نحو متزايد على تمكين المجتمعات المهمشة والضعيفة التي تفتقر إلى مقاعد على طاولات صنع القرار، وتعاني من “العنف البطيء” الناجم عن التدمير المتعمد في كثير من الأحيان لسبل معيشتها وأنظمتها البيئية. ونتيجة لذلك أولى الباحثون اهتمامًا متزايدًا بممارسات بناء السلام البيئي على المستوى المحلي من القاعدة إلى القمة، لاسيما في ما يتعلق بالقضايا التي تهم الأمن البشري الأساسي واستدامة سبل العيش.

2- النوع الاجتماعي: يُعد النوع الاجتماعي أحد الموضوعات التي لم تحظَ باهتمام كافٍ في أبحاث وممارسات بناء السلام البيئي، إلى أن وثّقت عدد كبير من الأدبيات تأثير النوع الاجتماعي، سواء كان ذكرًا أم أنثى، على العلاقة بين الإنسان والبيئة، بما في ذلك بعض العلاقات المرتبطة بظروف ما بعد الصراعات البيئية. وقد ارتبطت بتلك العلاقة مجموعة واسعة من الموضوعات التي تشمل تسليط الضوء على نقاط ضعف المرأة في ما يتعلق بالوصول إلى مورد الرزق الأساسي والتحكم في ذلك المورد أو إدارته، حيث إن البيئة ظهرت دائمًا كعامل شديد التأثير في تحديد قدرة المرأة على القيام بذلك الدور. على جانب آخر، تم تكريس المزيد من الاهتمام بالنساء كعاملات، وليس فقط كضحايا، بما في ذلك دورهن في عمليات بناء السلام. ورغم الخطوات التي تم بذلها في ذلك السياق، إلا أنه مازالت هناك العديد من التحديات التي تقف حجرَ عثرة أمام الدمج الشامل للنوع الاجتماعي كفئة تحليلية في البحوث البيئية والصراعات. كذلك تشمل التحديات الكبيرة التي تواجه البحث في هذا المجال المخاوف من الخلط بين الآثار قصيرة المدى والتغيير الدائم، وإحداث المواءمة بين الإصلاح القانوني والتغيير المنفذ بالفعل، وكذلك التركيز المفرط على الطابع الرسمي المهمش للنوع الاجتماعي في كثير من الدول.

على المستوى المؤسسي، بدأ برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بالتعاون مع جهات فاعلة أخرى، في إدراج منظور جنساني في عمله، وخاصة في الموضوعات التي تتضمن التقاطع بين البيئة وبناء السلام، وهو ما يتضح من اعتماد جمعية البيئة التابعة له قرارا بشأن هذا الموضوع.

3- البرمجة الحساسة للصراعات (Conflict- Sensitive Programming): يولِي بناء السلام البيئي الاهتمام الكافي للصراعات في عمليات البرمجة الفعالة للبيئة والموارد الطبيعية؛ أي أخذ الصراعات بعين الاعتبار، وهو ما يُعد من العوامل المهمة في تجنب الصراعات ذاتها. حيث إن الفشل في الاستعداد المسبق للصراعات يمكن أن يؤدي إلى حدوث الصراعات أو تجديد حدوثها عن غير قصد.

4- استخدام البيانات الضخمة والتكنولوجيا الرائدة: في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهر الاهتمام الأكاديمي بالأدوار الحالية والمحتملة للبيانات الضخمة والتقنيات الحدودية (مثل: نظم المعلومات الجغرافية، والذكاء الاصطناعي، وسلاسل الكتل)، وذلك في مجال بناء السلام البيئي. وتم التركيز بشكل كبير على إمكانية تطوير أنظمة إنذار مبكر أكثر قوة، بحيث يصبح الاندماج السريع للبيانات أسهل في تحقيقه، بما يسهل عملية تطوير نماذج أكثر موثوقية للحد من عدم اليقين في المجال البيئي. وفي هذا الصدد، تم التركيز على استخدام التقنيات المحمولة مثل الهواتف الذكية على نطاق واسع لتحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، بدءًا من التوصيف الدقيق لظروف الأشخاص المعرضين للخطر إلى مراقبة عمليات النزوح القسري والمستوطنات العشوائية وغيرها. ومع ذلك فإن استخدام البيانات الضخمة في بناء السلام البيئي يواجه العديد من التحديات التي قد تكون من بينها التحديات الإدارية والتقنية.

5- عمليات الرصد والتقييم: يُساعد الرصد والتقييم (M&E) على فهم متى تحقق التدخلات أهدافها، ومتى لا تحقق ذلك ولماذا. حيث إن تطوير أدوات الرصد والتقييم سيوفر وسائل أكثر تعقيدًا واتساقًا وانتشارًا لتحقيق أهداف المساءلة والتعلم، وتقديم الدروس المستفادة للمستفيدين والمنفذين والممولين على حد سواء. وفي حين أن هناك عدة مؤلفات حول الرصد والتقييم لبناء السلام وحماية البيئة فإن الأدبيات المتعلقة بالرصد والتقييم لبناء السلام البيئي مازالت محدودة. قد تُظهر الدراسات الكمية ارتباطات واسعة، ولكنها غير قادرة على تقييم تدخلات سياسية محددة.

تتعقد عملية الرصد والتقييم لبناء السلام البيئي بسبب خمسة تحديات رئيسية، أولها طول الفترة الزمنية التي يجب أن تنقضي قبل أن تصبح تأثيرات عمليات التدخل واضحة، وثانيها تعدد الجهات الفاعلة، ما يعقد عملية جمع البيانات وإسنادها، وثالثها السياق الديناميكي وغير الآمن في كثير من الأحيان للقيام بتلك العمليات، والذي يتسم بالخلاف السياسي والعنف، ورابعها حالات نقص أدوات التدخل والسيطرة، وخامسها المضاعفات التي تنشأ من الجمع بين مختلف الأهداف والمقاييس المستخدمة، على التوالي، للتدخلات البيئية وبناء السلام.

المصدر : هسبريس