شخصنة السلطة:

أسرار عملية صنع القرار الأمريكي في عهد "ترامب"

30 September 2020


عرض: د. إسراء إسماعيل - خبير في الشؤون السياسية والأمنية.

تعتبر فترة حكم الرئيس "دونالد ترامب" من أكثر الفترات إثارة للجدل في الولايات المتحدة الأمريكية، ويرجع ذلك إلى شخصية الرئيس "ترامب" التي تتسم بالبراجماتية وافتقاد الخبرة السياسية، إضافة إلى تداعيات قراراته على الداخل الأمريكي وكذلك على الصعيد العالمي.

وفي هذا الإطار، صدر كتاب "الغضب" Rage، الذي ألفه الصحفي الأمريكي المخضرم "بوب وودوارد" الحاصل على جائزة "بوليتزر"، حول رئاسة "دونالد ترامب"، فقد سلَّط الضوء من خلاله على تعامله مع جائحة كورونا، وعلاقته المتوترة بالعسكريين والمسؤولين رفيعي المستوى، مثل "جيمس ماتيس" (وزير الدفاع السابق) و"دان كوتس" (مدير الاستخبارات الوطنية )، وتعامله مع الاضطرابات العرقية، وعلاقاته مع قادة كوريا الشمالية وروسيا.

وتجدر الإشارة إلى أنه سبق له تأليف كتاب عن الرئيس "ترامب" عام 2018، بعنوان "الخوف: ترامب في البيت الأبيض"، وبالتالي فهي ليست المرة الأولى التي يقترب فيها "وودوارد" من مشهد صناعة القرار الأمريكي، كما تظهر أهمية الكتاب في ضوء توقيت نشره قبيْل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، مما قد يساهم في التأثير على نتيجة الانتخابات، خاصة في ظل ما أوضحته بعض استطلاعات الرأي من تقارب حظوظ كل من "ترامب" و"جو بايدن" في الولايات الحاسمة.

يتضمن الكتاب تفاصيل حول قرارات وعمليات الأمن القومي، وتحركات الرئيس "دونالد ترامب"، في الوقت الذي تواجه فيه البلاد وباءً عالميًّا وكارثة اقتصادية واضطرابات عرقية، ويتسم الكتاب بالسرد العشوائيّ لمجموعة من المواقف والاتصالات والأحداث، وقد اعتمد على مئات الساعات من المقابلات مع شهود عيان، بالإضافة إلى ملاحظات المشاركين ورسائل البريد الإلكتروني واليوميات والتقويمات والوثائق السرية. 

ويذكر "وودوارد" في عدة نقاط أنه أجرى نحو 18 مقابلة مسجلة مع الرئيس، وتمت المقابلات على مدار سبعة أشهر من ديسمبر 2019 إلى يوليو 2020، بعد نشر كتابه الأول عن "ترامب" "الخوف"، قبل عامين. كما يقول إنه سعى في هذا الكتاب إلى النظر مرة أخرى بعمق في فريق الأمن القومي الذي جنده "ترامب" في الأشهر الأولى بعد انتخابه في عام 2016. ومن ثمَّ فالكتاب لا يعد فقط محاولة للاقتراب من شخصية "ترامب" وتحليلها، بل يعد بمثابة كشف حساب لفترة رئاسته المليئة بالأزمات، وقراراته التي اتسمت بالتناقض وإثارة الجدل والاضطرابات، وعكست حجم الخلل الوظيفي الذي أصاب الإدارة الأمريكية في عهده، حتى إن البعض يعده كوثيقة للناخب الأمريكي للحصول على رؤية دقيقة من الداخل.

الخضوع لقرارات "ترامب"

قدَّم "وودوارد" صورة مفصلة عن الرئيس وبعض كبار مساعديه؛ حيث ذكر -على سبيل المثال- أن وزير الدفاع السابق "جيمس ماتيس" يتمتع بمظهر خارجي متحفظ، والمدير السابق للاستخبارات الوطنية "دان كوتس" يمتلك مزيجًا من الصلابة والليونة، مشيرًا إلى أن "ماتيس" اعتبر "ترامب" "خطيرًا" و"غير لائق" للمنصب، واستقال في النهاية عندما اعتقد أن توجيهات "ترامب" قد تحولت من مجرد سوء إدارة وفهم "غباء" إلى جريمة. 

ومن جانبه، أخبر "ترامب" المستشار التجاري للبيت الأبيض "بيتر نافارو"، بأنه لا يثق في آراء قادته العسكريين، لذا فإن القرارات العسكرية المهمة يقررها بناءً على تكلفتها، وليس بناءً على نصائح مستشاريه وحسابات العلاقات الدبلوماسية أو الشؤون الدولية. ويروي الكتاب أن "ماتس" و"كوتس" فضلًا عن "ريكس تيلرسون" وزير الخارجية، تمتعوا بنوايا حسنة، واعتقدوا أنهم يستطيعون العمل في إدارة "ترامب" والقيام بما اعتقدوا أنه في مصلحة بلدهم، ولكن فشلت محاولاتهم؛ لأن "ترامب" لم يستمع إلى نصائحهم.

ويشير المؤلف أيضًا إلى أن غرور "ترامب"، وممارسته التنمر بشكل روتيني، حوَّل كبار المسؤولين الحكوميين إلى أدوات تمكين مخيفة؛ فنائب الرئيس "مايك بنس" لم يجرؤ على تحدي "ترامب" أبدًا؛ وبالنسبة لـ"دان كوتس"، بدا أنه أصبح "سلبيًّا وخاضعًا ومطيعًا". وفي وصفه لمناقشات البيت الأبيض حول ما إذا كان ينبغي على "ترامب" إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "جيمس كومي"، ذكر "وودوارد" أن نائب المدعي العام "رود روزنشتاين"، اعتقد أنه يجب السماح لـ"كومي" بالاستقالة طواعية، ولكن لعدم رغبته في إثارة استياء "ترامب"، ظل صامتًا.

بعد إقالة "كومي" غير الرسمية، استدعى "ترامب" نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي "أندرو مكابي"، وتفاخر بأنه تلقى "مئات الرسائل من أفراد مكتب التحقيقات الفيدرالي يصرحون بمدى سعادتهم" بشأن طرد "كومي"، وأوضح "وودوارد" أن "مكابي" يعتقد أن معظم العاملين في مكتب التحقيقات الفيدرالي "كانوا مستائين وغير مسرورين" ، لكنه لم يذكر ذلك للرئيس وتجنب مناقضة رأيه، والتزم الصمت مثل "روزنشتاين". وبالمثل، يُشير الكتاب إلى أن "ماتيس" و"كوتس"، اللذين أصيبا بالذهول من سلوك الرئيس، "وجدا نفسيهما كثيرًا ما ينظران عبر الطاولة إلى بعضهم بعضًا في غرفة العمليات بقلق"، لكنهما أيضًا ظلا صامتين.

العلاقات مع كوريا الشمالية وروسيا

قدَّم المؤلف تفاصيل جديدة حول علاقة "ترامب" برئيس كوريا الشمالية؛ حيث حصل "وودوارد" على 25 رسالة شخصية متبادلة بين "ترامب" والزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج أون"، ويصف العلاقة بين الرئيسين بأنها واردة من "فيلم خيالي"، حيث انخرط الزعيمان في حوار دبلوماسي استثنائي، وقد وافق "ترامب" على الاجتماع مع "كيم" في المنطقة الأمنية المشتركة بين كوريا الشمالية والجنوبية في 30 يونيو 2019.

ويوضح الكتاب أن تقارب "ترامب" مع الرجال الأقوياء هو جزء من حمضه النووي، لافتًا الانتباه إلى تصريحاته حول علاقته بالرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وآخرين، مشيرًا إلى قول "ترامب": "كلما كانوا أقسى وأكثر خبثًا، كان من الأفضل أن أتعامل معهم".

ويكشف "وودوارد" أن المدير السابق للاستخبارات الوطنية "دان كوتس" كانت لديه شكوك جدية في احتمال أن يكون "ترامب" متوافقًا مع "بوتين"، بسبب علاقته الوثيقة المزعومة بالرئيس الروسي، وهو أمر اعتبره "ترامب" ميزة عظيمة. وفي سياق سباق التسلح المزعوم، ألمح الرئيس الأمريكي في مقابلته الأولى مع "وودوارد" إلى وجود "نظام أسلحة أمريكي جديد سري".

أزمات داخلية

يوضح "وودوارد" أنه حثَّ "ترامب" على إظهار المزيد من التعاطف تجاه المحتجين من أجل العدالة العرقية، لكن الرئيس "ترامب" كان فخورًا بقدرته على "إرسال الجيش" للتعامل مع المتظاهرين، الذين وصفهم "بالحقوقيين الراديكاليين الفقراء ومثيري الشغب". ومن ناحية أخرى، أخبر الرئيس الأمريكي "وودوارد" بشكل صريح في شهر مارس الماضي أنه كان يتعمد التقليل من شأن جائحة كورونا، والكذب بشأن ما يعلمه عن الوباء على الرغم من علمه بأنه فتاك. 

ويتعجب المؤلف من إحساس "ترامب" بالفخر نظرًا لموهبته في إثارة غضب من حوله، ويشير الكتاب إلى أن المسوؤلين الأمريكيين يعتبرون "ترامب" أحمق ونرجسيًّا وعاجزًا عن التمييز بين الحقيقة والتضليل، وغير جدير بتحمل المسؤولية، ويتفاخر مرارًا وتكرارًا بثروته وعبقريته، ولا يظهر سوى الازدراء لأولئك الذين يعارضونه، وحتى "جاريد كوشنر" صهر "ترامب" ومستشاره، أقر بأن الأخير لا يتشبث بالحقيقة، وبدلاً من ذلك، يجد كلا الرجلين أن المبالغة سلاح قوي في إثارة الرأي العام. 

وفي هذا الإطار، لفت المؤلف الانتباه إلى حجم التأثير الذي يتمتع به "جاريد كوشنر" على الرئيس، وأنه عادة ما يكون آخر شخص يتحدث إليه، وفي عالم "ترامب"، آخر شخص يتحدث إلى الرئيس هو الشخص الذي يتم اتّباع نصيحته عادةً.

وبالنسبة إلى "ريكس تيلرسون" وزير الخارجية السابق، فقد أخبر زملاءه بأن الرئيس كان "معتوهًا" وأن "جون كيلي"، كبير موظفي "ترامب" السابق، كثيرًا ما أشار إليه على أنه "أحمق". كما شجب كبار المسؤولين الآخرين "لا أخلاقية" و"سلوك ترامب غير المنتظم"، ويستخدم استعارات غريبة، كما أن أفكاره غير مكتملة، ويتبع عادة القفز بين الموضوعات غير ذات الصلة، وتصريحاته مثيرة للسخرية؛ خاصة تأكيداته المتكررة بأن فيروس كورونا سيختفي قريبًا مثل المعجزة، ويؤكد المؤلف أن عصر "ترامب" تميَّز بتصريحاته المروعة، وكان من المتصور مع كل تصريح جديد أن يتسبب في نهاية رئاسته، لكن في كل مرة ، يتخطى "ترامب" المسؤولية عن المحاسبة، وتستمر قاعدته الشعبية في تأييده.

وختامًا، أنهى "ودوارد" كتابه باستنتاج خطير، وهو أنه بدلاً من "قول الحقيقة"، فإن "ترامب" "كرَّس الدافع الشخصي كمبدأ رئيسي للحكم"، موضحًا أن أداء الرئيس الأمريكي في مجمله يقود إلى نتيجة واحدة فقط، مفادها أن "ترامب الرجل الخطأ لهذا المنصب"، وأن المشكلة أيضًا تكمن في الأشخاص الذين يحيطون به ويحمونه، ويقفون إلى جانبه حتى وهم يدينونه في واقع الأمر. وأكد "وودوارد" أن الواجب الدستوري للرئيس يتمثل في "التحذير والحماية"، وقد فشل "ترامب" في العمل على حراسة الأمة، لافتًا الانتباه إلى أنه تم تنبيهه إلى اقتراب جائحة مميتة في يناير 2020، ومع ذلك فقد استغل فيروس كورونا باعتباره خدعة اختلقها الديمقراطيون. ويصل الكتاب إلى نقطة مفصلية، وهي أن الولايات المتحدة في الوقت الراهن تقف مستقطَبة كأمة مقسَّمة.

المصدر: 

Bob Woodward, "Rage", (New York: Simon & Schuster, 2020).