معضلات التعافي:

تحديات إعادة إعمار "المدن المنكوبة" في المنطقة العربية

06 August 2020


تواجه محاولات وعمليات إعادة إعمار المدن المنكوبة أو المناطق المتضررة داخل تلك المدن، مثل غات في ليبيا وتعز في اليمن وبيروت في لبنان وحلب في سوريا والموصل في العراق، نتيجة الكوارث الطبيعية والصراعات المسلحة بل و"الأخطاء البشرية"، مجموعة من التحديات التي تتمثل في تزايد أعراض هشاشة الدولة الوطنية، واستمرار مروحة الصراعات المسلحة، ومواصلة الحرب ضد بقايا التنظيمات الإرهابية، والخلافات "المزمنة" بين القوى السياسية المتنافسة، ومحدودية الموارد المالية المخصصة لإعادة تأهيل المناطق العمرانية قياساً إلى المدن المتضررة، وضعف القدرة على إدارة أزمات "الطوارئ".   

ويشير التيار الرئيسي في الأدبيات إلى أن المدينة المنكوبة أو المهدمة هي منطقة جغرافية محددة تضررت بشكل بالغ من جراء حدوث كارثة طبيعية مثل الزلزال والفيضان والإعصار، أو كارثة صناعية ناتجة عن تسرب إشعاعي مثلاً، أو نزاعات عسكرية ممتدة مثل الحروب وأعمال الشغب العنيفة، على نحو يجعل تلك المدينة متضررة وتصبح أحوالها متغيرة في مرحلة ما بعد وقوع الضرر مقارنة بما قبله، فيما يخص المدن الداخلية، والمواقع الصناعية أو التجارية، والموانئ، والمناطق الساحلية، والأحياء الأثرية.

وتعكس التصريحات الرسمية الصادرة عن محافظي المدن أو رؤساء مجالس النواب أو مجالس الدفاع والأمن القومي أو مراكز الإعلام التابعة للمجالس البلدية أو المتحدثين باسم وزارة التخطيط أو بعثات الأمم المتحدة في دول الصراعات المسلحة أو ممثلي هيئات الإغاثة الإنسانية العربية والدولية، أن هذه المدينة أو تلك "منكوبة" وذلك حينما يحدث انهيار كامل في البنى التحتية، كمحطات الطاقة الكهربائية ومحطات المياه والمؤسسات الصحية والهيئات التعليمية والأجهزة الأمنية والمرافق الاقتصادية، إضافة الى ممتلكات المدنيين، مثل المنازل والسيارات.

لذا، تشهد المدن المنكوبة تزايداً في الخسائر البشرية والمادية. ولعل الإعلان عن تعرض مدينة ما لأن تكون منكوبة –وفقاً لما أوردته اتفاقية لاهاي وجنيف الرابعة وميثاق الأمم المتحدة- أن تطلب الحكومات العربية التي تقوم على إدارة تلك المدينة من المنظمات الدولية والدول الشقيقة مساعدات مادية عاجلة، للتعامل مع الأوضاع غير العادية والأضرار المعنوية، والتي تكتسب دعماً من الرأي العام العالمي في ظل مشاهد لا تنسى. 

وفي هذا السياق، تواجه عملية إعادة إعمار المدن المنكوبة في المنطقة العربية بعض التحديا، التي يمكن تناولها على النحو التالي:

عجز الدولة

1- تزايد أعراض هشاشة الدولة الوطنية: وهو ما ينطبق على الحالة اللبنانية، حيث أعلن محافظ بيروت مروان عبود أثناء الجولة التفقدية أن "المدينة أصبحت منكوبة وحجم الأضرار هائل" بعد الانفجار الذي ضرب العاصمة اللبنانية، طبقاً لما نقلته قناة "إل بي سي" في 4 أغسطس الجاري، ووفق وكالة الأنباء اللبنانية قال: "ما حدث أشبه بتفجير هيروشيما ونجازاكي". كما خرج مجلس الدفاع الأعلى اللبناني ليعلن "بيروت مدينة منكوبة" ويوصي مجلس الوزراء بإعلان حالة الطواريء في المدينة لمدة أسبوعين. ويتمثل أحد العوامل الرئيسية التي تعرقل إعادة بناء مرفأ بيروت في عدم الثقة في النخبة الحاكمة في ترجمة الموارد المالية التي تحصل عليها إلى سياسات عملية ملموسة.

ويستند ذلك إلى ما تعكسه الرواية الرسمية للتفجير، والتي تؤكد على حالة من الإهمال الحكومي، فالمواد المتفجرة تم تخزينها في أحد العنابر بمرفأ بيروت لسنوات منذ 2013، وهو أمر يطرح تساؤلات حول كيفية تخزين كل هذه الكمية من المواد المتفجرة، التي تقدر بـ 2750 طن من نترات الأمونيا، في واحد من المرافق الحيوية للاقتصاد اللبناني، وأسباب الاحتفاظ بهذه المواد لكل هذه السنوات، واشتراطات السلامة الخاصة بتخزينها. علاوة على ذلك، فتحت الأزمة ملف الفساد في إدارة الجمارك نتيجة لمخالفات متعددة منها ما يتعلّق بالتزوير والتلاعب بقيمة الفواتير وإدخال بضائع لا تخضع للرسوم الجمركية.

كما أن هذا الانفجار وقع في سياق قاعدي معبر عن عجز الدولة عن القيام بمهامها الرئيسية وتزايد الأزمات التي تواجهها لاسيما بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية، وهو ما انعكس في تراجع قيمة العملة الوطنية، علاوة على تزايد معدلات البطالة، وتراجع الاحتياطي النقدي، وتنامي الدين العام. وارتبط بهذا الأمر حدوث تراجع وتدهور شديد في البنى التحتية التابعة للدولة، وتفشى الفقر وتصاعد معدل الإصابات بكوفيد-19 وتراجع المساعدات الخارجية لأسباب من بينها اختطاف الدولة لصالح حزب الله، والذي يعبر عن الأجندة الإيرانية أكثر مما ينشغل بأولويات المصلحة الوطنية.  

نقاط الاشتعال

2- استمرار مروحة الصراعات المسلحة: تعرضت عدة مدن يمنية لنكبات متتالية منذ عام 2014، أي بعد سيطرة المتمردين الحوثيين على أجزاء من البلاد. وقد دعت الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية في اليمن (التي يسيطر عليها الحوثيون)، يوم 3 أغسطس 2020، منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، لإطلاق نداء عالمي لإنقاذ مدن صنعاء القديمة وزبيد وشبام وحضرموت، المدرجة في قائمة التراث العالمي، حيث قالت تلك الهيئة في بيان لها أن "تلك المدن تعرضت لأمطار وسيول يشهدها اليمن وتشكل تهديداً لها، لاسيما بعد أن تسببت بتهدم وانهيار عدد من معالم ومنازل هذه المدن".

كما قالت الهيئة في بيان آخر أن "مباني صنعاء القديمة التي صمدت لمئات السنين نكاد نفقدها في أي لحظة"، مؤكدة أن "هذه المدينة العالمية تواجه اليوم كارثة حقيقية تهدد وجودها بسبب استمرار هطول الأمطار الغزيرة وغير المسبوقة". وحثت الهيئة اليمنية المنظمات الدولية والمحلية ورجال الأعمال على مؤازرة الجهد المحلي في حماية هذه المدن التي "تمثل منارات تاريخية يجب الحفاظ عليها وحمايتها". كما أن إعادة إعمار حلب سوف تستغرق وقتاً طويلاً بعد أن تستكمل قوات النظام السوري السيطرة على بقية الأراضي.

وينطبق ذلك الوضع على حالة مناطق بلدية غات في أقصى جنوب غرب ليبيا، حيث أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الوفاق في 4 يونيو 2019 أنها "مدينة منكوبة"، وقالت الوزارة أن "السيول والفيضانات أغرقَت أحياءً سكنية بمدينة غات، وتسببت في العديد من الخسائر البشرية والمادية، وسببت نزوحاً للعديد من المواطنين إلى أماكن آمنة بعيداً عن الخطر، جراء السيول والفيضانات نتيجة هطول الأمطار". وأضافت الوزارة أن السيول والفيضانات في غات "تسببت في تدمير وانهيار العديد من المنازل وأغلقت الطرقات الواصلة بين المناطق، حيث تسببت في انقطاع الاتصالات والكهرباء عن معظم مناطق البلدية"، وهي كارثة لم تشهدها ليبيا منذ أربعة عقود، ونتج عنها قتلى ومفقودون، حيث يندر هطول الأمطار في المنطقة الواقعة فيها المدينة.

خطر الإرهاب

3- مواصلة الحرب ضد بقايا التنظيمات الإرهابية: وينطبق ذلك على المدن العراقية التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش" مثل مدينة الموصل التابعة لمحافظة نينوى، ولازالت تواجه خطر تعرضها لضربات إرهاب "داعش" من جانب، وعدم إنجاز الحكومة المركزية أية مشروعات لإعادة البناء في المحافظة من جانب آخر. يضاف إلى ذلك تعدد الجهات المسئولة عن الإعمار في مدينة الموصل وتضارب مصالحها، بما يؤدي إلى تأخير المشروعات التي حصلت على التمويل من البنك الدولي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك أكثر من أربع جهات مسئولة عن الإعمار وهي صندوق إعمار العراق ومحافظة نينوى ومجلس الإعمار والدوائر الخدمية، على نحو يعكس تباينات مختلفة في الرؤى والمصالح.

فجوات سياسية

4- الخلافات "المزمنة" بين القوى السياسية المتنافسة: يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن الخلافات بين الأطراف السياسية، وخاصة في حالتي لبنان والعراق، تعيق عمليات إعادة الإعمار، وتوجه رسائل للجهات المانحة بأن الأموال التي يمكن أن تقدمها تكون في غير محلها، على نحو يؤدي إلى تعطيلها تشكيل حكومة قادرة على بلورة استراتيجية محكمة لإعمار وتأهيل المناطق المنكوبة وإيجاد آلية للتخلص من الكميات الهائلة من "الأنقاض". 

نقص مالي

4- محدودية الموارد المالية المخصصة لإعادة تأهيل المناطق العمرانية: وذلك قياساً إلى المدن المتضررة من الصراعات المسلحة أو الكوارث الطبيعية في كل من ليبيا واليمن ولبنان وسوريا والعراق، التي تحتاج إلى موارد مالية هائلة ليس باستطاعة الحكومات العربية توفيرها، على الرغم من أدوار المانحين الدوليين والمنظمات الإغاثية الإنسانية ومساهمات القطاع الخاص. وهنا تجدر الإشارة إلى تعدد المشاريع التي ترعاها المنظمات الدولية في مختلف المحافظات المنكوبة، مما يؤثر على إعمارها ككل. 

وعلاوة على تعدد مراحل التمويل الذي تحتاجها المدن المنكوبة، هناك موارد مالية أولية لتقديم عون سريع للسكان المتضررين، فضلاً عن توفير مواد غذائية ومراكز إيواء وملاجئ مؤقتة للنازحين، وكذلك زوارق نجاة ومولدات كهرباء ومضخات سحب المياه وجرارات سحب الأنقاض. غير أن توفير حل مستدام طويل الأجل يتطلب دوراً آخر لإعادة التأهيل والاستقرار لتلك المدن المتضررة لاسيما في ظل وجود عدة مدن منكوبة داخل الدولة العربية، وهو ما تشير إليه حالات ليبيا واليمن والعراق.

كوارث مفاجئة

5- ضعف القدرة على إدارة أزمات "الطوارئ": تفتقد أغلب الحكومات العربية للقدرة على التعامل مع الكوارث المفاجئة، مثل السيول والفيضانات. وعلى الرغم من أن بعض الأبنية الرسمية تحتوي على إدارة للأزمات أو مواجهة الكوارث، إلا أنه عند وقوع الأخيرة لا يصبح لها تأثير، سواء بشكل استباقي أو لاحق. كما أن الصناديق التي تم تأسيسها في السنوات الماضية والتي من شأنها دعم الاستقرار في ليبيا أو إعمار المناطق المتضررة من الإرهاب في العراق لا تكون كافية لإعمار شامل للمدن المنكوبة. ويضاعف من ذلك الاتهامات التي توجه لسوء إدارة الأموال، وما يرتبط بها من ممارسات للفساد. 

عمران متهالك:   

خلاصة القول، إن هناك حزمة من الإشكاليات التي تواجه المدن العربية المتضررة من أجل تعافيها بعد الأزمات التي واجهتها، على نحو يتطلب الاستفادة من خبرات مختلفة، على المستويين الدولي والإقليمي، في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساعدة الإنسانية، ووسطاء السلام، والتراث الثقافي، والاستعداد للمخاطر، لمواجهة ضعف البنية التحتية الذي يتمثل في تدمير محطات رفع وضخ المياه، وشبكات الصرف الصحي وتفجير الجسور، وانهيار المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية. 

يضاف إلى ذلك أن معارك الجيوش النظامية لازالت جارية لاستعادة مدن ومناطق من سيطرة الميلشيات المسلحة والجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية والشبكات الإجرامية في حالات عربية عديدة، بل قد يتم وضع علامات محددة على أبنية تلك المدن على نحو يعكس تبعيتها لطائفة بعينها، ولعل الحالة المعبرة عن ذلك قيام فصائل الحشد الشعبي بملء الفراغ الناتج عن هزيمة "داعش" وانتهاء سيطرته على المدن العراقية المنكوبة عبر "المكاتب الاقتصادية والفعاليات الدينية". بخلاف كثرة المحافظات العربية المنكوبة على نحو يفرض ضغوطاً على الجهات المانحة لإعمارها في توقيت متزامن.