القلق المتصاعد:

كيف تعاملت القوى الكبرى مع تطورات الصراع الليبي؟

14 June 2020


تصاعد الاهتمام الدولي بالتطورات الأخيرة في الأزمة الليبية عقب تمكن ميليشيات الوفاق والمرتزقة الأجانب بدعم تركي من السيطرة على الغرب الليبي، والتوجه نحو مدينة سرت الاستراتيجية سعيًا إلى السيطرة على الهلال النفطي الذي يمثل نحو 80% من إجمالي احتياطات النفط الليبية، وهو ما قد يكون له العديد من التداعيات على مصالح القوى الكبرى الفاعلة في الصراع؛ إذ إن تصاعد الدور التركي قد أثار قلق الحلفاء والخصوم المعنيين بالصراع الليبي على السواء.

التطورات الميدانية:

شكَّلت التطورات الميدانية الأخيرة نقطة تحول بارزة في الصراع الليبي؛ ويمكن تناول أبرز تلك التطورات على النحو التالي:

1- السيطرة على "ترهونة": أعلنت قوات حكومة الوفاق الوطني في 5 يونيو الجاري، أنها استعادت، بدعم تركي، السيطرة على مدينة ترهونة، ولم تكن سيطرة ميليشيات الوفاق على مدينة ترهونة أمرًا مفاجئًا، نظرًا إلى أهميتها الاستراتيجية. وكانت ترهونة التي تبعد عن العاصمة طرابلس نحو 88 كم إلى الجنوب الشرقي، مقرًّا لغرفة عمليات الجيش الوطني الليبي وقاعدته الخلفية الرئيسية التي تشن قواته هجماتها منها على جنوب طرابلس، وكذلك تسعى الميليشيات بدعم تركي إلى السيطرة على مدينة سرت الاستراتيجية التي تمثل مفتاح السيطرة على الهلال النفطي، وهو ما يعد خطًّا أحمر بالنسبة إلى العديد من القوى الإقليمية وحتى الدولية.

2- الدعم العسكري التركي: تقوم تركيا بتعزيز الدعم العسكري المقدم لميليشيات حكومة الوفاق. وقد كشف موقع "فلايت رادار 24"، في 11 يونيو الجاري، عن اقتراب ثلاث طائرات شحن عسكرية وسفينة تركية من أجواء الغرب الليبي. وقال الموقع المَعني بتتبع حركة الطائرات، إن طائرتين منها أقلعتا من مطار إسطنبول. أما الثالثة فمن قاعدة قونيا العسكرية التركية. وقبل ذلك بأيام، أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 8 يونيو الجاري، بأن الاستخبارات التركية تشرف على فصيل يضم عشرات المسلحين من داعش، مشيرًا إلى أن من مهام الفصيل تجنيد مرتزقة لصالح تركيا للقتال في ليبيا، وسط تقديرات بوجود نحو 13 ألف مرتزق موالٍ لتركيا في ليبيا يحاربون الجيش الوطني الليبي.

3- معارضة جهود التهدئة: سارعت حكومة الوفاق إلى إعلان رفض المبادرة المصرية في 6 يونيو الجاري بإيعاز تركي. وأعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا خالد المشري، رفض أي مبادرة لا تقوم على الاتفاق السياسي الليبي، مضيفًا أنه "لا مكان لحفتر في أي مفاوضات قادمة"، في حين أعرب وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو في 11 يونيو الجاري، عن تشاؤم تركيا إزاء المبادرة المصرية الأخيرة الرامية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في ليبيا وتسوية النزاع سياسيًّا، وهو ما يعكس رغبة تركية حثيثة في عسكرة الصراع بشكل أكبر خلال المرحلة المقبلة.

تباين الاصطفافات:

تشهد مواقف القوى الكبرى من التطورات الأخيرة المتعلقة بالأزمة الليبية، انقسامًا بالرغم من تأكيد تلك القوى أولوية الحل السلمي، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- ضبابية الموقف الأمريكي: بالرغم من إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تأييده المبادرة المصرية لحلحلة الأزمة الليبية المعروفة باسم "إعلان القاهرة"، فإن واشنطن لم تبذل جهدًا كافيًا من أجل ثَنْي أنقرة عن دورها المؤجج للصراع على مدار الأشهر القليلة الماضية. وخلال اتصال هاتفي بين ترامب وأردوغان أكد الأخير التوافق بينهما حول "بعض القضايا" المتعلقة بالتطورات الأخيرة في ليبيا.

ويمكن القول بأن أنقرة قد نجحت في توظيف الارتباك الأمريكي بجانب توظيف ورقة الانخراط الروسي في الصراع الليبي من أجل إقناع واشنطن بلعب دور أكثر فاعليةً في الملف الليبي، وهو ما تجلَّى بوضوح مع غض واشنطن الطرف عن الانتهاكات التركية المستمرة للقرارات الأممية المتعلقة بحظر توريد الأسلحة إلى ليبيا، علاوةً على ما تقوم به أنقرة من نقل لآلاف المقاتلين الأجانب من سوريا إلى ليبيا.

2- التفاهم الروسي–التركي: تشير التقديرات إلى وجود دعم عسكري روسي مقدم للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، علاوة على انخراط مقاتلين تابعين لمجموعة "فاغنر" الروسية المقربة من الكرملين مع قوات الجيش. وقالت القيادة الإفريقية بالجيش الأمريكي في أواخر مايو الماضي، إن نحو 14 طائرة من طراز ميغ 29، وأخرى من طراز SU-24، وصلت من روسيا إلى ليبيا، قائلةً: "هذه الطائرات يُرجَّح أنها لتقديم دعم جوي قريب وقوة نارية هجومية".

وبالرغم من التماهي الروسي مع فكرة وجود جيش نظامي وطني في ليبيا، فإن ذلك لم يمنع موسكو من التنسيق مع أنقرة، في محاولة لإعادة إنتاج التوافق النسبي بين الطرفين في الملف السوري؛ حيث تعززت المحادثات الثنائية بشأن ليبيا بين البلدين منذ يناير الماضي وصولاً إلى الإعلان عن زيارة رفيعة المستوى تضم وزيري الدفاع والخارجية الروسيين إلى أنقرة في 14 يونيو الجاري، قبل أن يتم الإعلان عن إرجاء الزيارة.

وفي ضوء التطورات الأخيرة، دعمت موسكو في 3 يونيو الجاري مبادرة رئيس مجلس النواب الليبي المستشار "عقيلة صالح" السياسية كأساس للتسوية في ليبيا. وقد استقبلت موسكو صالح في 8 يونيو الجاري للتباحث حول الأوضاع الليبية. وتزامنًا مع ذلك فقد رفضت موسكو استقبال رئيس حكومة الوفاق فايز السراج؛ إذ قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، إنه لا توجد في جدول أعمال الرئيس فلاديمير بوتين، أي خطط لعقد لقاءات مع السراج.

3- توجُّس أوروبي متصاعد: شهد الصراع الليبي مراحل متفاوتة من الاختلاف الأوروبي، لا سيما بين إيطاليا وفرنسا؛ إذ إن إيطاليا كانت أكثر دعمًا لحكومة الوفاق بحكم مناطق نفوذها التقليدي في غرب ليبيا، في حين كانت فرنسا أكثر دعمًا للجيش الوطني الليبي. وبالرغم مما أثاره التدخل التركي خلال الأسابيع الأخيرة من إثارة حفيظة الأوربيين، فإن الاتحاد الأوروبي لم يبذل جهدًا كافيًا من أجل منع تدفق السلاح إلى ليبيا، ولم تفلح عملية "إيريني" البحرية التي تم إطلاقها في مطلع مايو الماضي، في ردع أنقرة عن الاستمرار في دورها المشبوه في الصراع الليبي.

ومع تزايد نفوذ ميليشيات الوفاق بدعم تركي، ومحاولة تمديد النفوذ باتجاه سرت ثم إلى منطقة الهلال النفطي؛ فقد كان هناك رفض أوروبي شديد لذلك؛ لما قد ينتج عنه من تأثير على مصالح الأوربيين في ليبيا بشكل كبير، ويُمكِّن أنقرة من أن تملك أغلب أوراق الضغط الرابحة في الداخل الليبي؛ لذا فقد دعمت الدول الأوروبية "إعلان القاهرة"، كما رحَّب الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 10 يونيو الجاري، بالمبادرة المصرية لحل الأزمة الليبية، قائلاً إنها "تُعزز مقررات مؤتمر برلين"، فيما نددت فرنسا في 14 يونيو الجاري بالتدخل التركي "غير المقبول" في ليبيا، وأضافت أن "هناك سياسة أكثر عدوانية وتصلبًا من قبل تركيا مع نشر 7 سفن قبالة ليبيا، وانتهاك الحظر المفروض على التسليح".

وفي المجمل، فإن القوى الكبرى تراقب التحركات التركية في ليبيا بقلق متصاعد، إلا أنه لا يزال هناك غياب لإرادة دولية فاعلة قادرة على صد الأطماع التركية، خاصةً أن ما أثار قلق القوى الكبرى الفاعلة، ليس التدخل التركي في حد ذاته، وإنما حدود الدور التركي الآخذ في التصاعد بشكل كبير. وإذا استمرت أنقرة في السعي نحو تمديد نفوذها باتجاه سرت وقاعدة الجفرة الجوية والهلال النفطي، فإن ذلك من شأنه أن يهدد أي مسارات للتسوية في المدى المنظور، ومن شأنه أن يعزز عسكرة الصراع، خاصةً لما تمثله الأطماع التركية من تهديدات مباشرة للأمن القومي الليبي ولثروات منطقة شرق المتوسط، بجانب ما يمثله ذلك من مخاطر أمنية جمَّة على الدول الأوروبية.