خلط الأوراق:

لماذا تعارض طهران اتفاق واشنطن مع "طالبان"؟

08 March 2020


فور الإعلان عن توقيع اتفاق بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" في أفغانستان، في 29 فبراير الفائت، سارعت إيران إلى رفضه معتبرة أن الأولى لا تمتلك أحقية إبرامه مع فاعل محلي وأنه من الضروري أن يشمل أى اتفاق مجمل الأطراف، في إشارة إلى استبعاد الحكومة الأفغانية منه. وفي الواقع، فإن ذلك يعود إلى أن هذا الاتفاق يمكن أن يؤدي إلى إرباك حسابات وخلط أوراق طهران داخل أفغانستان، والتي تبدي اهتماماً خاصاً بدعم نفوذها فيها لاعتبارات أمنية واستراتيجية عديدة، على نحو ربما يدفعها إلى العمل على محاولة عرقلته خلال المرحلة القادمة، خاصة بعد أن حرص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 6 مارس الجاري، على عدم استبعاد احتمال وصول الحركة إلى الحكم بعد انسحاب القوات الأمريكية.

اعتبارات عديدة:

يمكن تفسير رفض إيران للاتفاق في ضوء عوامل عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تجدد التوتر: تبدي دوائر عديدة في طهران مخاوف من أن يدفع هذا الاتفاق حركة "طالبان" إلى تغيير سياستها تجاهها، وبالتالي تعزيز احتمالات تجدد التوتر والصراع من جديد، وهو ما عملت طهران على احتواءه في الفترة الماضية، بل إنها سعت إلى تطوير علاقاتها مع "طالبان" وإنهاء حقبة العداء التي كادت أن تؤدي إلى نشوب حرب شاملة بين الطرفين في عام 1998، قبل أن تقوم الولايات المتحدة بغزو أفغانستان وإسقاط حكمها في إطار الحرب الأمريكية على الإرهاب عام 2001.

وقد تعددت اللقاءات بين الطرفين، وكان آخرها في 27 نوفمبر 2019، وبالتوازي مع المحادثات التي أجرتها واشنطن مع الحركة، حيث قام وفد برئاسة الملا عبد الغني بزيارة طهران ولقاء وزير الخارجية محمد جواد ظريف، ومن دون شك، كانت التفاهمات المستمرة مع واشنطن هى محور المحادثات في طهران. بل إن التعاون بين الطرفين وصل إلى أعلى المستويات، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أن قائد الحركة الملا اختر منصور قتل في غارة أمريكية خلال عودته من زيارة إلى إيران في 22 مايو 2016. 

2- استحقاقات مؤجلة: يساهم تلميح الرئيس ترامب إلى إمكانية وصول الحركة إلى الحكم من جديد في تعقيد المسألة بالنسبة لإيران. فرغم أن النمط التعاوني أصبح هو الغالب في علاقاتها مع "طالبان"، إلا أن ذلك لا يعني أنها سوف تتسامح بسهولة مع وصولها إلى الحكم، خاصة إذا كانت ستنفرد به. وبمعنى آخر، فإيران قد ترحب بمشاركة الحركة في السلطة دون أن تهيمن عليها، وهو "خط أحمر" تعمل إيران على عدم تجاوزه لمنع تكرار ما حدث في عام 1998.

3- توسيع الخيارات: ربما يساهم هذا الاتفاق في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمام "طالبان"، وهو ما قد لا يتوافق مع حسابات طهران. فقد سعت الأخيرة خلال الفترة الماضية إلى استغلال العزلة التي تعرضت لها الحركة، في ظل علاقاتها القوية مع تنظيم "القاعدة"، من أجل ممارسة ضغوط عليها ودفعها إلى عدم التحرك من أجل عرقلة جهودها للتمدد داخل أفغانستان. وهنا، فإن الاتفاق الجديد قد يدفع "طالبان" إلى التمرد على الضغوط الإيرانية، وربما الاتجاه نحو ممارسة ضغوط مضادة على الأخيرة، خاصة في ظل حالة الارتباك التي تتسم بها سياستها في الإقليم بفعل التداعيات التي أنتجها مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، مع نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" العراقية أبومهدي المهندس، بضربة أمريكية في 3 يناير الماضي.

وربما يمكن القول إن "طالبان" ستحاول خلال الفترة القادمة توسيع حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمامها في تفاعلاتها مع كل الأطراف المعنية بتطورات الصراع في أفغانستان والمنخرطة فيه، لاسيما حكومة كابول وإيران والولايات المتحدة وحتى روسيا والصين، من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاستراتيجية خلال تلك الفترة. وقد تسعى في المدى القريب إلى توجيه رسائل إلى تلك الأطراف بأن الخيارات المتاحة أمامها ليست محدودة.

4- مصير "فاطميون": لا يمكن استبعاد أن يكون مصير الميليشيات الطائفية المسلحة التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها خلال الأعوام الماضية للانخراط في الصراع السوري إلى جانب القوات النظامية، ومنها "لواء فاطميون" الذي يضم شيعة أفغان، محط جدل ومناقشات داخل دوائر صنع القرار في طهران خلال الفترة الحالية. فقد كان سليماني هو المسئول الأول والمباشر عن إدارة العلاقة مع تلك الميليشيات، ومن ثم فإن مقتله سوف يؤدي حتماً إلى إرباك تلك العلاقة، ولا توجد مؤشرات توحي بأن خليفته إسماعيل قاآني يستطيع ملء الفراغ الناتج عن غيابه، خاصة في ظل التحفز الأمريكي لتوجيه مزيد من الضربات إلى طهران في حالة ما إذا أقدمت على محاولة استهداف مصالح واشنطن في المنطقة من جديد.

كما أنه لا يوجد ما يؤكد أن "فيلق القدس" في طريقه إلى مواصلة الدور نفسه خلال المرحلة القادمة، إذ قد لا يستطيع النظام الإيراني استيعاب ضربة قوية مماثلة لتلك التي تلقاها بقتل سليماني، خاصة أنها رتبت تداعيات وعواقب لم يكن يضعها في اعتباره على غرار تصاعد حدة التوتر في علاقاته مع الدول الغربية عقب اعترافه بإسقاط الطائرة المدنية الأوكرانية عمداً بعد ساعات من إطلاق صواريخ باليستية على القاعدتين العراقيتين اللتين تتواجد بهما قوات أمريكية في 8 يناير الماضي.

5- مقاربة رفسنجاني: تتابع طهران بدقة المعطيات التي يمكن أن تنتج عن الاتفاق الجديد، خاصة على صعيد انسحاب القوات الأمريكية الموجودة في أفغانستان، وهو الهدف الأهم الذي تسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى تحقيقه عبر هذا الاتفاق، باعتبار أنه أحد الوعود التي أعلن الرئيس ترامب التزامه بها قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية ويتوقع أن يستثمره في الانتخابات الرئاسية القادمة في سياق سعيه إلى تجديد ولايته الرئاسية.

ورغم أن إيران دائماً ما كانت تدعو إلى انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة، وبدا ذلك جلياً في دعمها للتحركات النيابية العراقية لإصدار قانون يلزم الحكومة بالعمل على تحقيق ذلك، في مرحلة ما بعد مقتل سليماني والمهندس، فإن ذلك لا ينفي أن هذا الانسحاب المحتمل قد يحرمها من ورقة ضغط دائماً ما كانت تحاول استغلالها ضد الولايات المتحدة.

فقد سعت إيران باستمرار إلى تحويل الوجود العسكري الأمريكي في المناطق المحيطة بها إلى ما يمكن تسميته بـ"الحصار المضاد"، باعتبار أن وجود قوات أمريكية قرب حدودها يضعها "رهينة" لديها، وهى المقاربة التي سبق أن طرحها الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني عندما كان يؤكد أن إيران هى التي تحاصر الولايات المتحدة وليس العكس.

وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن إيران سوف تكون أول الأطراف التي سوف تسعى إلى عرقلة تنفيذ الاتفاق، لاسيما أنه ما زال في مرحلته الأولى وتنتظره تحديات عديدة، على غرار مستقبل العلاقة بين "طالبان" والحكومة الأفغانية، التي كانت الطرف الغائب في المحادثات التي جرت بين واشنطن والحركة.