اعتبارات عديدة :

لماذا جاء الرد الإيراني على مقتل سليماني محدوداً؟

12 January 2020


لم تكن الضربات الصاروخية التي وجهتها إيران ضد قاعدتين عراقيتين تتواجد بهما قوات أمريكية، في 8 يناير الجاري، رداً على العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وأسفرت عن مقتل قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري وأبومهدي المهندس نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" العراقية ومرافقيهم، قبل خمسة أيام، على مستوى التوقعات، التي كانت ترجح ارتفاع سقف التصعيد الإيراني بعد الخسارة الفادحة التي تعرضت لها طهران بمقتل سليماني، الذي كان يحظى بمكانة ونفوذ كبير داخل النظام. ففور مقتل الأخير، تصاعدت حدة التهديدات الإيرانية بالانتقام ورفع كلفة الإجراءات العقابية التي تتخذها واشنطن ضد طهران، على المستويين الاقتصادي (عبر العقوبات) والعسكري (باستهداف سليماني)، إلا أن إيران ارتأت في النهاية الاكتفاء، على الأقل في المرحلة الحالية، بهذه الضربات، بشكل بدا جلياً في تصريحات وزير الخارجية محمد جواد ظريف، عقب الضربات، التي قال فيها أن "كل شئ انتهى ولا نسعى للتصعيد".

رسائل متناقضة:

رغم أن تلك التصريحات وجهت رسائل توحي بأن الأخيرة لن تسعى إلى توسيع نطاق التوتر مع الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي، إلا أنها ربما لا تعبر عن النوايا الحقيقية لإيران، التي قد ترى أن هذا الخيار يمكن أن يؤجل لمرحلة لاحقة، أو قد تكلف الميليشيات الموالية لها بالقيام بتلك المهمة في الفترة القادمة، على غرار ما فعلت في مراحل سابقة في سياق إدارتها للخلافات المستمرة مع واشنطن.

ويمكن تفسير حرص إيران على عدم رفع سقف التصعيد، على الأقل في المرحلة الحالية، مع الولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- قوة الردع الأمريكية: بدا واضحاً أن الهدف الأساسي من الضربة الأمريكية التي أسفرت عن قتل قاسم سليماني يكمن في استعادة قدرة الردع الأمريكية في مواجهة إيران، حيث اعتبرت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن عدم تحرك واشنطن عسكرياً لمواجهة إجراءات طهران التصعيدية في الشهور الماضية وجه رسالة خاطئة للأخيرة بأن الأولى لا تملك خيارات واسعة، خاصة في المجال العسكري، للتعامل معها، بما دفعها إلى الاستمرار في تبني هذه السياسة.

وربما يمكن القول إن إيران أدركت أن إقدام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا التوقيت تحديداً على تصفية سليماني، رغم أن الإدارتين الأمريكيتين السابقتين كانتا تستطيعان استهدافه قبل ذلك، كان إشارة واضحة بأن إدارة ترامب تتجه إلى اتخاذ خطوات جدية لردع إيران عسكرياً، حتى لو أدى ذلك إلى رفع مستوى التصعيد وتوجيه ضربات عسكرية أكثر قوة وتأثيراً، على نحو بدا جلياً في التهديدات التي وجهها الرئيس ترامب عقب مقتل سليماني، والتي أشار فيها إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية حددت 52 هدفاً إيرانياً يمكن أن تتعرض لهجمات أمريكية في حالة ما إذا أسفر الرد العسكري الإيراني على مقتل سليماني عن وقوع خسائر بشرية أمريكية.

2- ضغوط الوسطاء: يبدو أن الأطراف التي سعت إلى التوسط قبيل ساعات قليلة من الهجمات الصاروخية الإيرانية، حاولت مماسة ضغوط على طهران من أجل ضبط حدود رد فعلها ضد المصالح الأمريكية، وعدم رفع مستوى التصعيد، الذي من الممكن أن يؤدي إلى نشوب مواجهة عسكرية مفتوحة.

3- سياق غير مواتٍ: فرضت الأزمات التي تواجهها إيران على المستويات المختلفة، الداخلية والإقليمية والدولية، خيارات محدودة أمامها للتعامل مع المعطيات الجديدة التي أنتجها مقتل سليماني في هذا التوقيت تحديداً. إذ يفقد النظام الإيراني رصيده تدريجياً على مستوى الشارع الإيراني، بشكل انعكس في الاحتجاجات التي تندلع بين فترة وأخرى بسبب الضغوط الاقتصادية التي يتعرض لها الإيرانيون. كما يتسع نطاق خلافات إيران مع العديد من القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة. فضلاً عن أنها خسرت إلى حد كبير رهانها على العوائد التي يمكن أن تحصل عليها من الاتفاق النووي والعلاقات مع الدول الأوروبية بعد الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها على صعيد البرنامج النووي ودعمت من احتمالات انهيار الاتفاق في المرحلة القادمة، حيث رفعت، بمقتضى الخطوة الخامسة التي أعلنت عنها في 5 يناير الجاري، مجمل القيود التي كانت مفروضة على طاقة وحجم تخصيب اليورانيوم وعمليات البحث والتطوير المرتبطة به.

وقد بدا لافتاً من ردود فعل بعض الدول الأوروبية على مقتل سليماني أنها اقتربت بدرجة ملحوظة من السياسة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية إزاء إيران، حيث قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، على سبيل المثال، أن "ٍسليماني كان يشكل خطراً كبيراً على كل مصالحنا"، مضيفاً: "اضطلع بدور بارز في أعمال أدت لمقتل آلاف المدنيين الأبرياء في الغرب".

ومن هنا، يمكن القول إن إيران أدركت أنه في ظل هذه الأزمات المختلفة لا تستطيع المغامرة برفع مستوى التصعيد العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت تحديداً.

احتمال قائم:

مع ذلك، فإن هذا الموقف قد لا يمثل نهاية المطاف. إذ أن الضغوط التي ربما تمارسها المؤسسة العسكرية، لاسيما الحرس الثوري، لتوجيه مزيد من الضربات، وإن كانت بشكل غير مباشر، قد تدفع في النهاية طهران إلى رفع مستوى التصعيد من جديد، خاصة أن بعض الاتجاهات الإيرانية قد ترى، على عكس كثير من التقديرات، أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية ربما يضع سقفاً للخيارات التي يمكن أن يستند إليها الرئيس ترامب في التعامل مع هذا التصعيد.

فضلاً عن أن أى تدهور في العلاقات بين خصوم إيران، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ووكلاءها، يمكن أن يكون كفيلاً بتعزيز احتمالات بدء جولات أخرى من التصعيد في المرحلة القادمة.