مصالح متضادة:

أسباب تصاعد حرب التصريحات بين ماكرون وأردوغان

05 December 2019


دفعت الانتقادات التي وجهها الرئيس الفرنسي "ماكرون" للعملية العسكرية التي نفّذتها تركيا في أكتوبر الماضي ضد وحدات حماية الشعب الكردية شمال سوريا، الرئيسَ "أردوغان" إلى مهاجمته، واصفًا إياه بأنه "في حالة موت دماغي"، وهو الأمر الذي اعتبرته باريس إهانة، واستدعت السفير التركي لديها.

وتكشف التصريحات والتصريحات المضادة عن حجم التوتر في العلاقات بين البلدين، كما كشفت عن تعقيدات الحل للملفات الشائكة بينهما، ولا سيما موقف باريس الداعم بقوة للقضية الكردية، فضلًا عن انتقاد فرنسا لملفات الديمقراطية والحريات في تركيا.

ملفات عالقة:

لا يمكن القول إن انتقادات "ماكرون" للتوغل التركي في الشمال السوري هي فقط التي تقف وراء تصاعد التوتر بين البلدين، إذ إن هناك العديد من الملفات العالقة، ولا سيما ملف شرق المتوسط، وهو ما يمكن بيانه على النحو الآتي:

1- إدارة الأزمة السورية: تعد إدارة الأزمة في سوريا الملف الأكثر تعقيدًا في العلاقات الفرنسية-التركية، إذ خيّم التوتر على علاقات البلدين بشأنها، خاصة في ظل قوة الموقف الفرنسي الرافض للتوغل التركي في مناطق شرق الفرات، فقد أكد "ماكرون" ضرورة وقف عملية "نبع السلام" ضد وحدات حماية الشعب الكردية، ووصفها بـ"الجنون"، كما اعتبر عملية "غصن الزيتون" التي شنتها تركيا في منطقة عفرين السورية حيث الغالبية الكردية "غزوًا". 

وفي الوقت الذي تعتبر فيه أنقرة وحدات حماية الشعب الكردية جماعة إرهابية، فإن فرنسا تثمن دورهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وظهر ذلك في لقاء "ماكرون" في أكتوبر الماضي "جيهان أحمد" المتحدثة باسم "قسد". وتعتقد باريس أن عسكرة الأزمة في شرق الفرات، ربما يؤدي إلى إرباك لتوازنات القوة على الساحة السورية لغير مصلحتها، خاصة أن انسحاب القوات الأمريكية من مناطق شرق الفرات قبل بدء التوغل التركي الأخير، ربما يعني إجبار القوات الفرنسية والبريطانية على الانسحاب من الشمال السوري، نظرًا لأنهم يعتمدون على الدعم اللوجيستي الأمريكي. ومن هنا، يبدو أن معارضة فرنسا للانخراط التركي شرق الفرات، يأتي ضمن الخوف من التأثير على دورها في المنطقة، وإضعاف نفوذها، وهو الخيار الذي يمكن أن يفرض عواقب وخيمة على مستقبل دور الاتحاد في المنطقة.

2- ترحيل الدواعش: ترفض فرنسا سلوك أنقرة بتعظيم الاستثمار في ملف الدواعش الأجانب للحصول على موارد مالية إضافية من الغرب من جهة، ومن جهة أخرى التهديد بتسهيل نقل عناصر "داعش" إلى أوروبا بهدف الحصول على موافقة الاتحاد على المقترح التركي بإنشاء منطقة آمنة في شمال سوريا، وإسكات الأصوات المناهضة لعملية التغيير الديموغرافي في مدن شرق الفرات لإحلال العنصر العربي على حساب التركيبة الكردية لهذه المدن.

وبينما اتّجهت تركيا إلى إعادة مقاتلين متشددين من تنظيم الدولة الإسلامية إلى أوطانهم، تصر فرنسا على وضع آلية قضائية قادرة على محاكمة الدواعش الفرنسيين على الأراضي العراقية بعد نقلهم من سوريا، مكتفية باسترجاع نحو 100 من أطفال "داعش" المحتجزين لدى الإدارة الذاتية لقوات سوريا الديمقراطية.

3- عسكرة شرق المتوسط: لا تزال تركيا تمارس نشاطات غير قانونية في منطقة شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز والطاقة قبالة سواحل قبرص من دون اتفاقيات قانونية تحدد مناطقها الاقتصادية الخالصة وشواطئها البحرية.

وفي هذا السياق، أعلنت فرنسا رفضها القاطع لأعمال التنقيب التركية في شرق المتوسط، واصفة إياها بغير القانونية، وظهر ذلك في تحذير الرئيس "ماكرون"، في 22 أغسطس 2019، عشية لقائه رئيس وزراء اليونان في باريس، من أعمال التنقيب عن الغاز التي تقوم بها قبالة سواحل جزيرة قبرص، مؤكدًا عدم تهاون بلاده والاتحاد الأوروبي مع الأمر. وأضاف أن اليونان "تواجه زيادة في التحديات بمنطقة شرق البحر المتوسط، بسبب تصرفات تركيا في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص". كما أكد عقب قمة لرؤساء دول جنوب الاتحاد الأوروبي بمالطا، في يونيو الماضي أن "الاتحاد الأوروبي لن يُظهر ضعفًا في هذا الأمر".

وفي بيان لها في 6 أكتوبر الماضي، بعد وصول سفينة تنقيب تركية جديدة إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية، أكدت الخارجية الفرنسية أن السلوك التركي يشكل انتهاكًا لسيادة جمهورية قبرص وللقانون الدولي، ناهيك عن أنها إشارة غير ودية من شأنها أن تقود إلى تصعيد للتوتر في شرق المتوسط.

والأرجح أن الرفض الفرنسي لسلوك أنقرة يعود لاعتبارات عدة، منها توقيع شركة "توتال" الفرنسية على عقود مع قبرص اليونانية للتنقيب عن مكامن الطاقة. كما وقعت باريس في مايو الماضي مع نيقوسيا اتفاقية تنص على "التعاون في المنطقة المتنازع عليها بشرق المتوسط"، وبموجب الاتفاقية تكون فرنسا "مجبرة على دعم قبرص عسكريًّا في حال قامت تركيا بأي عمل عسكري ضد قبرص". كما أسست البحرية الفرنسية قاعدة عسكرية جنوب قبرص اليونانية، وهو ما يؤكد عمق المصالح التي تربط البلدين، ويعزز مناهضة باريس لأعمال التنقيب التركي.

لذلك، دعمت فرنسا التوجه الأوروبي في يوليو الماضي نحو تمديد عقوبات على أنقرة لمواصلتها أعمال التنقيب غير القانونية قبالة سواحل قبرص، في الصدارة منها اقتطاع 145,8 مليون يورو من المبالغ الأوروبية التي يُفترض أن تستفيد منها تركيا عام 2020. 

4- مستوي الحريات: تتصاعد المخاوف الفرنسية من تراجع حرية التعبير والصحافة وأوضاع حقوق الإنسان في تركيا، وتجلى ذلك في خطاب "ماكرون" أمام الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا في 2 أكتوبر الماضي، حيث قال: "إن دولًا أوروبية لا تزال تنتهك حقوق الإنسان الأساسية بعد مرور ثلاثين عامًا على انهيار جدار برلين"، معتبرًا أنّ تركيا مثال على ذلك.

والواقع أن الانتقاد الفرنسي للسلوك القمعي في الداخل التركي لم يكن جديدًا أو هو الأول من نوعه، ففي مايو الماضي أبدت فرنسا استياءها من التراجع في مستوى الحريات في تركيا، خاصة بعد إدانة القضاء التركي 5 صحفيين، بينهم مراسل سابق لصحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية.

سلوك "ماكرون" الناقد للملف الحقوقي التركي دفع تركيا إلى اتهامه بأنه يتصرّف مثل "الديك الصيّاح". وتصاعدت حدة التوتر خاصة مع اتهام باريس للنظام التركي بالسعي إلى تأميم السلطة، وتفصيل المشهد على مقاس طموحات الرئيس "أردوغان"، من خلال التعديلات الدستورية التي تم تمريرها في أبريل 2017، وحولت البلاد لجهة النظام الرئاسي.

مظاهر كاشفة:

اتّساع نطاق التوترات بين فرنسا وتركيا خلال الفترة الأخيرة بسبب التباين في التعامل مع بعض القضايا الرئيسية، على غرار التدخلات التركية في شرق الفرات، والتنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط من دون ترتيبات قانونية، كشفت عنها العديد من المؤشرات:

1- الاعتراف بالإبادة الأرمنية: دخلت العلاقة مناخ الشحن بين أنقرة وباريس على خلفية إعلان الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، في 13 أبريل الماضي، عبر مرسوم رئاسي يوم 24 أبريل "يوم ذكرى إبادة الأرمن" ليحقق بذلك أحد تعهداته التي قطعها أثناء حملته الرئاسية في عام 2017. وأثار هذا القرار غضبًا تركيًّا عارمًا وتنديدًا من قبل أنقرة، لا سيما وأن الجمعية الوطنية الفرنسية كانت قد اعترفت بمجازر الإبادة في عام 2011. والواقع أن تخصيص يوم وطني للأرمن في فرنسا قد يسهم في تسريع فتح الباب أمام مطالبة أنقرة بتعويضات مالية، ناهيك عن مطالب بإعادة الممتلكات الأرمنية، وهو ما ترفضه أنقرة، وتعتبره يتعارض مع الحقائق التاريخية.

2- منع دخول الأئمة: تشهد العلاقات الفرنسية-التركية توترًا كبيرًا منذ ما يقرب من ثلاثة أعوام، بفعل تصاعد الأدوار السلبية للأئمة الأتراك في فرنسا، وخاصة التابعين للاتحاد الإسلامي التركي "ديتيب". واتجهت فرنسا في الشهور الماضية إلى الاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في مساجدها منعًا لترويج نسخة الإسلام السياسي المتشددة، ناهيك عن تراجع صورة الأئمة الأتراك بعد تورطهم في فضائح تجسس لمصلحة حكومة العدالة والتنمية.

كما وعد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في أبريل 2019، بألا يكون هناك أيّ "تهاون" في مواجهة أولئك الذين يريدون فرض "إسلام سياسي يسعى إلى الانفصال" عن المجتمع الفرنسي. كما وبّخت فرنسا في مايو الماضي على لسان وزير التعليم الحكومةَ التركية ردًّا على سعي أنقرة نحو تأسيس مدارس دينية في فرنسا.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا تُجري تخفيضًا في عدد الموظفين الدينيين الأتراك القادمين إليها تدريجيًّا اعتبارًا منذ عام 2015، ليتم الاستعاضة عنهم برجال دين من داخل فرنسا.

3- التصريحات والبيانات المضادة: وصف الرئيس "ماكرون" التدخل العسكري التركي في شرق الفرات بـ"الغزو" تارةً، وبـ"الجنون" تارة أخرى. كما أصدرت باريس تعليمات لسفراء فرنسا بالخارج بعدم حضور اليوم الوطني لتركيا في أكتوبر الماضي. كما لم توجه الدعوة لأنقرة هذا العام لحضور الذكرى السنوية لهدنة "كومبين" في 11 نوفمبر من كل عام، والتي بموجبها تم إنهاء الحرب العالمية الأولى.

في مقابل ذلك، وبّخت أنقرة باريس في تصريحات مضادة، فبينما وصف "أردوغان" في 29 نوفمبر الماضي نظيره الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، بأنه "ميت دماغيًّا"، مضيفًا: "يجب عليك أن تتحقق مما إذا كنت تعاني من الموت السريري"؛ فقد شبه وزيرُ الخارجية التركي الرئيسَ الفرنسي "ماكرون" بأنه "ديك يصيح"، وذلك ردًّا على انتقادات باريس للتضييق في المجال العام داخل تركيا.

مسارات محتملة:

تتمثل أهم المسارات المحتملة المتوقعة للعلاقات بين فرنسا وتركيا فيما يلي:

1- تكثيف الضغوط: لا تزال فرنسا تُعارض الانخراط التركي في سوريا ومنطقة شرق المتوسط، وتعتبر السلوك التركي بشأن عدد من الملفات العالقة عملًا أحادي الجانب يهدد بتقويض استقرار المنطقة. ولذلك قد تتجه فرنسا إلى محاصرة تركيا دوليًّا عبر تكثيف الضغوط في المؤسسات الدولية والإقليمية، وتجلى ذلك في الضغط على دول الاتحاد الأوروبي لعدم إصدار تصاريح تصدير أسلحة جديدة إلى تركيا ردًّا على توغلها في شرق الفرات، باعتباره يقوض الاستقرار الإقليمي، ويتسبب في معاناة المدنيين.

2- تعزيز التفاهمات: تقوم السياسة الخارجية للدول على المصالح والعلاقات الدولية؛ ولذلك قد تسعى أنقرة وباريس إلى إنتاج مواقف متناغمة تجاه أحداث المنطقة بفعل تقاطعات المصالح المشتركة. 

وفي هذا السياق، تدرك باريس وأنقرة حاجتهما إلى بعضهما، فالأولى تعي أهمية التعاون مع تركيا لمواجهة الارتدادات السلبية للأزمات الإقليمية، وبخاصة موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية. كما أن تزايد حالات فرار عناصر "داعش" بعد عملية "نبع السلام" أدى إلى زيادة مخاوف دول الاتحاد -وخاصة فرنسا- من احتمال وقوع هجمات إرهابية داخل أراضيها، وهو ما يفرض ضرورة مواصلة التنسيق مع تركيا التي تمثل أحد الممرات الآمنة لعبور الإرهابيين إلى أوروبا.

في المقابل، فإن تركيا لا تزال تبدى اهتمامًا خاصًّا بشأن تجدد مفاوضات عضوية الاتحاد الأوروبي الذي تقوده فرنسا وألمانيا، إضافة إلى حاجة تركيا للمساعدات المالية الأوروبية لمحاصرة أزمتها الاقتصادية، وتدرك أنقرة أن تمرير الدعم المالي الأوروبي لن يتم دون موافقة فرنسية.

ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من حاجة فرنسا وأنقرة إلى بعضهما لتحقيق مصالح مشتركة، وسعيهما إلى ضبط حدود الخلاف؛ إلا أن الحرب الكلامية الأخيرة بين أنقرة وباريس جاءت كاشفة عن استمرار تنامي مساحات التوتر بين البلدين.