دبلوماسية التمرد:

كيف تتواصل الجماعات الانفصالية مع محيطها الخارجي؟

25 November 2019


عرض: باسم راشد – باحث في العلوم السياسية.

وضعت الجماعات المتمردة، باختلاف قناعاتها الأيديولوجية، مسألة التواصل مع الدول الأجنبية على رأس أولوياتها، ويتم ذلك في الغالب عبر الوسائط الرقمية التي لا تستهدف الدول الأخرى أو المنظمات الدولية أو الأفراد ذوي النفوذ فحسب، بل أيضًا الجماهير خارج نطاق عملياتها الخاصة، بما يزيد من ظهورها وحدود تأثيرها على المستوى الدولي.

في هذا الإطار، جاءت دراسة "مايكل بوس" و"جان ميليسن" الصادرة عن المعهد الملكي البريطاني "تشاتام هاوس" في أكتوبر 2019، بعنوان: "دبلوماسية التمرد والتواصل الرقمي: الدبلوماسية العامة لدول الساحل والصحراء" التي تدرس كيفية استخدام الجماعات المتمردة لوسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز اتصالاتها الخارجية، والدوافع وراء ذلك من منظور الدبلوماسية العامة، من خلال تحليل حالتين متميزتين في نفس الإطار الجغرافي السياسي لمنطقة الساحل: الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، وحركة أنصار الدين في مالي.

دبلوماسية التمرد

تشير الدراسة إلى أنه لا يوجد إطار تحليلي متفق عليه لدبلوماسية الجماعات المتمردة التي تعمل في بيئة عابرة للحدود الوطنية، سواء من حيث ما يُنظر إليه كعمل من دبلوماسية المتمردين، أو من هم جمهورها المقصود. لكن من منظور العلوم السياسية، وبالنظر إلى الجماعات الانفصالية على وجه التحديد، عرّفت "بريدجيت كوجنز" "دبلوماسية المتمردين" بأنها "عندما ينخرط المتمردون في اتصالات استراتيجية مع حكومات أو عملاء أجانب، أو مع نظام احتلال يعتبرونه أجنبيًّا"، وهي تدرس الشروط التي بموجبها تقبل الدول سياسيًّا الحركات الانفصالية.

ومن وجهة النظر هذه، فإن دبلوماسية المتمردين هي محاكاة دبلوماسية الدولة من قبل الجماعات الانفصالية التي تطمح في إجراء حوار رسمي مع الأعضاء الشرعيين في الدول، من خلال القنوات الدبلوماسية الثنائية أو متعددة الأطراف غير التقليدية.

في هذا الإطار، فإن الحركة الوطنية لتحرير أزواد وحركة أنصار دين في مالي تمثلان حالة مقارنة فريدة من نوعها؛ فكلتاهما تعملان في نفس المنطقة وتستمدان عضويتهما من مصادر متشابهة، ومع ذلك لديهما أيديولوجيات مختلفة، إحداهما انفصالية والأخرى إسلامية. وقد كانتا سببًا في انحدار مالي إلى الاضطرابات وتحويل دولة طالما امتُدحت بكونها مثالًا إفريقيًّا لديمقراطية مستقرة متعددة الأحزاب، وحصنًا ضد الإسلام الراديكالي، إلى دولة مزقتها النزاعات.

ويستعرض الكاتبان نشأة الحركتين في مالي؛ مشيرين إلى أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد تأسست في 2011، وهي حركة عسكرية وسياسية أسسها الطوارق في إقليم أزواد شمال مالي، وتسعى الحركة إلى تحرير شمال مالي وإقامة دولة أزواد المستقلة، وهو ما اعتبرته الحكومة المالية احتلالًا غير قانوني تقوم به الحركة التي عادت من ليبيا بعد سقوط "القذافي" جالبة معها السلاح ورجالًا عسكريين مدربين، وهدفًا واضحًا لتعزيز نفوذها في الشمال.

على الجانب الآخر، أدت المظالم الاقتصادية والسياسية والبيئية الخطيرة في الشمال إلى ظهور الفكر الإسلامي المتطرف هناك؛ فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أتاحت البنية الأساسية التعليمية في مالي مجالًا للمدارس الدينية والمدارس القرآنية التي تدرس المناهج السلفية للإسلام. وبحلول نهاية الثمانينيات، كان 25% من الأطفال في سن الدراسة الابتدائية يذهبون إلى هذه المدارس. وكانت الفصول في هذه المدارس تُدرَّس باللغة العربية -وليس باللغة الفرنسية- مما أدى إلى تفاقم الاختلافات بين الشمال والجنوب، ونتيجة لذلك ظهرت حركة أنصار الدين في نهاية عام 2011 بهدف فرض الشريعة الإسلامية على البلاد، وإعادة تأهيل سلطة وقادة الشيوخ المتدينين. 

تدخل العصر الرقمي

تؤكد الدراسة أن جهود حركة أنصار الدين للتواصل مع الجماهير الأجنبية تُظهر محاولات واضحة لدبلوماسية المتمردين؛ إذ غالبًا ما كانت اتصالاتهم تُستخدم كأداة تشغيلية، حيث استخدموا إدارة الأخبار لوضع إطار للصراع ومساعدتهم في أهدافهم العسكرية اليومية. كما بذلت الحركة جهودًا للحصول على التقدير والامتيازات من خلال اتصالاتها مع الجماهير وأصحاب المصلحة الأجانب.

وتشير إلى أنه تم تخصيص حوالي 50% من عينة اتصالات الحركة للاتصالات الاستراتيجية، و44% لإدارة الأخبار. برغم ذلك كانت الحركة محدودة في جهودها للتواصل مع أطراف ثالثة في نزاعهم؛ وذلك لعدة أسباب؛ أولًا: لأن تصنيفها كمنظمة إرهابية قطع احتمال حصولها على أي اعتراف دولي، لذا تجنبت الحركة وضع الملصقات المخيفة أطول فترة ممكنة. وثانيًا: لأن تصنيفها جماعة إرهابية أجبرها على إيقاف تشغيل المنصات الرئيسية، مثل يوتيوب، لذا أنشأت الحركة قنوات إعلامية خاصة بها يمكن نشرها عبر تليجرام، بهدف الوصول إلى الجماهير الإقليمية ووسائط الأخبار عندما أرادوا أن تصل رسائلهم إلى أماكن أبعد.

من ناحية أخرى، مارست حركة أنصار الدين في إطار تواصلها الخارجي نوعًا من الغموض التكتيكي؛ فقد كانت الحركة متحالفة جزئيًّا مع تنظيم "القاعدة" في بلاد المغرب، وكذلك الحركة الوطنية لتحرير أزواد، اللذين أعلنا عداءهما لبعضهما بعضًا، لكنها في الفترة بين عامي 2011 و2012 امتنعت عن إعلان ولائها لأي جماعة إسلامية في مالي تم تصنيفها بالفعل على أنها جماعة إرهابية، وهو ما شتت الدول الإفريقية والغربية حول ما يجب فعله مع هذه الحركة، وهل يتم دعوتها إلى طاولة المفاوضات أو اعتبارها جماعة متطرفة، وهو ما يفسر سبب تأخر تسميتها كحركة إرهابية في مارس 2013.

وتشير الدراسة إلى أن حركة أنصار الدين أنشأت في أبريل 2012، نظامًا يتم من خلاله تنظيم الاتصالات مع وكالات الصحافة الإقليمية والدولية، كما تم اختيار متحدث للحركة هو "ساندا ولد بومانا" للتواصل مع الصحافة الأجنبية، مثل وكالة الأنباء الفرنسية ومجلة "جون أفريك"، وكل ذلك بهدف الحصول على اعتراف دولي بالمجموعة باعتبارها منافسًا جادًا للسلطة في شمال مالي وإنشاء قنوات هيكلية لتحقيق ذلك.

وبمجرد أن تم تصنيف حركة أنصار الدين كجماعة إرهابية، وعقب اندماجها في حركة نصرة الإسلام والمسلمين في 2017، بدأت الحركة في التواصل مع الجماهير الدولية بشكل متكرر أكثر، باستهداف أتباع العقيدة الإسلامية وجذب الجهات الدولية الفاعلة إلى العنف السياسي في مالي كأصحاب مصلحة، من خلال رسائلها التي تنشرها للتحكم في كيفية عرض أحداث معينة في ساحة المعركة وتأطيرها. كما أصبحت منافذ الأخبار التي كانت تسيطر عليها "القاعدة" متاحة أيضًا بمجرد اندماج حركة أنصار دين في حركة نصرة الإسلام والمسلمين. 

وتؤكد الدراسة أنه برغم أن حركة أنصار الدين واجهت صعوبة في إضفاء الطابع الاحترافي على تواصلها الخارجي، إلا أنه دومًا كان على رأس أولوياتها خاصة بالتركيز على نشر الموضوعات السياسية والعسكرية التي تمثل 90% من اتصالات أنصار الدين الخارجية، كما أن 5% من الاتصالات الخارجية جاء تحت عنوان "بناء العلاقات". فعلى الرغم من أن الحركة حاولت إقامة علاقات مع مجموعات خارج مالي، على سبيل المثال في الجزائر العاصمة، إلا أن هذه المحاولات أعيقت بشكل خطير بسبب أيديولوجيتها وتصنيفها كمجموعة إرهابية.

دبلوماسية التمرد للحركة الوطنية لتحرير أزواد

تشير الدراسة إلى أنه على النقيض من التكيف التدريجي لحركة أنصار الدين مع العصر الرقمي، كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بارعة في تكنولوجيا الاتصالات عبر الوطنية منذ البداية؛ إذ أنشأت مكتبًا سياسيًّا لتحليل مختلف الجوانب السياسية، ورفع مستوى الوعي بين المجتمع الدولي. وقد اعتبرت الحركة أن الدول الأجنبية والمؤسسات فوق الوطنية ضرورية للاعتراف بالحكم الذاتي لأزواد.

وقد استخدمت الحركة على نطاق واسع جميع الأبعاد الثلاثة للدبلوماسية العامة؛ وهي: إدارة الأخبار، والاتصال الاستراتيجي، والعلاقات. بيد أن أصعب ما كان يواجه الحركة هو مسألة المصداقية، خاصة بعد 50 عامًا من المظالم ضد حكومة مالي وثلاثة من ثورات الطوارق السابقة. لذا في الأشهر الأولى من القتال في عامي 2011 و2012 في مالي، قامت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بتوزيع مقاطع فيديو توضح الانتصارات الكبيرة التي حققتها ضد جيش مالي، وهو ما ساعدها في تأطير الصراع في صورتها الخاصة وزيادة شرعيتها في عيون المراقبين الأجانب، فالحركة الانفصالية القادرة على احتلال ثلثي الدولة في غضون ثلاثة أشهر لا بد أن تجذب الانتباه، وتؤدي إلى أخذها على محمل الجد من قبل الجهات الخارجية ذات الصلة، كما تسمح للجماعة بتأكيد شرعيتها كممثل لشعب أزواد.

وتؤكد الدراسة أن الحركة اعتمدت منذ بدايتها على مجموعة متنوعة من الأدوات والمنصات للتعامل مع الجماهير الأجنبية لتحقيق ذلك الهدف، وكان الموقع الإلكتروني للحركة المنصة الرئيسية لها، خاصة أنها كانت تنشر مقالات باللغات الفرنسية والعربية والإنجليزية، مما يوضح رغبتها في وصول رسائلها إلى جماهير عريضة، وقد حصلت كل مشاركة في الموقع على ما بين 2500 إلى 10000 مشاهدة. 

من ناحية أخرى، ساهمت السمعة الدولية التي حظيت بها الحركة في فتح أبواب البث الإخباري الدولي لها، وقد كانت الحركة حريصة على إقامة علاقة مع فرنسا بسبب علاقاتها التاريخية مع مالي واللغة المشتركة، وبالفعل وجدت جمهورًا راغبًا هناك. وغالبًا ما ظهر قادة الحركة على التلفزيون الفرنسي؛ إذ أعلن "موسى أغ أساري"، الناطق الرسمي باسم الحركة في فرنسا، إعلان استقلال أزواد على التلفزيون الفرنسي في 6 أبريل 2012. 

ومع ذلك، فإن علاقة الحركة الوطنية لتحرير أزواد مع العناصر الإسلامية في المشهد العسكري في مالي أعاقت سمعتها بشكل كبير، وفعالية إدارة الأخبار وكذلك علاقاتها مع الجهات الفاعلة الخارجية. بمجرد ظهور حقيقة علاقة الحركة بالجماعات الإسلامية المتطرفة، فضلًا عن تقارير المنظمات غير الحكومية الدولية بأن مقاتلي الحركة غير منضبطين وأنهم يرتكبون أعمال السرقة والسلب والنهب والاغتصاب في المناطق التي احتلوها، كل ذلك أدى إلى التأثير السلبي على سمعتها الدولية.

ونظرًا لعدم استجابة الدول الأجنبية لاستقلال أزواد، بدأت الحركة في بناء علاقاتها مع المجتمع المدني في البلدان الأخرى مع الحفاظ على الضغط على الجهات الرسمية؛ لذا في عام 2014 أطلقت الحركة صفحات رسمية لها على موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وتويتر تضم آلاف المتابعين، وترتبط صفحات فيسبوك أيضًا بالعديد من حسابات يوتيوب، ولكل منها فيديو مثير خاص بها حول تحرير أزواد. 

وقد تم استخدام فيسبوك لتوفير تحديثات الأخبار القصيرة، وجعلت الصور المرئية عن الوضع على أرض الواقع رسالة الحركة أسرع في القراءة وأسهل للمستخدمين الذين يتوقعون الصور وليس النص فقط. وكانت بعض الصور توضح الحياة اليومية في أزواد، وينقل آخرون المعنى باستخدام الصور الانفعالية، بالإضافة إلى أن العديد من الصور المنشورة على الصفحات تحتوي على تعليقات ونصوص أخرى باللغة الإنجليزية.

وتشير الدراسة إلى أن اتفاق السلام لعام 2015 الذي تم التوصل إليه في الجزائر العاصمة قد شهد خطة الاتصالات الخارجية التي تعثرت فيها الحركة عندما أصبحت المجموعة جزءًا من تنسيقية حركات أزواد، التي دعت إلى زيادة الحكم الذاتي في شمال مالي. إذ تضمنت التنسيقية مجموعات أقل تطرفًا من الحركة، وغيرهم ممن آمنوا بطرق مختلفة جدًّا لتحقيق الوطن الأزوادي، وهو ما شكل تحديًا كبيرًا لجهود الدبلوماسية العامة التي تبذلها الحركة الوطنية لتحرير أزواد.

ونتيجة لذلك، لم تستطع الحركة الترويج لهويتها باعتبارها المجموعة الوحيدة التي يمكن أن تمثل الأزواديين بشكل قانوني. ومن ثم كان الحل هو الحفاظ على اتصالاتها الاستراتيجية الخاصة، مع تحمل جزء من الاتصالات المنسقة لتحالف حركات الشمال، والاستفادة من سمعة التحالف في المنطقة.

ونتيجة لفقدانها المصداقية، بذلت الحركة جهودًا كبيرة في تواصلها الاستراتيجي وإدارة الأخبار؛ وهو ما ظهر في العينة التي تم جمعها في الدراسة، حيث مثلت هاتان الفئتان معًا أكثر من 90% من بيانات العينات التي تم جمعها. وقد كانت واحدة من الخصائص الرئيسية للاتصالات الاستراتيجية للحركة طول عمرها وتماسكها النسبي، إذ يمكن للمرء أن يتتبع خطًا واضحًا للنوايا والاستراتيجية من الاتصالات الخارجية للحركة. وقد بقيت هوية الحركة على حالها حتى بعد ضم المجموعة إلى تحالف حركات أزواد.

المصدر:

Michele Bos and Jan Melissen, Rebel diplomacy and digital communication: public diplomacy in the Sahel, Chatham House, International Affairs, Vol 95, No: 6, November 6. 2019.