مأزق عدم الثقة:

حدود فعالية الإجراءات العراقية في تهدئة المحتجين

05 November 2019


لم تهدأ الاحتجاجات الشعبية الكبرى التي شهدتها العاصمة بغداد والعديد من المحافظات العراقية الأخرى، المطالِبة بالإصلاح ومحاربة الفساد، وتوفير فرص العمل، وتحسين جودة الخدمات. ومع سقوط العديد من القتلى والجرحى في التظاهرات، سرعان ما رفع المحتجون سقف مطالبهم لتصل إلى المطالبة باستقالة الحكومة، ومنهم من طالب بتغيير النظام القائم. وقد تزامن مع هذه الاحتجاجات اشتباكات عنيفة بين المحتجين وقوات الأمن، وحرق العديد من المباني والدوائر الحكومية، ومنها مجلس المحافظات، وبعض مقرات الأحزاب، بالإضافة إلى حرق سور القنصلية الإيرانية في كربلاء، فضلًا عن العديد من المكاتب الإعلامية والمحطات التلفزيونية والفضائية .

مواجهات عنيفة:

لم تكن الاحتجاجات الشعبية العراقية وليدة اللحظة، بل هي استمرار لمظاهرات واحتجاجات شعبية شهدتها الساحة العراقية منذ عدة سنوات، ولا سيما في الأعوام 2011 و2013 و2015 و2016 و2018، ولكن الاحتجاجات هذه المرة تميزت باتساع نطاقها، ورفع سقف مطالبها، وأنها لم تكن نتاجًا لدعوات أي جهات دينية أو سياسية أو حزبية، بل كانت شعبية دعا إليها منذ عدة أشهر الشباب والخريجون وحملة الشهادات العليا المعتصمون عبر شبكات ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا توجد لها قيادات محددة. 

كما شاركت عدة محافظات ومدن تعتبر من المصوتين التقليديين للأحزاب السياسية المشاركة في الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 وفي مختلف الانتخابات السابقة. وبعد اندلاع الاحتجاجات تحركت الأطراف الحكومية المعنية بالأمر وبشكل سريع بغية التهدئة ومحاولة امتصاص الغضب الشعبي، خاصة بعد وقوع المئات من الضحايا في صفوف المحتجين وقوات الأمن، إذ خاطب رئيس مجلس الوزراء "عادل عبدالمهدي" المحتجين بالقول: "نحن اليوم بين خيارين؛ الدولة أو اللا دولة". وأضاف قائلًا: "إن مطالبكم بالإصلاح ومكافحة الفساد وصلتنا". بينما أقرت رئاسة البرلمان العراقي في بيان صحفي بأن حرية التظاهر السلمي مكفولة بحسب الدستور في المادة 38، ودعت القوات الأمنية إلى ضرورة حفظ النظام العام ووجوب ضبط النفس والابتعاد عن أي استخدام للقوة أو العنف في التعامل مع الاحتجاجات والمظاهرات، وذلك على أمل أن تهدأ الأوضاع ويتراجع المحتجون عن الاستمرار في تظاهراتهم .

ووُضعت وزارتا الدفاع والداخلية بكل تشكيلاتها في حالة التأهب القصوى، وتم فرض حظر التجول وتقييد الحركة في بغداد ومختلف المحافظات التي شهدت احتجاجات شعبية وأعمال عنف وصفها "عبدالمهدي" بالقول: "إن الإجراءات الأمنية، بما فيها حظر التجوال، هي دواء مر للحفاظ على أرواحكم". كما أعطى "عبدالمهدي" صلاحيات فرض حظر التجوال للمحافظات ورؤساء الوحدات الإدارية في محافظاتهم إذا اقتضى الأمر ذلك .

وفي سياق متصل، تم قطع خدمات الإنترنت بعد يومين فقط من اندلاع الاحتجاجات في مختلف أنحاء العراق، ومن ثم تم حجب مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك، وتويتر، وإنستجرام" ووسائل الاتصال مثل "الواتساب والفايبر". وقد بين "مرصد نتبلوكس" المعني بمراقبة الإنترنت أن معدل الاتصالات انخفض إلى ما دون الــ70%، وجاء قطع خدمة الإنترنت وحجب المواقع الإلكترونية بهدف الحد من قدرة المحتجين على تنظيم صفوفهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ومنعهم من توجيه الدعوات للاحتجاج مجددًا.

كما أُغلقت الطرق والجسور الرئيسية المؤدية إلى ساحات الاحتجاج والتظاهر، وتم إغلاق الجسور والشوارع التي تربط وسط بغداد "بالمنطقة الخضراء" والتي تؤدي إلى أماكن الاحتجاج في ساحة التحرير. وانتشرت قوات مكافحة الشغب والإرهاب والشرطة الاتحادية وقوات من الجيش في مختلف مناطق بغداد والمحافظات الأخرى في محاولة لمنع التجمع لحماية الأبنية الحكومية من الاستهداف والحرق. ووصل الأمر إلى حد تفريق المتظاهرين عبر خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وكذلك الرصاص الحي، واستخدام القوة والعنف الذي راح ضحيته العديد من المحتجين والقوات الأمنية في بغداد والمحافظات الأخرى .

محاولات التهدئة:

تزامن مع التعامل العنيف مع التظاهرات محاولات للتهدئة من قبل السلطة، حيث كانت الاجتماعات الطارئة المشتركة السمة التي رافقت أزمة الاحتجاجات الشعبية؛ إذ عقدت الرئاسات الثلاث للبرلمان والحكومة والجمهورية اجتماعاتها من أجل بحث آلية الاستجابة لمطالب المحتجين، وبالفعل أصدرت الحكومة العراقية عدة قرارات كاستجابة عاجلة لمطالب المتظاهرين تمثلت في: الحزمة الأولى من القرارات التي صدرت عن الجلسة الطارئة لمجلس الوزراء يوم 6 أكتوبر، وتضمنت قرارات: إعداد وتنفيذ برنامج وطني للإسكان يشمل بناء 100 ألف وحدة سكنية في بغداد والمحافظات، وتعزيز رصيد صندوق الإسكان، وتوزيع الأراضي السكنية، وتقديم منح للعاطلين وإعداد برامج تأهيلية، وتوفير قروض لتأسيس المشاريع المتوسطة والصغيرة .

يُضاف إلى هذا الإعلان عن خطة لرئيس مجلس الوزراء "عادل عبدالمهدي" تتضمن تعديلًا وزاريًّا واسعًا، وتشكيل محكمة عليا بصلاحيات واسعة متخصصة في قضايا الفساد، وخطة لإطلاق برنامج وطني لمحاربة الفقر والبطالة .

كما تم الإعلان عن حزمة ثانية من القرارات الجديدة تتضمن 17 بندًا من قبل مجلس الوزراء يوم 8 أكتوبر، وتضمنت تشكيل لجنة عليا برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضوية 8 وزارات مهمتها معالجة مشكلة السكن، وتكليف وزارة الكهرباء بتوزيع منظومات الطاقة الشمسية على 3000 عائلة فقيرة، والعمل على توفير فرص العمل، وتسهيل إجراءات تسجيل الشركات الصغيرة للشباب، وتمويل مشاريع الشباب المختلفة وتشجيع الصناعات الصغيرة، وتحسين الخدمات البلدية والبيئية .

وبالتوازي مع هذا، أقر البرلمان العراقي عدة إجراءات في 28 أكتوبر 2019، منها: إلغاء امتيازات الرئاسات الثلاث وامتيازات النواب وكبار المسئولين، وحل مجالس المحافظات، وتشكيل لجنة لتعديل الدستور تقدم توصياتها خلال أربعة أشهر.

وفي هذا السياق، تعهد رئيس مجلس النواب "محمد الحلبوسي" في مؤتمر صحفي بعد عدة أيام من الاحتجاجات بأنه سيتم إدخال تعديلات على ميزانية عام 2020 لتتضمن تخصيصات مالية للعوائل الفقيرة، وأعلن اتخاذ الإجراءات المناسبة لعودة النازحين، ومنح القروض للمشاريع الصغيرة، وغيرها من الوعود في مجال تقديم الخدمات وتوفير فرص العمل، وتخصيص المبالغ المالية اللازمة لإعادة إعمار واستقرار المناطق المحررة .

مواقف الكتل النيابية:

تتمثل أهم مواقف الكتل النيابية البرلمانية فيما يلي: 

1- كتلة سائرون: إذ أعلنت كتلة "سائرون" البرلمانية تجميد عضويتها في مجلس النواب، وذلك استجابةً لدعوة زعيم التيار الصدري الذي تتبعه الكتلة، حيث دعاهم إلى تعليق العضوية "لحين صدور برنامج حكومي يرتضيه الشعب والمرجعية"، وسرعان ما أعلنت الكتلة انضمامها إلى المعارضة مطالبة باستقالة رئيس الوزراء "عادل عبدالمهدي"، مبدية استعدادها لاستجواب رئيس الحكومة.

2- ائتلاف النصر: دعا رئيسه "حيدر العبادي" (رئيس مجلس الوزراء السابق) إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة من أجل معالجة الفشل الحكومي والتأزم المستمر في مجريات العملية السياسية، وأدان ما أطلق عليه الائتلاف "استخدام العنف ضد المتظاهرين"، و"طالب الحكومة بتحقيق شامل فيما جرى من أحداث". وفي هذا الإطار، صرح عضو الائتلاف "عدنان الزرفي"، في 31 أكتوبر 2019، قائلًا: "الائتلاف ماضٍ في استجواب رئيس الوزراء لسحب الثقة من حكومته"، وأضاف: "إننا نؤيد تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير أمور البلاد لحين إجراء الانتخابات وتشكيل مفوضية انتخابات مستقلة، ومشاركة الرأي العام بتغيير النظام الانتخابي".

3- جبهة الإنقاذ والتنمية: والتي يترأسها نائب الرئيس السابق "أسامة النجيفي"، وقد رفضت استخدام العنف ضد المحتجين، وطالبت الحكومة بالتحقيق وتتبع الأسباب الحقيقية وراء استهداف المتظاهرين والأحداث التي تعرضوا لها. كما تقدمت الجبهة في مطلع نوفمبر 2019 بمبادرة إلى رئيس الجمهورية "برهم صالح" للخروج من الأزمة الحالية، وتضمنت هذه المبادرة 11 نقطة يتمثل أهمها في: الدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة بإشراف أممي وفق قانون انتخابي جديد يتضمن تمثيلًا حقيقيًا للشعب، ويشجع على مشاركة واسعة في الانتخابات ومن قبل مفوضية مستقلة، وإعداد قانون انتخابي جديد يعتمد على دوائر متعددة ويضمن حقوق الأفراد، مع إلغاء مجالس المحافظات. وتضمنت المبادرة أيضًا تجميد عمل مجلس النواب باستثناء الحالات الوطنية التي تقتضي إجراء عاجلًا كتشريع قانون الانتخابات الجديد، والسيطرة على السلاح، وضرورة تعويض الشهداء وجرحى المتظاهرين.

4- تحالف المحور الوطني: أعلن التحالف تعليق عضوية أعضائه في مجلس النواب حتى صياغة موقف جاد مع باقي الكتل السياسية، مؤكدًا تأييدَ الاحتجاجات ومعارضًا استخدام القوة ضدها. وأعلن التحالف في 31 أكتوبر 2019 عن "تشكيل حكومة مستقلة مصغرة تحضيرًا لمرحلة انتقالية، ودعمه لـحل البرلمان والذهاب لانتخابات مبكرة ضمن قانون انتخابات جديد".

5- تيار الحكمة: جاء موقفه على لسان زعيمه "عمار الحكيم" حينما ذكر أن "استخدام العنف المفرط في تفريق المتظاهرين أمر مستنكر وغير مقبول"، وطالب بعقد "جلسة نيابية طارئة للوقوف على الأسباب والحيثيات والتداعيات للأحداث التي حدثت للمحتجين، وتطويق الفتنة" على حد تعبيره؛ إلا أن مصادر من التيار صرحت في أكتوبر 2019 بأنه ليست هناك أي نية لاستجواب رئيس الوزراء، وأن أولوية التيار دائمًا الحفاظ على النظام والسيادة في العراق.

استمرار محفزات الاحتجاج:

على الرغم من القرارات والإجراءات التي أعلنت عنها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية استجابةً لمطالب المحتجين؛ إلا أن الإجراءات لن تنهي التظاهرات، وذلك لعدة أسباب من أهمها:

1- عفوية الاحتجاجات: حيث إن هذه الاحتجاجات شعبية وعفوية، وليس لها قيادات يمكن التفاوض معها وتلبية مطالبها وصولًا إلى إيقافها، وسيدفع الإحباطُ الشعبي من الوعود المتكررة بالإصلاحات المحتجين إلى الاستمرار ما لم يروا تنفيذًا فعليًّا لمطالبهم .

2- صعوبة تنفيذ القرارات: إذ يبدو أن الحكومة لن تستطيع تنفيذ الوعود والقرارات التي أعلنتها في المستقبل القريب، لا سيما وأن عددًا منها قد اتُّخذ في مراحل سابقة ولم يُنفذ، كما أن الوعود والقرارات التي أطلقها البرلمان هي من اختصاص السلطة التنفيذية، وبالتالي سيعجز عن تطبيقها، وليس من حقه إطلاقها .

3- فقدان الثقة: هنالك قناعة شعبية بأن الحكومة عاجزة عن توفير فرص العمل وإيجاد سبل مناسبة لإنعاش الاقتصاد العراقي بعد استنزاف مبيعات النفط، وعجز متوقع في ميزانية العام المقبل يصل إلى 50 مليار دولار.

4- أزمات مستمرة: فالأزمات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تمرّ بها الساحة العراقية ليست وليدة اللحظة، بل تتحمل مسئولية معالجتها كل الحكومات المتعاقبة. وهنالك من يرى أن الحكومة الحالية هي امتداد للحكومات السابقة، وأنها لن تتمكن من معالجة أي مشاكل جديدة.

ختامًا، ليس من المتوقع انتهاء هذه الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد وتوفير فرص العمل والخدمات في ظل هذه المعطيات، الأمر الذي يتطلب اتخاذ الخطوات الجادة والمناسبة والواقعية من قبل صناع القرار، وتحمل مسئولية ذلك من قبل السلطات الثلاث وكل القوى السياسية على مختلف توجهاتها وأيديولوجياتها من أجل السيطرة على الأوضاع، وعدم السماح بانزلاق البلاد إلى مزيد من الفوضى، لا سيما وأن الحرب على الإرهاب لم تنتهِ بعد، ولا يزال خطر "داعش" مستمرًّا في العراق.