أزمة الليرة:

إجراءات معالجة عدم الاستقرار المالي في لبنان

20 October 2019


يواجه الاقتصاد اللبناني في المرحلة الراهنة حالة من عدم الاستقرار، حيث تتصاعد المخاوف من تدهور قيمة العملة المحلية، مع شحّ الدولار في السوق المحلية، وتنامي الديون الحكومية، وارتفاعها إلى ما يناهز 150% من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي دفع وكالات التصنيف الائتماني العالمية إلى إصدار مراجعات سلبية لهذه الديون، والتنويه إلى إمكانية إجراء المزيد من المراجعات السلبية لها في المستقبل. وعزت تلك الوكالات الضغوط المتصاعدة على الاقتصاد اللبناني إلى نموذج التمويل الذي يعتمد عليه، وتنامي المخاطر فيما يتعلق بقدرة الحكومة على خدمة الدين. وطالبت الوكالات الحكومة بإجراء تغييرات وتطبيق إصلاحات في ظل تباطؤ نمو الودائع بالقطاع المصرفي، التي تعد المصدر الرئيسي لتمويل الدولة.

وكانت هذه المظاهر هى التي دفعت رئيس الوزراء سعد الحريري، في 3 سبتمبر الماضي، إلى الإدلاء بتصريحات قال فيها أن بلاده ستعلن حالة طوارئ اقتصادية، وأن الحكومة بدأت العمل على خطة لتسريع إصلاحات تتعلق بالمالية العامة. وفي وسط هذه الأجواء، تبرز تساؤلات عدة حول أزمة الليرة، وأسبابها، وكذلك فاعلية الإجراءات التي اتخذتها الحكومة من أجل معالجتها، وما إذا كان هناك إجراءات أخرى ينصح باتخاذها.

مظاهر متعددة:

يبلغ سعر الصرف الرسمي لليرة حالياً 1507.5 ليرة مقابل الدولار الواحد، لكنه يبلغ 1600 ليرة للدولار في السوق الموازية، وهى المرة الأولى التي يبلغ فيها هذا المستوى المرتفع منذ 22 عاماً. وبرغم ذلك يرى مصرف لبنان المركزي أن الوضع الحالي لليرة لا يمثل أزمة.

ويربط المصرف تراجع سعر صرف العملة المحلية بأسباب من أهمها زيادة حجم استيراد بعض المواد الأساسية، وشكك في أن تكون الأسواق المحلية في حاجة إلى الاستيراد بهذا الكم من تلك السلع، وهذا الأمر لا يمكن فصله، بطبيعة الحال، عن المحيط الجيوسياسي غير المستقر للبنان، التي تعد الدولة الأكثر تأثراً بما يحدث في جارتها سوريا منذ ثماني سنوات. وهذا التأثر يأخذ مجراه إلى النشاط الاقتصادي في لبنان بشكل عام، وما يزيد من هذا الأمر هو أن هناك روابط تاريخية تجمع الاقتصادين اللبناني والسوري منذ عقود طويلة. 

وفي هذا الصدد، فإن ما نوه إليه مصرف لبنان المركزي بشأن عدم احتياج الاقتصاد لاستيراد السلع الأساسية بكميات كبيرة كما هو عليه الآن، توازى مع تقارير أخرى تكشف أن نسبة كبيرة من السلع المستوردة إلى لبنان تأخذ طريقها إلى الأسواق السورية من خلال التهريب عبر الحدود بين البلدين.

خطوات مختلفة:

اتجهت المصارف اللبنانية خلال الفترة الأخيرة، بالتنسيق مع مصرف لبنان المركزي، إلى وضع قيود مُشدَّدّة على بيع الدولار، وذلك كإحدى الآليات التي يعول عليها في ضبط حركة الليرة. وبنظرة أوسع، فإن هذه الخطوة من شأنها المساهمة في معالجة أسباب عدم الاستقرار المالي في لبنان بشكل عام، لاسيما أن الدولار الأمريكي يمكن استخدامه بالتوازي مع الليرة في العمليات المصرفية والتجارية كافة، الأمر الذي يتسبب في توليد ضغوط تضخمية في الاقتصاد اللبناني بشكل مستدام.

وقد شهدت الأيام الماضية حالة من الشُح الشديد في عرض الدولار، ما نتج عنه بعض مظاهر التأزم بالنسبة للكثير من الأنشطة الاقتصادية في البلاد، ولاسيما تلك الأنشطة التي تعتمد على الدولار في تأمين احتياجاتها من السلع عبر الاستيراد، كقطاعى الوقود والأدوية، وغيرهما. كما تزامن ذلك أيضاً مع تأثُّر القطاع العائلي (الأفراد) في لبنان بمظاهر هذه الأزمة، وخاصة أولئك الذين يستخدمون الدولار في معاملاتهم اليومية بشكل واسع. وقد دفع ذلك بعض الفئات، ومنهم أصحاب محطات الوقود، إلى التلويح بالإضراب تنديداً بتداعيات الأزمة عليهم، ولاسيما أنهم يسددون فواتير مشترياتهم من الموزعين بالدولار.

وقد نجحت الحكومة اللبنانية في إيجاد حل –ولو مؤقت- لهذه الأزمة، إذ أنها تمكنت من الاتفاق مع موزعي الوقود بقبول الحصول على مستحقاتهم من محطات الوقود بالليرة اللبنانية، على أن تلتزم المصارف بالتنسيق مع الحكومة –من خلال مصرف لبنان المركزي- بتوفير الدولار والعملات الأجنبية التي تحتاجها الشركات المستوردة للنفط والغاز بسعر الصرف الرسمي.

ويمكن القول إن هذا الإجراء يساعد على تهدئة أسواق الصرف اللبنانية، كونه يقلص من أسباب تدهور قيمة العملة المحلية، عبر تخفيض الاعتماد على الدولار في التعاملات بين الشركات داخل لبنان، ويقصره فقط على الشركات التي تحتاج الدولار (وغيره من العملات الأجنبية)، ويحصر هذا الاستخدام أيضاً في أنشطة الاستيراد التي تقوم بها هذه الشركات. وهذا الإجراء، من الضرورة تعميمه على كافة الأنشطة الاقتصادية والتجارية في لبنان، من أجل زيادة الاعتماد على الليرة وتقليص الاعتماد على الدولار.

وهناك شروط تستوجب الوفاء بها للتخلص من الأسباب التي دفعت بالاقتصاد اللبناني إلى المرحلة التي هو فيها الآن، وكذلك لتحويل هذا الحل الذي لجأت إليه الحكومة هناك من كونه حلاً مؤقتاً إلى حل دائم، فمن أجل استمراره كعلاج دائم للأزمة في الأجل البعيد، لابد من التخلص من جذور الأزمة الحقيقية، حيث تظل هناك حاجة ماسة لمعالجة مشكلات الاقتصاد الكلي في لبنان، من خلال تعزيز المصادر الحقيقية للعملات الأجنبية، ولاسيما الدولار. وبالتزامن مع ذلك فلابد من ضبط عملية استخدام العملات الأجنبية في البلاد، لتكون مقتصرة على الأنشطة الاقتصادية ذات العلاقة المباشرة بالتعاملات الخارجية فقط.

وفي هذا الصدد، يمكن القول إن تحقق هذا الأمر ليس من السهولة بمكان، لاسيما أن استخدام الدولار في المعاملات اليومية هو أمر شائع في لبنان منذ عقود طويلة، إلى الدرجة التي أصبح معها الدولار وسيلة أساسية لتسوية المعاملات، جنباً إلى جنب مع الليرة.