أزمة متصاعدة:

دلالات الهجوم على منطقة تشابهار في إيران

11 December 2018


لا يمثل وقوع عمليات مسلحة ومواجهات أمنية بين مؤسستى الحرس الثوري وقوات الشرطة وبعض التنظيمات في إيران ظاهرة جديدة، وإنما متجددة، بفعل بقاء الدوافع الرئيسية التي أدت إلى ظهور مثل هذه التنظيمات التي أثبتت قدرتها على التعايش مع الإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات، على نحو بات يمثل تحديًا قويًا لم تستطع الأخيرة التعامل معه أو احتواء تداعياته حتى الآن، وهو ما يبدو جليًا في توالي تنفيذ هذا النمط من العمليات، التي كان آخرها التفجير الذي استهدف مقرًا للشرطة في منطقة تشابهار التي تقع في إقليم سيستان بلوشستان جنوب شرقى إيران، في 6 ديسمبر الجاري، وأسفر عن مقتل عنصرين من الشرطة وإصابة أكثر من 40 آخرين.

ورغم أن النظام الإيراني ما زال يتبنى السياسة نفسها التي سبق أن استند إليها في تعامله مع العمليات السابقة، على غرار الهجوم الذي استهدف الاستعراض العسكري للحرس الثوري في إقليم الأحواز، في 22 سبتمبر 2018 واختطاف 14 من عناصر ميليشيا التعبئة "الباسيج" وحرس الحدود في منطقة ميرجاوه على الحدود مع باكستان في 16 أكتوبر من العام نفسه، بتوجيه الاتهامات إلى "جهات خارجية"، إلا أن ذلك لم يقلص من أهمية الأسباب الرئيسية التي يمكن أن تفسر هذه الظاهرة، فضلاً عن الدلالات التي يطرحها استمرارها دون أن تستطيع السلطات إيقافها.

رسائل عديدة:

يعكس توقيت ومكان العملية الأخيرة دلالات عديدة لا يمكن تجاهلها، خاصة أنها لا تنفصل عن مجمل التطورات الأخرى التي طرأت على الساحة الإيرانية، ويتمثل أبرزها في:

1- ادعاءات مستمرة: يرتبط حرص جماعة "أنصار الفرقان" على إعلان مسئوليتها عن العملية الأخيرة بسعيها إلى تأكيد أن المزاعم التي روجتها السلطات الإيرانية، ووسائل الإعلام القريبة منها، والتي أشارت إلى القضاء عليها خاصة بعد أن تمكنت من قتل آخر قائدين لها وهما هشام عزيزي (في 23 إبريل 2015) وجليل قنبر زهي (في 19 يونيو 2017)، ليست صحيحة بدليل استمرارها في تنفيذ عمليات نوعية تستهدف فيها قوات الشرطة تحديدًا إلى جانب البنية التحتية في بعض المنشآت.

واللافت في هذا السياق، هو أن هذه المزاعم سبق أن ظهرت عندما أعلنت إيران إعدام زعيم جماعة "جند الله" عبد الملك ريغي، في 20 يونيو 2010، حيث اعتبرت أن ذلك يمثل نهاية لهذه الجماعة، إلا أنه سرعان ما قامت بعض المجموعات التي انبثقت عنها بتنفيذ عمليات أخرى استهدفت تحديدًا الحرس الثوري وقوات حرس الحدود، على غرار "جيش العدل" و"أنصار الفرقان".

2- ملفات مترابطة: يضع استمرار هذا النمط من العمليات مصداقية السياسة الإيرانية أمام اختبار صعب، خاصة أن المسئولين الإيرانيين كانوا حريصين خلال المرحلة الماضية على تأكيد أن إيران تعد إحدى أكثر الدول استقرارًا في منطقة الشرق الأوسط. ومن دون شك، فإن حرص هؤلاء المسئولين على الترويج لهذه المزاعم كان بهدف إضفاء وجاهة خاصة على تدخلات إيران المستمرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة، خاصة في دول الأزمات، باعتبار أن طهران تسعى من خلال ذلك إلى حماية مصالحها وتقليص قدرة التنظيمات الإرهابية على الوصول إلى أراضيها.

ولذا، لا يمكن الفصل في هذا السياق بين استمرار هذه العمليات وتصاعد تدخلات إيران التخريبية في دول الأزمات. ففضلاً عن أن هذه التدخلات تمثل استنزافًا مستمرًا للأموال الإيرانية، فإنها دفعت النظام إلى عدم الاهتمام بالتعامل مع الأزمات المعيشية الداخلية، التي تفاقمت في الفترة الماضية نتيجة تراجع عوائد الاتفاق النووي، بسبب انتهاكات إيران المستمرة له، وفرض عقوبات أمريكية جديدة عليها من المتوقع أن تؤدي إلى تراجع الصادرات النفطية في فترة ما بعد انتهاء المهلة الحالية التي منحتها الولايات المتحدة الأمريكية لثماني دول مستوردة للنفط الإيراني وتبلغ 180 يومًا.

3- توسيع الدائرة: لم تعد العمليات المسلحة التي تقوم بها هذه المجموعات تنحصر فقط في إقليم سيستان بلوشستان، الذي يقع على الحدود بين إيران وباكستان وأفغانستان. صحيح أن هذا الإقليم شهد العدد الأكبر من تلك العمليات، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذه المجموعات كانت حريصة على تنفيذ هجمات في مناطق أخرى بعيدة عن الإقليم الرئيسي، لإثبات قدرتها على تجاوز الإجراءات الأمنية ونفى ادعاءات السلطات الإيرانية الخاصة بالقضاء عليها.

وهنا، كان لافتًا أن جماعة "أنصار الفرقان" نفسها أعلنت، في 31 ديسمبر 2017، مسئوليتها عن تفجير أنبوب نفط في محافظة خوزستان. ويبدو أن حرص السلطات الإيرانية على نفى ذلك كان نابعًا من سعيها إلى تقليص أهمية نجاح تلك المجموعات المسلحة في الانتقال عبر المحافظات الإيرانية المختلفة.

4- ضغوط متوازية: يتزامن تصاعد حدة العمليات المسلحة داخل مناطق مختلفة في إيران مع قيام قوى المعارضة في الخارج، لا سيما في بعض الدول الأوروبية، بتوسيع نطاق نشاطها، حيث سعت تلك القوى إلى استقطاب دعم الدول الغربية لرؤاها ومواقفها تجاه النظام، فضلاً عن محاولة دفع تلك الدول إلى تغيير سياستها إزاءه، بسبب إصراره على تبني سياسته المتشددة، بشكل انعكس في مواصلته تطوير برنامج الصواريخ الباليستية والتدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة ودعم التنظيمات الإرهابية، إلى جانب إمعانه في تهديد أمن ومصالح هذه الدول، بمحاولة تصفية بعض رموز تلك المعارضة في عدد منها، على غرار فرنسا والدانمارك.  

وبالطبع، فإن تلك الضغوط تقلص من هامش الخيارات المتاحة أمام النظام، خاصة مع تزايد تأثير العقوبات الأمريكية على الداخل الإيراني، بشكل بدا جليًا في استمرار ارتفاع معدلات البطالة والتضخم واندلاع الاحتجاجات العمالية في بعض المناطق.

5- استهداف الاستثمارات: كان لافتًا أن العملية الأخيرة وقعت في منطقة تشابهار تحديدًا، التي تحظى باهتمام خاص من جانب النظام في المرحلة الحالية، خاصة لجهة محاولاته اجتذاب استثمارات أجنبية فيها لتقليص حدة العقوبات الأمريكية، حيث يُعوِّل عليها في تعزيز فرص رفع مستوى التعاون الاقتصادي مع دول وسط آسيا، خلال المرحلة القادمة.

وقد انعكست أهمية هذه المنطقة بالنسبة لإيران في توقيعها، في 24 مايو 2016، على اتفاق مع الهند وأفغانستان لتطوير ميناء تشابهار، حيث تقوم الهند بتمويل مشروعات تطوير البنية التحتية للميناء من أجل فتح مجال لوصول صادراتها إلى أسواق آسيا الوسطى دون عبور الأراضي الباكستانية.

وهنا، فإن تلك المجموعات ترى أن الاستثمارات التي يسعى النظام إلى اجتذابها لتلك المنطقة لا تساعد في رفع مستوى معيشة سكانها، باعتبار أن الأخير يحرص على استنزاف عوائدها في مواصلة مغامراته في الخارج، لا سيما ما يتعلق بدعم التنظيمات الإرهابية في بعض الدول.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران تبدو مقبلة على مرحلة من عدم الاستقرار على المستوى الأمني، نتيجة تفاقم الأزمات الداخلية التي لم يستطع النظام التعامل بجدية معها، خاصة أنه ما زال يرى أن ما يحدث نتيجة لمؤامرات خارجية تسعى إلى تقويض دعائمه، رغم إدراك الشارع الإيراني أن أسبابها الحقيقية تكمن في مواصلته أدواره التخريبية في الخارج.