الاتحاد الأوروبي.. والتصدع الغربي

13 August 2018


أدركت مؤخراً أن بمقدوري إفساد أي حفل عشاء، فهو أمر بسيط كالسحر.. فقط دعوني أتطرق إلى موضوعات مثل ترامب أو بوتين أو التغير المناخي، ويمكنني أن أجعل التجهم يعلو كل وجه، والأسى يرتسم على كل جبين. وأنا على أهبة الاستعداد أيضاً لحفلات الزفاف وأعياد الميلاد!

وقد كنت أتصور أنني سآتي إلى إيطاليا من أجل الاستمتاع بالشمس والأطباق الإيطالية اللذيذة، لكنني اقترفت خطأ رغم ذلك بإهدار بضعة أيام مع خبراء في الحكومة الإيطالية وخبراء دوليين في محاولة لفهم أزمة اللاجئين التي تقسم الاتحاد الأوروبي، وقدر كبير منها متجذر في إيطاليا.. والآن خمّنوا! أصبح بمقدوري إفساد حفل العشاء والإفطار أيضاً!

وما تجده عندما تلقي نظرة عن كثب إلى الوضع هنا هو أمر مقلق جداً. فقد ولدت في عام 1953، وعشت طوال حياتي في مجتمع «الأنظمة الديمقراطية»، التي باتت تُعرف بـ«الغرب»، وتوسعت بعد ذلك لتشمل دولاً ديمقراطية في أرجاء العالم، مثل اليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية والهند. وفي قلب هذا المجتمع كانت هناك ركيزتان هما: الولايات المتحدة ومجموعة الدول الأوروبية الديمقراطية التي كوّنت «الاتحاد الأوروبي». 

ولم يكن «الغرب» مجرد حالة ذهنية، وإنما مجموعة من الدول التي تتقاسم مصالح ومواقف وقيماً مشتركة، وخصوصاً قيم الحرية والديمقراطية والأسواق الحرة وحكم القانون، التي شكلت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أنه بعيد كل البعد عن المثالية، إلا أنه كان مكاناً كريماً وحراً ومزدهراً إلى حد كبير لكثير من الناس. وهذا المجتمع من الدول الديمقراطية كان منارة وملاذاً وموضع جذب لأولئك الذين أرادوا اعتناق قيمه، لكنهم تعرضوا للرفض حيث كانوا يعيشون. 

غير أن الركيزة الأوروبية في هذا المجتمع لم تتعرض من قبل لهجوم أكبر مما تتعرض له في الوقت الراهن، لدرجة أنني للمرة الأولى أتساءل ما إذا كان من الممكن أن تتداعى هذه الركيزة الأوروبية؟

ومن إيطاليا يمكنك رؤية جبهات الهجوم كافة، فدونالد ترامب يأتي من الغرب وفلاديمير بوتين من الشرق، والاضطرابات البيئية والسياسية من الجنوب.. من أفريقيا والشرق الأوسط، حيث أدى القرار الفرنسي البريطاني المتهور في عام 2011 بالإطاحة بنظام الرجل القوي معمر القذافي من دون المساعدة في بناء نظام جديد مكانه، الذي يجتاح شبحه إيطاليا في الوقت الراهن. 

ربما أن الإطاحة بالقذافي من دون بناء نظام جديد كان أكثر القرارات التي اتخذها حلف الناتو حماقة في تاريخه. فقد أدى ذلك إلى كشف الغطاء عن أفريقيا، وأفضى إلى تدفق 600 ألف أو يزيدون من اللاجئين السياسيين والمهاجرين إلى شواطئ إيطاليا في السنوات القليلة الماضية، بقي منهم زهاء 300 ألف على الأراضي الإيطالية، بينما تسللت البقية إلى دول أخرى أوروبية. وقد أفضى ذلك إلى حدوث تصدعات داخل التكتل، الذي يتعين عليه استيعاب مهاجرين كُثُر، وأدى إلى انطلاق موجات شعبوية قومية في دول الاتحاد الأوروبي كافة. 

وفي هذه الأثناء، ليس من المفاجئ أن بوتين، الذي لطالما كان هدف سياسته الخارجية إضعاف الاتحاد الأوروبي وزعزعة الثقة فيه، من أجل تقويضه كبديل حيوي لنظامه القومي أو كنموذج ملهم للدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي السابق مثل أوكرانيا، قد شجع على صعود الأحزاب المناهضة للتكتل في دول مثل إيطاليا وكذلك على خروج بريطانيا من الاتحاد «بريكست». 

من جانبه، حضّ ترامب رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي على الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، فيما يعرف بـ«خروج صعب»، إذا أرادت إبرام اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، ووصف الاتحاد الأوروبي ليس بأنه شريك تجاري وإنما بأنه «خصم». ويبدو أن ترامب يفضل انقسام الاتحاد الأوروبي ليتمكن من إبرام صفقات تجارية أفضل مع كل دولة على حدة. وإلا كيف يمكن تبرير تلك التحركات؟ 

ومن أوائل الزوار الأجانب الذين قدموا إلى إيطاليا للاحتفاء بحكومتها الجديدة، التي يوجد بها عدد من الوزراء المشككين في الاتحاد الأوروبي و"الناتو" والشعبويين المناهضين للهجرة، المستشار السابق لترامب «ستيف بانون»، الذي أشارت التقارير إلى أنه أكد للائتلاف الإيطالي الحاكم: «إذا نجحتم في إيطاليا، فستنجح الفكرة في أنحاء أوروبا، وسيُهزم أنصار العولمة». 

وياله من كلام أحمق، فقد كانت الولايات المتحدة والدول التي شكلت الاتحاد الأوروبي هي التي تولت دفة القيادة ليس فقط من أجل التصدي للشيوعية، ولكن لوضع القواعد وتحفيز المؤسسات التي نجحت في إدارة القضايا العالمية المهمة بعد الحرب العالمية الثانية، مثل التجارة والهجرة والبيئة وحقوق الإنسان، وساعدت الناس من أنحاء العالم على الهروب من براثن الفقر بوتيرة أسرع من ذي قبل. 

ونحتاج أن تضطلع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع الدول الأخرى في مجموعة ال 20، بدور مماثل في الوقت الراهن. فقد ألقى التغير في وتيرة التغير المناخي والعولمة والتكنولوجيا بمجموعة كاملة من التحديات الجديدة بسرعة شديدة، لاسيما حدة الطقس، والجرائم الإلكترونية والعملات المشفرة وشبكات التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا المزيفة والسيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي وأدوات التصميم البيولوجية وأساليب التمييز بين اللاجئين والمهاجرين الاقتصاديين وطالبي اللجوء السياسي. ولا يمكن مواجهة مثل هذه التحديات من دون تعاون دولي وقواعد جديدة.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد