شبكات المنتفعين:

تأثيرات "اقتصاديات الحرب" على مستقبل الدولة الليبية

29 May 2018


عرض صباح عبد الصبور - باحثة في العلوم السياسية

منذ اندلاع الثورة الليبية في فبراير ٢٠١١، والدولة الليبية تعاني من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية مترابطة تضعف مؤسساتها، وتدمر اقتصادها، وتساعد على النمو المستمر للجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية والمتطرفة داخلها. وفي إطار ضعف الدولة وفقد قدرتها على احتكار وسائل العنف؛ برزت تشكيلات اجتماعية عدة تتنافس جميعها على تعزيز وضعها المحلي، وإعادة تشكيل الدولة بما يخدم مصالحها الخاصة. وقد وفّر ذلك كله بيئة خصبة لتطوير "اقتصاد حرب" ديناميكي له تداعياته السلبية على حاضر ومستقبل الدولة في ليبيا.

وفي هذا الإطار، نشر "تيم إيتون" الزميل ببرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمعهد الملكي للشئون الدولية (تشاتام هاوس)، ورقة بحثية بعنوان: "اقتصاد الحرب في ليبيا: السلب والاستغلال وضعف الدولة" في أبريل الماضي بالمعهد. وفي تلك الورقة يشرح "إيتون" أهم أساليب "اقتصاد الحرب" في ليبيا، وتأثيراتها على مستقبل الدولة. ويحدد الفرص والقيود المتاحة أمام صانعي السياسات لمعالجة هذا الاقتصاد.

اقتصاد الحرب 

يعرّف "إيتون" مصطلح "اقتصاد الحرب" بأنه مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد بشكل مباشر أو غير مباشر على إدارة العنف أو إطالة أمده.

ويؤكد الكاتب أن الأفراد والجماعات والمجتمعات المحلية في ليبيا تتنافس في إطار اقتصاد الحرب بغية السيطرة على طرق التهريب، والبنية التحتية للنفط والغاز الطبيعي، وكيانات الدولة، ومراكز الحدود، والبنية التحتية للنقل، والعقود الرئيسية للاستيراد والتصدير.

ويختلف شكل وأساليب اقتصاد الحرب الليبي في مختلف أنحاء البلاد. ففي الجنوب والغرب سمح غياب الفاعلين الأمنيين المهيمنين بتطوير الأسواق غير المشروعة، وازدهار قطاع التهريب. بينما في طرابلس حيث تم دمج الميليشيات المحلية في الهياكل الأمنية للعاصمة، تُرجم اقتصاد الحرب في جماعات وأفراد يسعون إلى تعظيم فرص الكسب غير المشروع، وسلب إيرادات الدولة. أما في الشرق حيث ينتشر الأمن على نطاق واسع فإن معدلات تهريب البشر والوقود أقل من غيرها. ويشير الباحث إلى أن الخلافات السياسية مع السلطات القائمة في طرابلس تُرجمت إلى منافسة من أجل السيطرة على إيرادات الدولة ومحاولة إنشاء مؤسسات موازية.

ويُعتبر نظام الحوافز داخل اقتصاد الحرب سببًا رئيسيًّا في بقائه، مما أحبط إعادة تأكيد سلطة الدولة على المستويين المحلي والقومي، وبالتالي عدم قدرتها على توفير الموارد والخدمات والأمن، وهو ما يُعزز حجج الأفراد والمجموعات المحلية التي تدّعي أنها توفر هذه الاحتياجات. لكن وجود تلك الجماعات يقوض -في الوقت ذاته- قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها.

ويُشير "إيتون" إلى أن اقتصاد الحرب في ليبيا بلغ ذروته في عام ٢٠١٦، بينما شهد العام التالي (عام ٢٠١٧) تطورات عدة على عدد من الجبهات باتجاه اقتصاد يقوم بوظائفه بصورة كبيرة عما كان عليه الحال في السنوات السابقة، حيث انخفض عدد عبور القوارب في البحر المتوسط إلى أكثر من ٣٠٪ مقارنة بعام ٢٠١٦، كما كثفت لجنة أزمة الوقود والغاز التابعة لشركة البريقة جهودها لمعالجة تهريب الوقود. ومع ذلك يرى الباحث أن الديناميكيات التي دعمت ارتفاع اقتصاد الحرب لا تزال باقية. 

أساليب عديدة

أشار الباحث في ورقته إلى الأساليب التي يقوم عليها اقتصاد الحرب في الدولة الليبية، وهي على النحو التالي: 

أولًا- التهريب: 

ازدهر قطاع التهريب في ليبيا منذ عام ٢٠١١، إذ أدى سقوط نظام القذافي إلى منافسة مفتوحة للسيطرة على طرق التهريب، الأمر الذي ساهم في اندلاع صراعات محلية في جميع أنحاء البلاد للسيطرة على السوق غير الشرعية في ليبيا. وتطورت طرق التهريب عبر الصحراء من ممرات التجارة غير الرسمية إلى قنوات لتهريب الأسلحة والمخدرات والوقود والبشر. وقد ساهم غياب الدولة في توسيع شبكات التهريب وتطويرها على مستوى التكامل والتنظيم. ومن أهم أشكال التهريب:

1- تهريب البشر: فقد شهدت ليبيا زيادة كبيرة في التهريب والاتجار بالمهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء منذ عام ٢٠١٣. ويقدر الباحث أن الإيرادات من تهريب البشر في ليبيا بلغت حوالي ٩٧٨ مليون دولار في عام ٢٠١٦. 

2- تهريب الوقود: وهو ما كلف الدولة مبلغ ٣,٦ مليارات دولار وذلك وفقًا لتصريحات رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي في يناير ٢٠١٧. 

3- تهريب المخدرات والأسلحة، لكنه يخضع لرقابة أشد.

ثانيًا- الابتزاز والسعي وراء الريع:

سعت الجماعات المسلحة في ليبيا إلى زيادة إيراداتها عن طريق فرض الضرائب على حركة البضائع عبر الأراضي الخاضعة لسيطرتها. كما أتاحت السيطرةُ على نقاط العبور الرئيسية وعقود الاستيراد والتصدير، والبنية التحتية للنفط والغاز الطبيعي، توليدَ عائدات كبيرة من خلال الابتزاز عن طريق الاختطاف وطلب فدية ومحاصرة خطوط الأنابيب.

وكان القطاع المصرفي هدفًا رئيسيًّا لابتزاز الجماعات المسلحة. بالإضافة إلى الشركات الخاصة، لا سيما شركات النفط. ففي إحدى البلدات الصغيرة في جبال نفوسة التي توفر الوصول إلى خط أنابيب شرارة تم إغلاق خط الأنابيب لمدة عامين من ٢٠١٥ إلى ٢٠١٧، مما قلص إنتاج ليبيا بما يقدر بنحو ٢٨٣ ألف برميل في اليوم.

ثالثًا- استهداف الموارد المركزية للدولة:

تنافس الفاعلون في ليبيا على السيطرة على مؤسساتها السياسية عبر بيروقراطية الدولة، مما تسبب في فوضى إدارية، وزيادة فرص الكسب غير المشروع، ونمو السوق السوداء التي باتت محورية في سير الحياة الاقتصادية.

 وفي ظل التباين بين السعر الرسمي للعملة الأجنبية وسعر السوق السوداء برز عدد من المخططات للاستفادة من هذه الفرصة، مثل قيام أصحاب النفوذ بسحب العملة الأجنبية (بالسعر الرسمي) على بطاقات الائتمان في الخارج، والبيع اللاحق لتلك العملة بالسوق الليبية غير الرسمية (السوق السوداء).

تأثيرات على مستقبل الدولة

تؤكد الورقة البحثية أن اقتصاد الحرب في ليبيا ضار بمستقبل الدولة لثلاثة أسباب:

أولًا- يوفر بيئة تمكينية خصبة تستطيع من خلالها شبكات الجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية والأعمال التجارية الفاسدة والنخب السياسية الحفاظ على أنشطتها من خلال البيع غير المشروع وأنشطة الابتزاز. وترتبط هذه الأنشطة ارتباطًا وثيقًا بنشر العنف، وبالتالي فهي تشكل حافزًا للصراع.

ثانيًا- تسهيل اقتصاد الحرب لهذه الأنشطة يُشكّل حافزًا سلبيًّا لاستمرار ضعف الدولة، إذ إن عودة الإدارة المركزية الفعالة وكذلك تطوير القطاع الأمني لا يصب في مصلحة أولئك الذين يستفيدون من الوضع الراهن، مما يجعل هذه الجهات الفاعلة مفسدة لأي تسوية أو إصلاح إذا لم يتم التعامل مع مصالحها.

ثالثًا- ممارسات العاملين في اقتصاد الحرب لها تأثير كارثي على اقتصاد ليبيا الرسمي وتقويض ما تبقى من مؤسساتها، ومن ثم تقل احتمالات استعادة الحكم المركزي الفعال في الدولة، وهذا يُهدد -بدوره- بخلق حلقة مفرغة من شأنها تسريع فشل الدولة. 

الفرص والقيود

يُقر الباحث بأن خيارات ووسائل السلطات الليبية للتصدي لشبكات المنتفعين من استمرار اقتصاد الحرب محدودة، وأنها لا تعتمد على القوة فحسب. إذ يمكن أن تحقق تسمية هذه الشبكات والإعلان عنها بعض النتائج. ويضرب مثالًا بجهود لجنة أزمة الوقود والغاز التابعة لشركة البريقة الرامية إلى القضاء على الكسب غير المشروع من خلال تسليط الضوء على النشاط الاحتيالي علانية.

كما توفر الحاجة إلى تأمين الشرعية المحلية والحفاظ عليها بعض النفوذ للسلطات الحكومية، حيث تسعى كل الجماعات المسلحة تقريبًا إلى الانتماء إلى الدولة، واجتذاب أعضائها من المجتمعات نفسها التي يزعمون حمايتها، وذلك في إطار حاجة تلك الميليشيات إلى تعزيز المكاسب وضمان بقائها عن طريق ترسيخ مواقعها كجماعات شرعية توفر الأمن المحلي. ومن ثم يمكن أن يكون هذا دافعًا لتلك الجماعات لتجنب أشكال الدخل غير الرسمية.

كما قد يؤدي فقدان الشرعية المحلية إلى الإضرار بقدرة الشبكات الرابحة على العمل، مثال ما حدث في مدينة زوارة التي كانت إحدى أبرز نقاط انطلاق المهاجرين في البحر المتوسط، فبعد كارثة موت ٦٥٠ مهاجرًا تقريبًا بعد غرق عدد من السفن في أغسطس ٢٠١٥، ساهم رد الفعل الشعبي في الإطاحة بمهربي البشر من المدينة من قبل الجماعات المسلحة المحلية.

ويؤكد "إيتون" أن من الصعب إقناع المجتمعات المحلية بالتعبئة لإغلاق الأنشطة غير المشروعة، إذ إن عائدات اقتصاد الحرب كبيرة، وغالبًا ما تتركز في مناطق لا توجد بها سوى فرص معيشية بديلة قليلة. لذا في إطار السعي للتصدي لديناميكيات اقتصاد الحرب، يجب أن تعالِج المقاربات المحلية لبناء السلام وتحقيق التنمية والاستقرار. كما يجب الاهتمام بالدوافع الاقتصادية ونماذج الأعمال المتطورة للجماعات المسلحة، إلى جانب أهمية الشروع في إعادة إدماج أعضاء الجماعات المسلحة تحت رعاية الدولة الليبية، وتوفير فرص عمل لهم.

وفي الواقع، تمثل مراعاة مصالح قادة شبكات الجماعات المسلحة والشبكات الإجرامية والأعمال التجارية الفاسدة والنخب خيارات أكثر صعوبة. وفي هذا الإطار، ينبغي على السلطات الليبية أن تسعى إلى تحديد مسارات تسمح لمثل هذه الجهات بتحويل أرباحها إلى نشاط مشروع، وينبغي الاستفادة من رغبة منتجي اقتصاد الحرب في الحفاظ على الشرعية المحلية. 

وبالنسبة لدور الفاعلين الدوليين، يجب تقديم الدعم للسلطات الليبية التي تسعى إلى تحسين مستويات الشفافية فيما يتعلق بتوزيع أموال الدولة، وتكثيف الجهود لمنع انهيار مؤسسات الدولة.

المصدر: 

Tim Eaton, Libya’s War Economy: Predation, Profiteering and State Weakness, Chatham House, Research Paper, April 2018.