رؤية مغايرة:

مبررات "العداء الاستراتيجي" بين قبائل اليمن وتنظيم القاعدة

17 April 2018


عرض: محمد بسيوني عبدالحليم- باحث في العلوم السياسية

قدمت اليمن على مدار عقود نموذجًا لإخفاقات الدولة الوطنية، وتراجع قدرة السلطة على بسط سيطرتها على كافة أراضي الدولة، وهو ما أفضى إلى ظهور ما يُعرف بمناطق خارج سيطرة الدولة استغلها تنظيم "القاعدة" لتعزيز نفوذه، وفي مرحلةٍ ما التأسيس لنمط مستقل من السلطة بعيدًا عن الدولة، ناهيك عن التداعيات التي نتجت عن الأزمات التي مرت بها الدولة اليمنية، والمظالم التاريخية التي هيمنت على العلاقة بين الشمال والجنوب، وصولًا إلى الحرب الدائرة في اليمن منذ أكثر من ثلاث سنوات.

اضطلعت تلك الأوضاعُ المأزومة بدور جوهريٍّ في التكريس لوجود تنظيم "القاعدة" داخل اليمن، وفي الوقت ذاته سمحت بالترويج لفرضيات تقليدية بشأن اليمن، وذلك من قبيل توظيف "القاعدة" للقبائل لتعزيز وجودها في المجتمع اليمني نتيجة لما نشأ من تحالف بين الطرفين انطوى على تقديم القبائل للتنظيم ملاذات آمنة ومقاتلين وغير ذلك من أشكال الدعم. 

وعلى النقيض من هذه الفرضية، تجادل "ندوى الدوسري" في دراستها المعنونة: "عدو وليس صديقًا: القبائل اليمنية والقاعدة في شبه الجزيرة العربية"، المنشورة من جانب مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED في شهر فبراير 2018، بأن العلاقة بين القبائل ككيانات جماعية، وتنظيم "القاعدة"، ليست علاقة تحالف، حيث ظلت هوة شاسعة بين الطرفين بحكم بنية النظم والتقاليد القبلية التي لا تتوافق -بشكل أو بآخر- مع أطروحات تنظيم "القاعدة". 

وعليه، تفكك "الدوسري" هذه العلاقة عبر تناول التطور التاريخي لتنظيم "القاعدة" في اليمن، وديناميات العلاقة بين القبائل والتنظيم، بالإضافة إلى الدور الذي اضطلعت به الولايات المتحدة في اليمن، وكيف انعكس على معادلة العلاقة بين القبائل والتنظيم.

"القاعدة" في اليمن

تشير "الدوسري" إلى أن البدايات الأولى لتنظيم "القاعدة" في اليمن ارتبطت بالمقاتلين العائدين من أفغانستان في أواخر الثمانينيات من القرن المنصرم، وما حدث من انقسامات في مسار هؤلاء المقاتلين. ففي الوقت الذي أُعيد فيه دمج بعضهم في المجتمع مجددًا، اختار آخرون مسار القتال. وفي ذلك الوقت، لم تكن السلطات اليمنية تنظر إلى هؤلاء المقاتلين على أنهم تهديد أمني لها، بل بالعكس تم توظيفهم من جانب بعض القوى السياسية وفي مقدمتهم الرئيس اليمني السابق "علي عبدالله صالح" الذي استخدم عددًا من هؤلاء المقاتلين العائدين من أفغانستان في مواجهة خصومه بجنوب اليمن أثناء الحرب الأهلية في عقد التسعينيات.

وبمرور الوقت، كانت العناصر المتطرفة ذات الصلة بتنظيم "القاعدة" الرئيسي وزعيمه -آنذاك- "أسامة بن لادن" تكتسب موطئ قدم داخل اليمن لينفذ عناصر مرتبطة بالتنظيم هجومًا على مجموعة من السائحين في محافظة أبين اليمنية في ديسمبر 1998. وفي أكتوبر 2000 قصفت عناصر التنظيم المدمرة الأمريكية "يو إس إس كول" قرب عدن.

وبالرغم من الضغوط التي تعرّض لها تنظيم "القاعدة" في اليمن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فقد تمكّن من استعادة تأثيره، لا سيما بعد حادث هروب 23 من أتباعه المعتقلين من أحد السجون بصنعاء أوائل عام 2006، وكان من ضمن الفارّين من السجن الشخصيات القيادية بالتنظيم "ناصر الوحيشي" و"قاسم الريمي" اللذان توليا قيادة تنظيم "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية فيما بعد، وتوجهت عناصر "القاعدة" الهاربة من السجن بصورة رئيسية إلى المناطق ذات التضاريس الصعبة للحصول على ملاذات آمنة، وتنامى وجودهم في المناطق ذات الكثافة السكانية المنخفضة على غرار تلك الكائنة في المناطق الجنوبية الشرقية من أبين وشبوة وحضرموت. 

وفي عام 2009 وعقب الحملة الأمنية السعودية على تنظيم "القاعدة" داخل المملكة العربية السعودية، اندمج فرع "القاعدة في المملكة" مع التنظيم في اليمن ليتشكل تنظيم "القاعدة في شبه الجزيرة العربية"، ويتخذ من اليمن مركزًا له، وبدا أن التنظيم يمتلك موارد كافية للقيام بعمليات مؤثرة، وساعدته الانتفاضة الشعبية على الرئيس السابق "علي عبدالله صالح" في 2011 كي يعزز من نفوذه ويسيطر على مناطق داخل اليمن في ظل غياب السلطة المركزية، علاوة على ذلك فقد أقام التنظيم تحالفات مع بعض القوى المحلية على غرار تنظيم "أنصار الشريعة" وهو ما اعتُبر محاولة من التنظيم لكسب تأييد داخلي يُقلل من حدة المعارضة له. 

وتذكر "الدوسري" أن التنظيم حقق مكاسب مالية عقب سيطرته على المكلا في 2015 (حتى خرج من المدينة في 2016)، حيث كان يحصّل إيرادات من ضرائب الميناء، كما أن التنظيم استولى على أكثر من 100 مليون دولار من بنك المدينة، وذلك بخلاف إيرادات التنظيم من عمليات الاختطاف وتهريب الأسلحة والمخدارت والنفط عبر الشواطئ الجنوبية لليمن. 

"القاعدة" والقبائل اليمنية

ارتبطت أهمية القبائل لتنظيم "القاعدة" في اليمن بطبيعة التركيبة المجتمعية اليمنية، إذ تعد القبائل المكون الرئيسي للمجتمع اليمني. وعلى هذا الأساس، كان التنظيم يتعاطى مع القبائل كفرصة محتملة له لتأسيس موطئ قدم له. ولعل هذا ما دفع "أبو مصعب السوري"، أحد أهم منظّري ومفكّري تنظيم "القاعدة"، في عام 1999، إلى وصف المناطق القبلية في اليمن بأنها "مناسبة للحركة الجهادية"، وهو ما يرجع بشكل جزئي إلى تمسكها بالنظم القبلية التقليدية، بالإضافة إلى ثقافتها العسكرية. وفي عام 2009، حث "أيمن الظواهري"، الذي كان نائبًا لزعيم تنظيم "القاعدة" -آنذاك- "أسامة بن لادن"، قبائل اليمن على الاقتداء بالقبائل الأفغانية والباكستانية والتمرد على النظام الحاكم.

وفي إطار تحليلها لنمط استجابة القبائل اليمنية لطموحات "القاعدة"، تُميِّز "الدوسري" بين القبائل ككيان جماعي، وأفراد القبائل كشخصيات منفصلة. فمن المؤكد، وفقًا للكاتبة، أن التنظيم استقطب بعض أفراد القبائل الساخطين على الأوضاع بجانب اليمنيين الآخرين من المناطق الحضرية وكذلك بعض الأجانب، ولكن هؤلاء الأفراد كانوا يتصرفون بشكل مستقل ضد رغبات قبائلهم. وعطفًا على هذه الفرضية، تجادل الدراسة بأن العلاقة بين القبائل وتنظيم "القاعدة" محكومة بعدد من الديناميات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

أولًا- البنية القبلية: فالقبائل اليمنية توصف بأنها مؤسسات قائمة على المساواة، وليست هرمية بشكل محكم، وبالتالي فهي لا تملك هيكلًا قويًّا للتحكم والسيطرة، وشيوخ القبائل ليست لديهم سلطة مطلقة غير مشروطة على أعضاء القبيلة، وتعتمد شرعية شيخ القبيلة على قدرته على توفير الدعم لأفراد القبيلة، ويمكنه التأثير على رجال القبيلة، ولكن لا يمكنه إجبارهم على اتخاذ خيارات بعينها. 

وبموازاة هذه البنية تحتكم القبيلة إلى قانون عرفي قبلي ينظم العلاقات داخل القبيلة ومع القبائل الأخرى وكذلك مع الدولة، ويحظر هذا القانون ارتكاب بعض الأمور التي تُصنف كجرائم، من وجهة نظر القبيلة، وذلك على غرار قتل الجنود والتمرد العنيف على السلطة، وقتل الأبرياء، والإضرار بالمصالح العامة مثل تدمير المدارس والممتلكات والمساجد والمستشفيات. 

وتشير تلك المعطيات إلى أن الأفراد داخل القبيلة، وفقًا لطابع المساواة القبلي، يمكنهم أن ينضموا بشكل مستقل لتنظيم "القاعدة"، بيد أن القبيلة بما تمتلكه من قواعد ومدونات سلوكية لا تسمح بالتحالف مع تنظيم "القاعدة"، كما أن القبائل قد تلجأ إلى تجريد الفرد من عضويته في القبيلة، وتتبرأ منه في حال انتهاكه للقواعد المؤسسة للقبيلة. 

ثانيًا- خطاب تنظيم "القاعدة": حيث يعزز الخطاب الذي يتبناه التنظيم من فرص استقطاب عناصر قبلية في صفوفه، لأن التنظيم يستخدم مفردات التهميش والإذلال والظلم والفساد وقتل الأقارب والأبرياء وتدمير الممتلكات التي تسببها عمليات مكافحة الإرهاب. وإلى جانب هذا الخطاب، يقدم تنظيم "القاعدة" استجابات عملية للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية للشباب القبليين المحبطين ليساعد التنظيم شباب القبائل الذين انضموا إليه على بناء منازلهم الخاصة، والزواج، والحصول على رواتب لائقة، تصل أحيانًا إلى آلاف الدولارات. 

ثالثًا- التهديد الإرهابي: فالقبائل اليمنية لا تتعاطف كثيرًا مع تنظيم "القاعدة" لاعتبارات جوهرية، أهمها عدم توافق القبائل مع الرؤى المتطرفة للقاعدة وعنفه المتجاوز للحدود، ناهيك عن تقدير القبائل للتنظيم على أنه تهديد وتحدٍّ لنظمها الداخلية، خاصة وأن القبائل تدرك أن التنظيم يطمح إلى إقامة نظام حكم بديل للنظام القبلي.

كما أن وجود "القاعدة" في بعض المناطق القبلية يمكن أن يثير الصراع داخل القبائل، ويعظّم من الانقسامات الداخلية، ولا سيما بين الأفراد المتعاطفين مع التنظيم وغيرهم ممن يعارضونه، ناهيك عما يمكن أن يفضى إليه وجود التنظيم من توجيه ضربات عسكرية تتسبب في إصابات وقتل وتدمير للممتلكات، وهو ما يؤدي على المدى الطويل إلى تقويض السلطة القبلية لأنها لم تتمكن من حماية أفراد القبيلة.

هذه الرؤية لا تتناقض مع حالة الهدوء النسبي الذي شهدته العلاقة بين بعض القبائل وتنظيم "القاعدة" على خلفية الصراع مع جماعة الحوثيين، فقد بدا أن ثمة تقاربًا براجماتيًّا بين القبائل و"القاعدة" في بعض المناطق على غرار البيضاء. وفي هذا السياق، تصف "الدوسري" هذا التقارب بأنه تقارب مرحلي (وليس تحالفًا أيديولوجيًّا) لمواجهة تهديد الحوثيين الذين ارتكبوا "فظائع" ضد القبائل المحلية لإجبارها على الخضوع لحكم الحوثيين، ومن ثم رأت القبائل في الحوثيين تهديدًا راهنًا قد يستدعي استغلال تنظيم "القاعدة" دون أن تتراجع رؤية القبائل للتنظيم على أنه تهديد لا يختلف عن تهديد الحوثيين، وإن كان يفترق عنه في كونه تهديدًا على المدى الأبعد.

رابعًا- أدوات الاستجابة: ويقصد بها مسارات استجابة القبائل لوجود تنظيم "القاعدة" في المناطق القبلية، إذ تنصرف هذه المسارات إلى ثلاثة مسارات، أولها مسار الوساطة والتفاوض، والذي يحظى بأولوية لدى القبائل التي تتجنب اللجوء إلى القوة العسكرية قدر المستطاع حفاظًا على استقرار القبيلة وسلامة أفرادها، وعادةً ما تفضل القبائل اتباع نهج غير مباشر، باستخدام وسطاء للتفاوض مع مقاتلي "القاعدة" الذين يوجدون في مناطقهم. وفي بعض الحالات، قد يتفاوض زعماء القبائل مباشرة مع المسلحين. وفي هذا الإطار، تشير الدراسة إلى أن الوساطة القبلية لعبت دورًا رئيسيًّا في إرغام "القاعدة" على الخروج من المدن الجنوبية التي كانت استولت عليها في عام 2015.

ويرتبط المسار الثاني بتجريد أفراد القبيلة المنضمين للقاعدة من عضويتهم في القبيلة، والتبرؤ منهم، وذلك مثلما جرى في 2012 مع "طارق الفضلي" حينما تم تجريده من وضعه كشيخ في قبيلة آل فضل لعلاقته بتنظيم "القاعدة". بينما ينصرف النمط الثالث والأخير إلى المواجهة العسكرية مع التنظيم في حال استهداف التنظيم للقبائل بشكل مباشر، وهو ما حدث مثلًا في عام 2015 حينما قام تنظيم "القاعدة" بزرع عبوة ناسفة في محافظة شبوة أدت إلى مقتل أفراد من قبيلة العوالق، وهو ما دفع رجال القبيلة إلى قتل عناصر التنظيم المسئولين عن العملية.

احتمالات التقارب 

توضح الدراسة أن استراتيجية الولايات المتحدة لمواجهة الإرهاب في اليمن كان لها انعكاس ملحوظ على القبائل اليمنية، وكذلك على طبيعة العلاقة بين أفراد القبائل وتنظيم "القاعدة"، لا سيما وأن واشنطن اعتمدت عبر عقود على نظام "علي عبدالله صالح" الذي بدا غير قادر على تقويض وجود "القاعدة" في اليمن، بل بالعكس كان يستخدم ورقة "القاعدة" من أجل خدمة مصالحه والحصول على المساعدات الخارجية.

لقد دفع إخفاق النظام اليمني في مواجهة تنظيم "القاعدة" واشنطن إلى الانخراط المباشر في احتواء تهديد تنظيم "القاعدة"، وكانت الاستراتيجية المفضلة لواشنطن تنفيذ ضربات جوية وخاصة بطائرات بدون طيار. وتشير الإحصاءات إلى أن الولايات المتحدة نفذت 168 غارة جوية في اليمن من عام 2011 إلى عام 2016، وأدت هذه العمليات إلى قتل بعض قادة "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية، ولكنها في الوقت ذاته قتلت وأصابت العديد من المدنيين في المناطق القبلية بصورة انعكست سلبًا على الثقة بين القبائل والحكومة اليمنية. 

وتخلُص "الدوسري" إلى أن العمليات العسكرية الأمريكية غير الدقيقة والتي تؤدي إلى ضحايا من أفراد القبائل تخصم من فرص نجاح استراتيجية مكافحة الإرهاب، وتؤثر سلبًا في إمكانيات القبائل لمجابهة تنظيم "القاعدة"، خصوصًا وأن التنظيم يوظف ضحايا الهجمات الأمريكية المدنيين لتدعيم خطابه القائم على فكرة مواجهة التهديد الخارجي الذي تمثله الولايات المتحدة، ولعل هذا ما يحتم على واشنطن إعادة النظر في طبيعة الأماكن المستهدفة من هجماتها لتجنب وقوع المزيد من الضحايا المدنيين في صفوف القبائل اليمنية.

المصدر:

Nadwa Al-Dawsari, Foe Not Friend: Yemeni Tribes and Al-Qaeda in the Arabian Peninsula, Project on Middle East Democracy, February 01, 2018.