تجزئة الجبهات:

لماذا برزت ظاهرة "القضم التدريجي" في سوريا والعراق؟

08 May 2017


لجأت الجيوش النظامية والميليشيات "الموازية" والجماعات الهجينة إلى اتباع استراتيجية جديدة في بؤر الصراعات العربية يُطلق عليها في الأدبيات "قضم تدريجي" للأحياء والقرى والمناطق والبلدات و"المخيمات" داخل المحافظات التي استولت عليها التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة والجيوش المناطقية، المدعومة في بعض الأحيان من العصابات الإجرامية، لا سيما في مراحل ما بعد انهيار أو ضعف الهياكل الأمنية الرسمية، على نحو ما تُشير إليه أوضاع سوريا والعراق خلال السنوات الست الماضية، بحيث تتقلص المساحة إلى حد السيطرة على تلك الأحياء أو المناطق.

ويعود اللجوء إلى هذا التكتيك، الذي تبلور فيما بعد في استراتيجية متكاملة ضمن سلسلة معارك متواصلة، إلى عددٍ من العوامل المترابطة فيما بينها، وتتمثل في التبدل المستمر في المواجهات بين الأطراف المتنازعة في ساحات القتال غير المحددة، وتعذر السيطرة المتوازية على مناطق نفوذ الخصوم، وإحكام السيطرة على المناطق الجغرافية المركزية، والتفرغ للسيطرة على المناطق الجغرافية الأخرى، وتجنب الخسائر في صفوف القطاعات الجماهيرية، وتقليص الدمار الحادث في البنية التحتية، ورفع الروح المعنوية للقوات المقاتلة، وقطع خطوط الإمداد والتمويل بين الجماعات المسلحة، وتداخل مناطق السيطرة الفصائلية، وتفعيل نموذج اللا مركزية المناطقية، وتأمين الخطوط الحدودية المشتركة.

سيطرة تراكمية:

تشير الخبرة الميدانية في بؤر الصراعات العربية المسلحة إلى أن استراتيجية "القضم التدريجي" يُقصد بها "سيطرة الفاعل، سواء كانت جيوش الدولة أو جماعات مسلحة ما دون الدولة، بشكل تدريجي وبطيء على أجزاء محدودة من الأحياء أو المناطق أو القرى أو البلدات الصغيرة أو الطرق أو الشرائط الحدودية المطلوب التقدم فيها، وتثبيت وضعها بعد فصل تلك الأجزاء، ثم الانتقال للسيطرة على أجزاء أخرى صغيرة، وهكذا دواليك ليستكمل السيطرة المتتابعة التراكمية على المناطق، إضافة إلى تأمين أجزاء ثانية"، على نحو يؤدي إلى تجزئة جبهات القتال أو ساحات المواجهة بين أطراف الصراع.

وتحتاج سياسة قضم الأحياء والمناطق إلى مقومات لا تملك الجيوش الموازية بعضها، وهي الدعم الجوي، والعنصر البشري القتالي، والإمداد اللوجيستي، والتحصين المناطقي بشكل مستمر، الأمر الذي يُفسر نجاح نظام الأسد في استعادة السيطرة على مدينة محورية مثل حلب بتطبيق استراتيجية القضم البطيء منذ عام 2013 بحصار مناطق المعارضة المسلحة. فقد سيطر على بلدة، ثم قام بتأمين القرى المجاورة، ثم انتقل إلى المطار والتلال، ثم المدن الصناعية، حتى فرض الحصار على المدينة بأكملها. 

إن ثمة مجموعة من العوامل تفسر تزايد الطلب على تلك الاستراتيجية من جانب الفواعل المختلفة في بؤر الصراعات العربية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

تكتيكات متحولة:

1- تغير واقع المواجهات الميدانية بين الأطراف المتصارعة غير المتناظرة: نظرًا لعدم وجود مسرح عمليات محدد، فضلا عن ضيق المناطق الجغرافية المسهلة للاقتحام، فقد تمكنت قوات الجيش العراقي والشرطة الاتحادية والفرقة الذهبية التابعة لجهاز مكافحة الإرهاب، في 3 مايو الجاري، من تحرير حي الزنجيلي الذي يُعد أحد أهم أحياء الجانب الغربي للموصل من تنظيم "داعش"، إذ أصبحت المدينة القديمة وسط الموصل محاصرة من مختلف الجوانب، حيث أبطأت الأزقة القديمة للمدينة خلال الشهرين الماضيين من تقدم القوات الأمنية بها.

رقع متسعة:

2- استحالة السيطرة المتزامنة على مناطق "الخصوم": وذلك لاتساع الرقعة الجغرافية للمعارك الميدانية، إذ تدرك الجيوش النظامية، خاصة في مراحل ضعفها، عدم قدرتها على السيطرة على مناطق واسعة دفعة واحدة، بسبب استحالة الدفاع عنها، وصعوبة تثبيت وضعها في مناطق واسعة بسرعة، خاصة مع معرفة القوات المناوئة بتلك الأحياء ومنافذها، ما يدفعها للتركيز على قطاعات صغيرة، مثل عدة كتل من الأبنية، أو أجزاء من شارع محدد، حيث تركز الجيوش النظامية قدراتها القتالية على المنطقة المستهدفة، وخاصة المدفعية والطيران.

مفاتيح استراتيجية:

3- إحكام السيطرة على المناطق الجغرافية المركزية: استهدف نظام الأسد تطويق الأحياء الاستراتيجية في مناطق سيطرة القوى المسلحة المناوئة بالقوة المسلحة، أو بإطلاق مبادرات للتسوية في عدد من بؤر الصراع التي تحتضن جماعات مسلحة في سياق أُطلق عليه "المصالحات المحلية" أو "المصالحات الإجبارية" لإعادة الأمن والاستقرار إلى مناطق بعينها، خاصة التي تتماسّ جغرافيًّا مع أحياء يسيطر عليها فعليًّا بما يؤدي إلى زيادة تأمينها. وفي هذا السياق، تشير خريطة الأحياء والمناطق التي شهدت مصالحات إلى أن القاسم المشترك بين أغلبها هو كونها مفاتيح لمناطق استراتيجية كانت تقع تحت سيطرة الجماعات المسلحة.

فائض القوة:

4- التفرغ للسيطرة على مناطق جغرافية أخرى: يمكن أن تستخدم إعادة السيطرة على مناطق وقعت تحت نفوذ الجماعات المناوئة للجيوش النظامية كفائض للقوة في مواجهة المسلحين المسيطرين على أحياء ومناطق أخرى بعد تخفيف العبء القتالي الواقع على كاهل المؤسسة العسكرية، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة عن طريق عمل طوق دائري يكون مصحوبًا باشتباكات ومناوشات، وهو تكتيك يُحقق هدفين رئيسيين: أولهما، إنهاك الخصم واستنزاف موارده التي أصبحت محدودة بفعل الحصار. وثانيهما، تقليص مساحة السيطرة بما يقلل هامش المناورة ومساحة الاشتباك. وهنا تجدر الإشارة إلى أن "المعضمية" شكلت منفذًا لداريا، وسوق الوادي شكلت منفذًا لوادي بردى، وقدسيا منفذًا للهامة، وزاكية منفذًا لخان الشيخ.

كما يُشكِّل اتفاق المدن الأربع (كفريا، الفوعة، الزبداني، مضايا) الذي تم التوصل إليه بين فصائل معارضة على رأسها "هيئة تحرير الشام" و"حركة أحرار الشام" من جانب وإيران و"حزب الله" من جانب آخر، إمدادًا للنظام السوري بعناصر مسلحة جديدة من كفريا والفوعة في وقت يعاني فيه نقصًا حادًّا في العتاد البشري، ويحاول عسكرة المجتمع للحفاظ على بقائه.

سقوط المدنيين:

5- تجنب الخسائر في صفوف السكان المدنيين: تُستخدم الأسلحة الخفيفة خلال التغلغل داخل الأحياء السكنية لحماية المدنيين، وهو ما قامت به القوات العراقية لطرد تنظيم "داعش" من مدينة الموصل. وقد عبّر عن هذا العامل جليًّا عضوُ لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي علي المتيوني، في تصريحات صحفية في 15 إبريل 2017، قائلا: "إن الاستراتيجية الجديدة التي تعتمدها القوات العراقية هي التقدم البطيء داخل أحياء وسط الجانب الغربي للمدينة، والقتال بالأسلحة الخفيفة، تجنبًا لسقوط ضحايا من المدنيين".

 كما أشار قائد جهاز مكافحة الإرهاب في العراق الفريق الركن عبدالغني الأسدي، في حوار مع وكالة "رويترز" للأنباء في 26 إبريل 2017، إلى أن "قواته تسعى، قدر الإمكان، لتفادي سقوط ضحايا وسط السكان الذين يُقدر عددهم بمئات الألوف في الموصل"، وأضاف: "إن أسلوب التطويق والمحاصرة تفرضه طبيعة المنطقة وتشعباتها.. فالبيوت والأزقة والشوارع ضيقة" على نحو يزيد من مخاطر تعرض قطاعات بشرية عدة للقتل.

الروح القتالية:

6- رفع الروح المعنوية للقوات المقاتلة: تهدف الجيوش النظامية إلى نشر وتقدم قواتها في المناطق التي يمكن إحراز تقدم فيها، والتغطية على الخسائر التي لحقت بها في مواجهة قوات الخصوم في ساحات المواجهة الأخرى، والحرص على تصحيح الموازين المختلة، لا سيما في ظل أوضاع هشة للسيطرة الفصائلية، على نحو ينذر بانهيارات سريعة في المناطق التي تسيطر عليها.

خنق الخزان: 

7- قطع خطوط الإمداد والتمويل بين الجماعات المسلحة: تسعى الجيوش النظامية إلى حصار الميليشيات المسلحة أو التنظيمات الإرهابية في الأحياء المسيطر عليها عبر منع إدخال المقاتلين والأسلحة والمساعدات الغذائية والأدوية الطبية وقصف المستشفيات واستهداف المصانع، فضلا عن إدامة زخم الهجوم العسكري فترة طويلة، وتبديل العناصر المقاتلة بهدف إراحتهم. وفي هذا السياق، تقدمت قوات الجيش السوري والميليشيات التابعة لها في المنطقة المحيطة بالأوتوستراد الدولي الرابط بين محافظة درعا والعاصمة دمشق، والذي يعد خط الإمداد الرئيسي والوحيد لقوات النظام بالمحافظة الجنوبية، تزامنًا مع إحكام السيطرة على بلدة الفقيع وقرية الوردات ومواقع عسكرية.

كما تُطوِّق "قوات سوريا الديمقراطية" (وهي تحالف من مقاتلين عرب وأكراد) مدينة الطبقة بعد عزل أجزاء كبيرة منها عن أراضٍ يسيطر عليها "داعش"، وقامت بقطع كافة طرق الإمداد الرئيسية لكوادر وقيادات التنظيم من الجبهات الشمالية والغربية والشرقية. غير أن ما قد يُعيق تقدم تلك القوات الاستهداف التركي لـ"وحدات حماية الشعب" الكردية السورية، باعتبارها امتدادًا لـ"حزب العمال الكردستاني" الذي يقاتل تركيا على مدى ثلاثة عقود.

تداخل السيطرة:

8- تداخل مناطق السيطرة الفصائلية: على نحو ما تشير إليه الحالة السورية التي تشهد بعض أحيائها سيطرة من كتائب محلية لا تنتمي لتجمعات كبيرة. فعلى سبيل المثال، نجحت غرفة عمليات "البنيان المرصوص" (التي تشارك فيها فصائل الجبهة الجنوبية التابعة لـ"الجيش السوري الحر"، و"جيش اليرموك"، و"أحرار الشام"، و"هيئة تحرير الشام"، و"جيش الإسلام"، وغيرها) في الدفاع عن أحياء مدينة درعا المحررة لأكثر من عام في مواجهة قوات الجيش السوري التي تستهدف فتح الطريق إلى معبر نصيب الحدودي مع الأردن. 

فقد سارت الغرفة على نهج استراتيجية القضم التدريجي، وسيطرت على أجزاء من أحياء المدينة، ولا تزال الغرفة متماسكة حتى 5 مايو الجاري، وتسير باتجاه إحكام السيطرة على حي المنشية. وتكمن أهمية هذا الحي، من الناحية الاستراتيجية، في أنه يشرف على بعض أحياء درعا التي لا تزال تحت قبضة النظام. كما يحتضن هذا الحي المؤسسات الحكومية والأفرع، وهو ما يفسر إجبار المعارضة على التراجع عند تقدمها داخل حي المنشية، حيث يستخدم الجيش السوري الحي منصةً لإطلاق الصواريخ شديدة الانفجار على أحياء درعا المحررة.

لا مركزية كردية:

9- إقامة نموذج اللا مركزية المناطقية: وهو ما يطمح في ترجمته الأكراد المسلحون في بؤر الصراعات، حيث تهدف "قوات سوريا الديمقراطية" ضمن حملة "غضب الفرات" إلى تطهير آخر جيب يسيطر عليه تنظيم "داعش" في مدينة الطبقة، لا سيما بعد سيطرتها على أجزاء كبيرة منها، وفقًا للمؤشرات الميدانية في بداية مايو 2017. ويسهم هذا التقدم في التحضير لمعركة "سد الطبقة" الذي يقع على الضفاف الجنوبية لنهر الفرات على بعد نحو خمسين كلم غرب مدينة الرقة، المعقل الأبرز لتنظيم "داعش".

ومن ثمّ، فإن السيطرة على مدينة الطبقة وكذلك سد الفرات المحاذي من الجهة الجنوبية سوف يُمهد الأجواء لتقدم "قوات سوريا الديمقراطية" باتجاه مدينة الرقة، ويؤدي إلى إحكام السيطرة على بقايا "داعش" التي تواجه ضغوطًا متصاعدة. غير أن هناك مخاوف من أن تصاعد حدة المواجهات قد يدفع كوادر التنظيم إلى تخريب أو تفجير الطبقة، مما يُنذر بكارثة إنسانية، ويعني هذا السيناريو إغراق قرى وبلدات بأكملها.

خطوط الحدود:

10- تأمين الخطوط الحدودية المشتركة: على نحو ما يفسر دخول تعزيزات لقوات "حزب الله" إلى المناطق السورية الحدودية مع شرق لبنان، بهدف شن هجمات على مناطق وادي بردى المتاخمة لبلدتي مضايا والزبداني، مثلما حدث في يوليو 2016، في سياق خطة قضم المناطق المحيطة بالعاصمة، والسيطرة على المناطق المحاذية للحدود مع لبنان، وإيقاف الاستنزاف العسكري الناتج عن المناوشات المتقطعة.

توسيع الطوق:

خلاصة القول، لم يعد ممكنًا انتزاع السيطرة على مناطق أو مدن في بؤر الصراعات العربية دفعة واحدة، خاصة في سوريا والعراق، وإنما الاستحواذ على الحواجز والمواقع والنقاط والتلال والأحياء باعتبارها نقاطًا استراتيجية للإمساك بالأرض ومناطق التمركز، وربط جميع المناطق المسيطر عليها، في مواجهة قوات الخصوم، والحد من مسارات انتقالها، ومخازن أسلحتها، ومنافذ إمدادها، وبقايا جيوبها.