خطوط متوازية:

تأثير الانتخابات الأمريكية على توازنات القوى في إيران

27 October 2016


رغم أن النتائج التي تُسفر عنها الانتخابات المختلفة في إيران، على غرار انتخابات رئاسة الجمهورية، ومجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، ومجلس خبراء القيادة، تمثل محصلةً للتفاعلات بين القوى السياسية الداخلية التي تقوم المؤسسات الرئيسية في نظام الجمهورية الإسلامية، وعلى رأسها مؤسسة المرشد والحرس الثوري، بضبط توازناتها بحيث لا تخرج عن الإطار الذي تم تحديده لها مسبقًا، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت ذاته أن بعض التطورات الطارئة على الساحة الخارجية التي تحظى باهتمام خاص من جانب إيران، تمثل أحد المتغيرات التي يمكن أن تفرض تأثيرات غير مباشرة تُساهم في تحديد نتائج بعض أهم تلك الانتخابات، وعلى رأسها الانتخابات الرئاسية.

وبعبارة أخرى، يُمكن القول إن الاتجاهات العامة للتطورات التي تشهدها الساحة الخارجية تساهم -بدرجةٍ ما- في إعادة صياغة توازنات القوى السياسية الداخلية في إيران، بما يدعم فرص أحد التيارات السياسية في الوصول إلى السلطة أو تكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار الرئيسية. ومن دون شك، فإن مستوى تأثير هذه التطورات الخارجية يرتبط في المقام الأول برؤية المؤسسات الرئيسية في النظام لما يمكن أن تمثله من فرص أو تهديدات لمصالح إيران وأمنها القومي.

تأثيرات مضادة:

وقد بدا ذلك جليًّا في الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي أجريت في عام 2005، إذ يمكن القول إن أحد أسباب صعود اليمين الأصولي المحافظ إلى السلطة في إيران ممثلا في الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد بعد "المفاجأة" التي حققها في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في يونيو 2005 أمام أحد أهم رموز الثورة وأركان النظام رئيس الجمهورية الأسبق رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، يعود، في قسم منه، إلى الضغوط الخارجية التي تعرضت لها إيران في تلك الفترة، وتحديدًا عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.

فرغم أن إسقاط نظام صدام حسين صب في صالح إيران، وهيأ المجال أمام اتساع نطاق نفوذها بشكل كبير داخل العراق؛ إلا أن ذلك لا ينفي -في الوقت ذاته- أن السياسة التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش التي سيطر عليها المحافظون الجدد تجاه إيران فرضت ضغوطًا قوية على الأخيرة، وكان لها تأثير غير مباشر على توازناتها السياسية الداخلية التي مالت بشكل واضح لصالح تيار المحافظين الأصوليين، وهو ما دفع اتجاهات عديدة للإشارة إلى أن توازنات القوى السياسية الداخلية في كل من واشنطن وطهران تسير، في بعض الأحيان، في خطوط متوازية.

وبمعنى آخر، فإن التهديدات التي أطلقتها الإدارة الجمهورية الأمريكية في تلك الفترة، والتي بدت جلية في وضع إيران ضمن قائمة ما يسمى بـ"محور الشر" مع كلٍّ من العراق وكوريا الشمالية، والتلويح باستخدام الخيار العسكري في تسوية أزمة الملف النووي التي بدأت تتصاعد في تلك الفترة، دعمت نفوذ تيار المحافظين الأصوليين، وساعدته في الوصول إلى السلطة في إيران من جديد، من خلال شخصية تنفيذية لم تكن معروفة بشكل كبير على الساحة السياسية في تلك الفترة وهي محمود أحمدي نجاد، الذي كان محافظًا لمدينة أردبيل ثم رئيسًا لبلدية طهران قبل أن يترشح في الانتخابات الرئاسية ويتولى منصب الرئيس.

وعلى العكس من ذلك، فإن السياسة الجديدة التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجاه إيران، حتى قبل الوصول للاتفاق النووي في يوليو 2015، كان لها تأثير غير مباشر أيضًا على التفاعلات الداخلية الإيرانية. فرغم أن إيران رفضت الرسائل العديدة التي وجهها أوباما إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، ودعا خلالها إلى تقليص حدة الخلافات بين الطرفين؛ إلا أن ذلك كان له دور أيضًا في تغيير توازنات القوى داخل إيران لصالح تيار المعتدلين الذي ضم أقطابًا من تيار الإصلاحيين السابق بقيادة الرئيس الأسبق محمد خاتمي والجناح التقليدي من تيار المحافظين بقيادة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، وهو ما ساهم في النهاية في "المفاجأة" الأخرى التي حققها الرئيس حسن روحاني بفوزه على أربعة من مرشحي تيار المحافظين الأصوليين من الجولة الأولى في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت في يونيو 2013.

نفوذ خامنئي:

ومن دون شك، فإن القيادة العليا ممثلة في علي خامنئي كان لها دور لا يمكن تجاهله في توجيه توازنات القوى الداخلية لصالح مرشحين بعينهم. وبعبارة أخرى، فإن سلطات خامنئي التي تفرض عليه الحياد في الانتخابات لا تمنعه من التدخل بشكل غير مباشر لتعزيز فرص أحد المرشحين في الانتخابات، على غرار ما حدث في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 2009 و2013، عندما تدخل في الأولى لصالح أحمدي نجاد رافضًا مطالب "الحركة الخضراء" بإعادة فرز الأصوات، وحينما أحجم في الثانية عن التدخل لتوحيد صفوف تيار المحافظين الأصوليين خلف مرشح واحد فقط؛ حيث كان تعدد مرشحي هذا التيار فرصة لروحاني للفوز بالانتخابات من الجولة الأولى.

 من هنا، أشارت اتجاهات عديدة إلى أن خامنئي كان يريد رئيسًا للجمهورية يستطيع الوصول للصفقة النووية التي كان يسعى لها الأول، بدليل موافقته على إجراء مفاوضات سرية مع الولايات المتحدة الأمريكية في أواخر عهد أحمدي نجاد، وتحديدًا في مارس 2013، بعد أن أدرك مدى صعوبة الاستمرار في تبني السياسة المتشددة في الأزمة النووية التي أدت إلى رفع سقف العقوبات الدولية المفروضة على إيران بشكل غير مسبوق.
    واللافت في هذا السياق، هو أن هذه الرؤية تحديدًا تبنتها المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية الأمريكية هيلاري كلينتون، وذلك حسب تقارير عديدة نشرت رسالة لموقع "ويكيليكس" تشير إلى أن الأخيرة تعتقد أن روحاني لم يصل إلى السلطة إلا بإذن من خامنئي ورجال الدين بعد أن فرضت العقوبات الدولية ضغوطًا غير مسبوقة على الاقتصاد الإيراني أدت إلى إنهاكه بشكل كبير.

رسائل مسبقة:

من هنا، ربما يُمكن تفسير أسباب اهتمام إيران بمتابعة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرَى في نوفمبر 2016، خاصة أن الموقف من إيران كان محورًا رئيسيًّا في المناظرات التي أجريت بين المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، لا سيما فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه بين إيران ومجموعة "5+1" في يوليو 2015، ومع الدور الذي تمارسه إيران على الساحة الإقليمية.

لكن ذلك لا يعني أن إيران تفضل مرشحًا أمريكيًّا على آخر، خاصة في ظل إدراكها محدودية تأثير المتغير الشخصي داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن حرصها بصفة مستمرة على إبداء شكوك قوية في نوايا واشنطن تجاهها والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها من إجراء مفاوضات مع إيران، سواء حول الملف النووي أو الملفات الأخرى التي تحظى باهتمام مشترك؛ وإنما يعني أن إيران تسعى إلى تقييم واستشراف المسارات المحتملة للسياسة التي يمكن أن تتبناها واشنطن إزاءها في مرحلة ما بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدرجة قد تساهم، بشكل غير مباشر، في تحديد اتجاهات توازنات القوى السياسية الداخلية قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي سوف تجرى في 17 مايو 2017. 

ومن هنا، ربما يمكن تفسير حرص إيران على توجيه رسائل مسبقة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار التهديد بـ"حرق" الاتفاق النووي، ومحاكمة بعض الأمريكيين من أصول إيرانية، واتهام واشنطن بالسعي إلى اختراق حدودها بأدوات ثقافية واقتصادية، والضغط على إيران من أجل التراجع عن دعم حلفائها في المنطقة.

لكن هذه الرسائل التي لم يخلُ بعضها من تهديدات واضحة، تشير في مجملها إلى أن طهران ربما تسعى -على عكس ما تدعي- إلى إقناع واشنطن بضرورة الحفاظ على الاتفاق النووي، على أساس أن الخيارات الأخرى التي يمكن الاتجاه إليها بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في الدولتين، ربما تفرض تهديدات مباشرة لأمن ومصالح الطرفين، لا سيما في ظل الصراعات المفتوحة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط في الفترة الحالية.