برجماتية بوتين:

تغيرات السياسة الروسية في الشرق الأوسط

19 May 2016


إعداد: منى علي

جمعت السياسة الروسية تجاه منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الأخيرة، بين السياسة التقليدية للاتحاد السوفييتي التي رأت في المنطقة ساحة مواجهة مع الكتلة الغربية، وبين السياسة المُعاكسة لها التي اتبعها الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسن، والتي وضعت العلاقات الاقتصادية في المقام الأول قبل حسابات الجغرافيا السياسية. وقد سمح هذا المزج للرئيس الحالي فلاديمير بوتين أن يتبنى سياسة برجماتية في التعامل مع دول المنطقة.

انطلاقاً مما سبق، تأتي هذه الدراسة الصادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية Ifri تحت عنوان: "الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط: العودة إلى الجغرافيا السياسية"، وهي الدراسة التي أعدها "ألكسندر شوميلين" Alexander Shumilin، مدير مركز تحليل صراعات الشرق الأوسط في معهد الدراسات الأمريكية والكندية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم.

برجماتية موسكو

تشير الدراسة إلى أن سياسة الرئيس بوتين تتسم بقدر كبير من البرجماتية التي تتيح لروسيا التعامل مع دول الشرق الأوسط، وذلك منذ توليه السلطة في عام 2000، حيث عمل على تعزيز الشراكة مع دول المنطقة على النحو الذي يُدعم موقفه فيما أسماه "الحرب على الإرهاب"، وذلك خلال الحرب الشيشانية. ومن ثم، تعززت العلاقات الروسية – الإسرائيلية، خاصةً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إلى الحد الذي أقلق الدوائر العربية في موسكو من هذه النزعة المؤيدة لإسرائيل.

كما أتاحت هذه البرجماتية لبوتين مد جسور التعاون مع دول الخليج العربية لأسباب اقتصادية في الأساس، والتي تعززت مع فرض الدول الغربية عقوبات اقتصادية على موسكو، نتيجة لموقف الأخيرة في الأزمة الأوكرانية.

وإلى جانب هذه البرجماتية، فقد شهدت السنوات الأخيرة إعادة إحياء جزئية لسياسات الاتحاد السوفييتي التي ترى في منطقة الشرق الأوسط إحدى جبهات الصراع مع الغرب، وذلك باستثناء حلفاء روسيا التقليديين، وفي مقدمتهم سوريا وإيران.

ويؤكد الكاتب أن روسيا ظلت محتفظة بقدر كبير من برجماتيتها، واستعدادها للتعامل مع كل الحكومات في المنطقة، وظهر ذلك بوضوح في تعامل موسكو مع تطورات الأوضاع في مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 وحتى تولي الرئيس السيسي السلطة حالياً.

الأزمة السورية والوضع الداخلي الروسي

تبنت موسكو موقفاً مضاداً للاحتجاجات التي اندلعت في عدد من الدول العربية مع بداية عام 2011، حيث اعتبرت أن هذه الاحتجاجات مدفوعة بتدخلات القوى الغربية، ومع ذلك لم تُظهر موسكو دعماً رسمياً لأي من النظم الحاكمة التي انتشرت الاحتجاجات ضدها، باستثناء الدعم الواضح لنظام بشار الأسد في سوريا.

ومن وجهة نظر الكاتب، هناك عدد من الأسباب وراء هذا الدعم للأسد، والتي تتجلى في رغبة روسيا في تعزيز وجودها عبر قاعدة بحرية في طرطوس، وكذلك عمق العلاقات بين البلدين منذ عهد الاتحاد السوفييتي، فضلاً عن أسباب أخرى تتعلق بالداخل الروسي.

فقد تزامن تعقد الأزمة السورية واتخاذها منحى جديداً نحو "الحرب الأهلية"، مع حدوث تحولات في الأوضاع الداخلية الروسية، والتي تتعلق بانتقال السلطة إلى بوتين، حيث ربطت حملته بين الاحتجاجات في سوريا، حليف موسكو، وبين احتجاجات المعارضة في الداخل الروسي، ووضعتها في إطار مؤامرة دولية تستهدف روسيا وحلفاءها، وهي الطريقة التقليدية لتوحيد الجبهة الداخلية في مواجهة أي عدو خارجي.

وقد أظهرت الدعاية الروسية الوضع في سوريا باعتباره حرباً بين نظام الأسد الذي يحظى بالدعم الروسي، وبين الجماعات المعارضة التي تصفها موسكو "بالإرهابية"، والتي تحظى بدعم الدول الغربية.

وتم تصدير هذه الصورة إلى الرأي العام الروسي على النحو الذي ينتهي منه إلى نتيجة مفادها أن الدولة الروسية تدير سياستها الخارجية بهدف الدفاع عن مصالحها وسيادتها ضد الغرب المُعتدي، وإن اختلفت الجبهات من أوكرانيا إلى سوريا.

ويرى الكاتب أن هيمنة هذه الصورة على وجهة النظر الروسية تجاه الأزمة السورية، الأكثر تعقيداً من ذلك، تؤدي في النهاية إلى تعقيد عمل الدبلوماسية الروسية، والتي ستكون في مرحلة ما مطالبة بالتفاوض مع بعض خصوم الأسد الذين تصف آلة الدعاية الروسية معظمهم بالإرهابيين.

بين القناعات والواقع

على الرغم مما تقدمه آلة الدعاية الروسية من صورة حول الأوضاع في سوريا، فإنه من الخطأ الجزم بأن موسكو لا تدرك حقيقة الوضع في سوريا، فروسيا لا تنكر حاجة النظام السوري إلى اتخاذ خطوات جادة في سبيل التحول نحو نظام ديمقراطي، لكنها في الوقت نفسه تصر على ضرورة بقاء الأسد كجزء من عملية التحول المنشودة.

كذلك، يدرك صانعو القرار في روسيا ما يفرضه البُعد الطائفي (السني /الشيعي) للأزمة السورية من تحديات، يمكنها أن تؤثر على علاقات موسكو مع دول الخليج، والتي زار عدد من مسؤوليها العاصمة الروسية بهدف تحييدها في هذا الصراع، والذي تتحالف فيه روسيا مع الجانب الشيعي مُمثلاً في نظام الأسد، وحليفه الإقليمي إيران. وقد حاولت موسكو في هذا السياق الحفاظ على مستوى جيد من العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج، ولكن ليس على حساب أولوياتها الجيوسياسية في المنطقة.

هل حققت روسيا أهدافها في سوريا؟

أصبحت روسيا أكبر قوة عسكرية على أرض المعركة في سوريا مع توجيهها ضربات جوية خلال الفترة (سبتمبر 2015- مارس 2016)، حيث أعلنت رسمياً أنها تهدف إلى محاربة ما أسمته "الجماعات الإرهابية" ودعم موقف الحليف بشار الأسد في مواجهة هذه الجماعات. وقد حققت هذه الضربات أهدافاً أخرى تمثلت في تغيير موازين القوى في ساحة المعركة كي تميل لصالح قوات النظام السوري، وهو ما يتبعه تعزيز موقفه في المفاوضات السياسية الجارية.

ويرى الكاتب أن موسكو حاولت الاستفادة من موقفها القوي في الأزمة السورية في السعي للوصول إلى تفاهم أكبر مع دوائر صنع القرار في الدول الغربية، وكسر العزلة المفروضة عليها عقب الأزمة الأوكرانية، خاصةً أن هذا التدخل الروسي الحاسم في الأزمة السورية أعاد تشكيل صورتها لدى العالم، وأظهر عجز التحالف الغربي.

ومع ذلك، لم تتحقق أهداف موسكو، حيث اعتبرت الدول الغربية وحلفاؤها الإقليميون أن الضربات الروسية لا تهدف إلى محاربة الإرهاب كما هو مُعلن، وإنما تهدف بالأساس لإضعاف القوى المعارضة للأسد، وربما القضاء عليها نهائياً، بحيث تنجح موسكو في النهاية في خلق أمر واقع يوافق تصورها للصراع السوري باعتباره بين الأسد والجماعات الإرهابية، وتصدير هذا التصور للعالم.

كما أن موسكو تدفع ثمناً كبيراً جراء تدخلها بهذه القوة في الأزمة السورية، حيث تم توجيه انتقادات لاذعة للضربات الجوية وما تُسببه من خسائر في أرواح المدنيين وللبنية التحتية، كما تم إسقاط طائرة حربية روسية من قِبل القوات التركية، وهو ما أدى إلى توتر كبير في العلاقات بين البلدين، وهو توتر متوقع في ظل تبني أنقرة الموقف المعارض لموسكو في الأزمة السورية.

وفي هذا السياق، تشير الدراسة إلى أن الأزمة السورية ساهمت في حدوث تقارب تركي- سعودي، قد يدفع هاتين القوتين إلى اللجوء إلى قيادة التدخل العسكري المضاد للأسد كخطة بديلة حال فشل المسار الحالي، وهو ما من شأنه أن يمثل نقطة تحول كبيرة في الأزمة، خاصةً بعد تصنيف حزب الله، الحليف للنظام السوري ومن ورائه روسيا، من قِبل جامعة الدول العربية كجماعة إرهابية، بما ينفي عن روسيا ذريعة محاربة الإرهاب وهي تدّعم إحدى جماعاته. ومن ثم، فإن من مصلحة روسيا التحول حالياً إلى المسار السياسي والدفع باتجاه نجاحه، لأن الانتظار أكثر قد يحمل تكلفة أكبر.

استراتيجية الخروج

يبدو جلياً أن موسكو على قناعة بأن المفاوضات بين أطراف الأزمة السورية هي السبيل الوحيد للوصول لحل دائم للأزمة، ولكن السؤال الأبرز الذي تطرحه الدراسة في هذا السياق هو أي من الأطراف يجب أن يُمثل في هذه المفاوضات على نحو يضمن المصالح الروسية في سوريا؟

وتضع موسكو عدة شروط للتوصل لحل للأزمة السورية، يمكن أن يتم تسويقه للرأي العام الروسي باعتباره نصراً لها. وتتمثل هذه الشروط في الوصول لاتفاق مباشر مع الولايات المتحدة على النحو الذي يمكن تقديمه باعتباره تغلباً على العزلة المفروضة على روسيا دولياً، وإجباراً لواشنطن على الاعتراف بأهمية دور موسكو في العالم، بالإضافة إلى تأمين الوضع القوي لبشار الأسد على الأرض، خاصةً في مناطق الغرب السوري، ومن ثم تعزيز موقفه في المفاوضات، وأخيراً توفير الضمانات اللازمة لحماية الروس الموجودين في سوريا.

وقد سعت موسكو إلى تأمين جنودها عبر إعلانها، في منتصف مارس 2016، عن انسحاب جزئي لقواتها من الأراضي السورية، وهي الخطوة التي يمكن قراءتها في ضوء الخلافات بين موسكو وحلفائها في دمشق وطهران، حيث تضغط الأخيرة لاتخاذ خطوات من شأنها تصعيد حدة الصراع ودفع الأطراف الإقليمية للتدخل، وهو ما لا ترغب فيه موسكو.

ختاماً، تؤكد الدراسة أنه سيكون من قبيل المبالغة الحديث عن استراتيجية روسية طويلة المدى في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، حيث إن السياسات الروسية تتحدد بشكل كبير وفقاً لطبيعة علاقتها مع الدول التي تقود النظام الدولي وعلى رأسها الولايات المتحدة، لكن موسكو تسعى كذلك لاقتناص الفرص واستغلال الفشل الأمريكي في المنطقة.

والخلاصة أن الدور الروسي في المنطقة سيتحدد بناءً على النتائج التي ستتمخض عنها الأزمة السورية، وكذلك مدى قدرة موسكو على تحقيق التوازن بين السنة والشيعة، بالإضافة إلى توجهات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة التي ستصل إلى البيت الأبيض مع مطلع عام 2017.

* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط: العودة إلى الجغرافيا السياسية"، والصادرة في مايو 2016 عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية Ifri.

المصدر:

Alexander Shumilin, Russia’s diplomacy in the Middle East: Back to geopolitics, (Paris: The French Institute of International Relations, May 2016).