استفزازات طهران:

ما وراء المحاولات الإيرانية لتسييس الحج

13 June 2016


واصلت إيران سياساتها الاستفزازية بمحاولتها افتعال أزمة جديدة وإفشال موسم الحج لهذا العام، من خلال رفضها التوقيع على الاتفاقية المنظمة لشؤون الحج، حيث فشلت المفاوضات التي أُجريت الشهر الماضي بين الجانبين السعودي والإيراني، وذلك بعد مماطلة الطرف الإيراني ووضعه شروطاً تعجيزية حالت دون التوقيع على محضر الاتفاق الخاص بترتيبات الحجاج الإيرانيين، إذ تصر طهران على إقامة مراسم تحمل شعارات سياسية، وهو ما يعيق حركة بقية الحجيج القادمين من أكثر من 78 دولة.

المطالب الإيرانية

كان الوفد الإيراني قد أصَّر بشكل شديد على تلبية مطالبه في موسم الحج، والمتمثلة في الآتي:

1- منح التأشيرات للحجاج من داخل إيران أو عن طريق الإنترنت.

2- إعادة صياغة الفقرة الخاصة بالطيران المدني، ومناصفة نقل الحجاج بين الناقل الجوي الإيراني والناقل الجوي السعودي. (تعد مسألة نقل الحجاج بداية لاستئناف رحلات الطيران بين البلدين).

3- افتتاح ممثليات لرعاية شؤون الحجاج الإيرانيين عبر السفارة السويسرية. (هذا المطلب ما هو إلا التفاف على قطع العلاقات الدبلوماسية بين المملكة وإيران نتيجة للأحداث التي أعقبت إعدام "نمر النمر" واقتحام مقرات البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد).

4- تضمين فقرات في محضر الاتفاق تسمح للحجاج بما يُسمى دعاء "كميل" ومراسم "البراءة" و"نشرة زائر".

وقد اعتاد الطرف الإيراني إثارة مشكلات مع المملكة العربية السعودية قبل موسم الحج من كل عام، وذلك بإرجاء التوقيع على الاتفاقية الخاصة بترتيبات الحج والتي تُوقع عليها كافة الدول التي ترسل حجيجاً للمملكة. وطالبت إيران هذه المرة بامتيازات جديدة، بل بالغت في رفع سقف مطالبها بمحاولة تقنين بعض مظاهر الاحتفالات الشيعية أثناء مراسم الحج، والعمل على أخذ تصاريح بتنظيم تظاهرات أثناء المشاعر، الأمر الذي قُوبل بالرفض من جانب السلطات السعودية التي وافقت على غالبية المطالب التي تقدمت بها إيران باستثناء الأمور المخالفة لمناسك الحج.

ونظراً لإدراك إيران صعوبة تنظيم فعاليات سياسية أثناء الحج وما قد يواجهه حجاجها من أزمات، فإنها تراجعت عن إرسال حجاجها، حيث تسعى في الوقت ذاته إلى تحميل المملكة العربية السعودية هذه المسؤولية.

مساع إيرانية لتدويل الإشراف على الحج

منذ حادثة التدافع الأخيرة التي وقعت صبيحة عيد الأضحى العام الماضي وتوفي فيها 717 حاجاً منهم 122 إيرانياً، وإصابة 863 آخرين، منهم 150 إيرانياً، سعت الحكومة الإيرانية إلى المطالبة بانتخاب هيئة من الدول الإسلامية للإشراف على موسم الحج (الحج وفقاً لفقه المرجعية في إيران ينقسم إلى حج أكبر وهو الحج، وحج أصغر ويُقصد به الاعتمار للبيت الحرام)، وبذلك فهي هيئة تشرف على الأماكن المقدسة بشكل عام، أي تدويل الأماكن المقدسة.

وهذه المطالبات ليست الأولى من نوعها، فقد طالبت إيران بإجراء مُماثل عدة مرات، جاء أبرزها في عام 1987 عندما نظم بعض الإيرانيين تظاهرات حاشدة أثناء موسم الحج رفعوا فيها صور "الخميني" وهتفوا ضد الولايات المتحدة والعراق، رافعين شعارات ثورية، ما أسفر عن تدخل قوات الأمن السعودية، ونتج عن هذه الواقعة وفاة 402 حاج، منهم 275 إيرانياً، وإصابة أكثر من ألف شخص، وقُطعت على إثر هذه الحادثة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة السعودية وإيران حتى عام 1991.   

وبالتالي تسعى إيران إلى إثارة قضية جدلية سنوية من خلال استثمار الأحداث العارضة التي تقع في موسم الحج لإظهار ما تعتبره محدودية قدرة المملكة العربية السعودية على تنظيم الحج بمفردها، سعياً نحو إفقاد السعودية مكانتها الدينية التي ترى فيها إيران قدرة تأثيرية تتيح للمملكة التأثير الروحي على أكثر من مليار ونصف المليار مسلم حول العالم. في حين يسعى نظام الملالي في إيران إلى تصدير فكر الثورة الإسلامية وولاية الفقيه، ومن ثم الاستحواذ على القدرة التأثيرية التي تنافسها بها السعودية.

ويُشار إلى أن مسألة التدويل ترجع أصولها إلى "نظرية أم القرى"، والتي تطالب صراحةً بتدويل الإشراف على الحرمين الشريفين، وهي نظرية أسس لها أحد الرموز المحافظة في النظام الإيراني "محمد جواد لاريجاني"، وهو أحد أبرز المنظرين السياسيين للثورة الإسلامية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، ومن أبرز الكتابات التي أطلق من خلالها نظريته، هي: "الكشوف النظرية في السياسة الخارجية"، وكتاب آخر له بالفارسية بعنوان: "رؤيتي في الاستراتيجية الوطنية".

مراسم إيرانية لتسييس الحج

طالب الإمام "الخميني" الحجاج الإيرانيين، منذ الثورة الإسلامية في عام 1979، بإعلان ما يُسمى "البراءة من المشركين" وترديد الهتافات المؤكدة لذلك. وما يبدو ظاهراً أن هذه البراءة تكون بترديد شعارات مُعادية للغرب لاسيما الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن الواقع يؤشر إلى غير ذلك. وإعلان "البراءة من المشركين" عند "الخميني" هو واجب ذو طابع "عبادي/ سياسي"، ومن أركان فريضة الحج التوحيدية، وبدونها لا يكون الحج سليم الأركان وفقاً للخميني.

علاوة على ذلك، فإنه من ضمن المراسم الأخرى المرتبطة بالحجاج الإيرانيين ما يطلقون عليه "نشرة الزائر" وهي مجلة تُوزع بين وفود الحجاج الإيرانيين، ودعاء "كميل" وهو وِرد أو دعاء منسوب لكميل بن زياد النخعي، ويدّعون أنه علّمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إيّاه، فواظب عليه بعض الشيعة، خاصّةً في ليالي الجمعة.

وتُستغل هذه المناسبات التي حددها "الخميني" في تسييس الحج، وإظهار الكتلة الشيعية منفصلة عن باقي جموع المسلمين، فضلاً عن تجميع الشيعة العرب بجوار الحجاج الإيرانيين فيما يُشير إلى تأييدهم لولاية الفقيه كأساس للمرجعية الإسلامية.

نظرية "أم القرى" في تفسير السلوك الإيراني

تتوافق نظرية "أم القرى" في شقها السياسي مع نظرية "ولاية الفقيه"، حيث إن جوهرها الأساسي يرتكز لكون "أم القرى"، إيران، تمتاز بموقعها الجغرافي كأساس للانطلاق منه نحو الخارج، كما أن لقائدها صلاحيات واسعة كبيرة للحكم في إطار نظري عقائدي باعتباره "الولي الفقيه". ويقول "محمد جواد لاريجاني": "إذا كان علينا أن نعتبر إيران اليوم هي دار الإسلام وأم القرى، فيجب أن يخضع أولاً كافة المواطنين لإرادة الولي الفقيه وأن يبايعوه في كافة ما يريد".

وتتأسس نظرية "أم القرى" على المحددات التالية:

1- اعتبار كل من "قم وطهران"، مركز أو عاصمة مسؤولة، عليهما واجبات، يحكمهما إمام واحد مسؤول، وعليه زعامة أمة واحدة.

2– كون الأرض "مكة المكرمة" عاصمة دولة "أم القرى" (إيران)، أي أن "مكة" تصبح عاصمة الدولة، وهذه أمور تُدرس في الحوزات العلمية في "قم".

3– ارتكاز مفهوم الدولة محل النظرية على عنصرين رئيسيين يتمثلان في "ولاية الفقيه" و"حكومة الولاية"، كما أن مسألة الحدود الدولية القائمة والتي تعين الدول ليس لها أهمية، نظراً لكون الشعوب الإسلامية جميعها تتبع "ولاية الفقيه"، فلا يمكن تقسيم أراضي الأمة للحد من سلطات الولي الفقيه عليها (الاعتراف الإيرانى بالحدود الدولية للدول الإسلامية ما هو إلا أخذ بالتقية).

4– من واجبات شعوب الأمة الإسلامية الطاعة الكاملة لولاية الفقيه باعتبارها "فرض عين"، كما أن الدفاع عن بقاء "أم القرى" وتوسعها أمر حتمي، نظراً لوجود كثير من المشاكل التي تعانيها الدول الإسلامية عدا الدولة التي يحكمها نظام "ولاية الفقيه".

المسار المتوقع للأزمة

يُتوقع أن تتواصل الضغوط الإيرانية على السعودية خلال المرحلة القادمة في محاولة لتمرير الأجندة الإيرانية الخاصة بموسم الحج، وإن كان التراجع الإيراني عن مقاطعة الحج لهذا العام أمراً وارداً، حيث يتوقف هذا القرار على توجيهات المرشد الأعلى الذي سيسعى إلى النأي بنفسه عن ذلك الأمر، وتركه لحكومة الرئيس "حسن روحاني" فى إطار الضغوط التي يمارسها التيار المتشدد داخل طهران لتقويض الزخم المؤيد للإصلاحيين منذ الاتفاق النووي مع الغرب.

وبالتالي إذا فشلت الحكومة الإيرانية في الاتفاق مع السلطات السعودية على الترتيبات العقائدية للحجاج الإيرانيين ومن ثم أُلغي موسم الحج بالنسبة لهم، فإن السخط الشعبي لدى التيارات المحافظة بأطيافها المختلفة في إيران ستصب سخطها على الرئيس "روحاني" والإصلاحيين، ما سيعطى الفرصة بمزيد من الضغوط على التيار الإصلاحي.

يُستخلص مما سبق، أن الطموحات الإيرانية بمواصلة تصدير الفكر الثوري الإسلامي وفقاً لنظرية "ولاية الفقيه"، تعتبر المرتكز الرئيسي للاستراتيجية الإيرانية بشكل عام. وتحاول طهران استثمار كافة المناسبات والمحافل للترويج لمزاعمها بأنها النظام الأمثل الذي يتمتع بالاعتدال كأفضل شكل لنظم الحكم في العالم الإسلامي. ولذلك فإن استهداف السعودية واستفزازها يمثل هدفاً في حد ذاته باعتبارها الدولة الأكثر تأثيراً من الناحية الروحية في الأوساط الإسلامية، بالإضافة لما تمتلكه من مقومات مالية في مواجهة إيران التي تطرح نفسها باعتبارها زعيمة العالم الإسلامي الشيعي.