الأمن مقابل المعادن:

استثمار الكونغو الديمقراطية ثرواتها الطبيعية لتعزيز شراكتها مع بكين

29 May 2023


قام رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، بزيارة للصين، في 24 مايو 2023، لمدة 5 أيام، عقد خلالها لقاءات موسعة مع المسؤولين في بكين، بما في ذلك نظيره الصيني، شي جين بينغ، حيث تمت مراجعة العديد من الصفقات التجارية القائمة بالفعل بين البلدين، بالإضافة إلى إبرام اتفاقيات جديدة.

إعادة التوازن للعلاقات:

تُعد زيارة تشيسكيدي للصين هي الأولى له منذ وصوله للسلطة في يناير 2019، حيث يسعى لإعادة التوازن في اتفاقيات البنية التحتية للمعادن التي كانت الحكومة الكونغولية السابقة وقعتها مع بكين، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- مراجعة الصفقات التجارية: تستهدف زيارة تشيسكيدي لبكين مراجعة الصفقات التجارية القائمة بين الكونغو الديمقراطية والصين، إذ جاءت هذه الزيارة في أعقاب انتهاء اللجنة المكلفة من قبل تشيسكيدي، بمراجعة الاتفاقيات المبرمة مع بكين في مجال التعدين، من إعداد تقريرها، والذي توصل إلى نتيجة مفادها أن الشركات الصينية قد استفادت من كميات تقدر بحوالي 10 مليارات دولار من المعادن الكونغولية. وفي المقابل لم تلتزم هذه الشركات بإنشاء البنية التحتية المتفق عليها، سوى بنحو 822 مليون دولار.

واعترضت السفارة الصينية في كينشاسا على مضمون هذا التقرير، ما دفع الرئيس الكونغولي إلى عقد اجتماع مع أعضاء حكومته، في 19 مايو الجاري، أكد خلاله أنه سيتولى استكمال المباحثات مع الجانب الصيني.

وكان الرئيس الكونغولي السابق، جوزيف كابيلا، أبرم اتفاقاً مع الصين، عام 2008، يُعرف بمشروع "سيكوماينز" (Sicomines)، وتبلغ قيمته نحو 6 مليارات دولار، وبموجبه تم الاتفاق على أن تقوم شركتا "سينوهايدرو" (Sinohydro Corp) و"مجموعة سكك حديد الصين المحدودة" (China Railway Group Limited) الصينيتين بتخصيص نحو 3 مليارات دولار لتطوير مشروع "سيكوماينز" المشترك للنحاس والكوبالت، وحوالي 3 مليارات أخرى لتطوير البنية التحتية في الكونغو الديمقراطية، مقابل حصولهما على حصة تقدر بنحو 68% من المشروع، فيما تحصل شركة التعدين "جيكامينز" (Gecamines)، التابعة للحكومة الكونغولية، على حصة 32%. 

ويرى الرئيس تشيسكيدي أن الجانب الصيني لم يف بالتزاماته، وفقاً لهذه الاتفاقيات، التي نصت على ضخ استثمارات واسعة في البنية التحتية الكونغولية مقابل حصول بكين على النحاس والكوبالت من كينشاسا.

2- طلب الكونغو تعويضات صينية: قدمت الحكومة الكونغولية طلباً لبكين للحصول على تعويضات مقابل الخسائر التي تمخضت عن صفقة 2008، حيث طالب الرئيس تشيسكيدي بضرورة رفع المبلغ المخصص للبنية التحتية في إطار هذه الصفقة إلى 6 مليارات دولار، بدلاً من 3 مليارات، إلى جانب الحصول على تعويض آخر بقيمة ملياري دولار، بدعوى أن الشركات الصينية حصلت على المعادن من الشركة الكونغولية بنصف الأسعار الموجودة في السوق.

3- شراكة استراتيجية شاملة: هدفت زيارة تشيسكيدي لبكين كذلك إلى تعزيز التعاون والشراكة بين البلدين، حيث تم الاتفاق خلال هذه الزيارة على الارتقاء بالعلاقات بين البلدين من مرحلة "الشراكة الاستراتيجية للتعاون المربح للجانبين"، والتي تم إطلاقها عام 2015، إلى مرحلة "الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، وأعقب ذلك صدور بيان مشترك تضمن الإعلان عن خطط لتعزيز التعاون المشترك في كافة المجالات، بما في ذلك الأمنية.

وأعلنت وزارة الخارجية الصينية أن زيارة تشيسكيدي لبكين شهدت التوقيع على عدد من اتفاقيات التعاون المشتركة بين البلدين. وتُعد الصين هي الشريك التجاري الأكبر لجمهورية الكونغو الديمقراطية، فقد بلغ حجم التجارة بين البلدين عام 2022 حوالي 21.7 مليار دولار.

مرونة صينية مع الكونغو:

عكست زيارة تشيسكيدي إلى الصين وجود مصالح متشابكة بين البلدين، وحرصهما على تنمية علاقات التعاون بينهما، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- رفع حصة الكونغو في "النحاس والكوبالت": تستهدف زيارة تشيسكيدي إلى بكين زيادة حصة شركة التعدين الحكومية الكونغولية جيكامينز لـ60%، وحصول حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية على حصة 10%، مقابل تخفيض حصة الشركات الصينية إلى 30% فقط. وأعلن الجانبان اتفاقهما على مراجعة صفقات التعدين المشتركة، على أن يتم توقيع اتفاق جديد بنهاية العام 2023.

2- استعداد تشيسكيدي للانتخابات المقبلة: يتوقع أن تنطلق الانتخابات الرئاسية في الكونغو في ديسمبر 2023. ويبدو أن الرئيس تشيسكيدي يسعى إلى تحقيق عدة إنجازات داخلية وخارجية تعزز فرص حصوله على ولاية جديدة في هذه الانتخابات. 

ولعل هذا ما يفسر توقيت اتجاهه لإعادة النظر في اتفاق عام 2008 مع الجانب الصيني، ومساعيه لتعزيز الشراكة الاقتصادية مع بكين، بما يمهد الطريق نحو استثمارات صينية جديدة في كينشاسا ترجح كفة تشيسكيدي في الانتخابات المقبلة. 

3- توسيع التعاون العسكري بين البلدين: تسلمت الكونغو، في منتصف مايو 2023، الدفعة الأولى من الطائرات المسيرة الصينية من طراز "سي أتش – 4" (CH-4)، وذلك بالتزامن مع اتجاه كينشاسا للاستعانة بالقوة الإقليمية لمجموعة دول تنمية الجنوب الإفريقي (سادك)، لنشر قواتها في شرق الكونغو ودعم جهود فرض الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، بعدما فشلت قوات مجموعة شرق إفريقيا في مهمة إرساء السلام والاستقرار هناك.

وتشهد الكونغو الديمقراطية تحديات أمنية متفاقمة في شرق البلاد، إذ تنشط فيها نحو 120 مجموعة مسلحة، ناهيك عن حركة "23 مارس" المتمردة المدعومة من رواندا. وعلى الرغم من إرسال قوات مجموعة دول شرق إفريقيا قوات لدعم الجيش الكونغولي في تحقيق الاستقرار بهذه المنطقة، غير أن هذه القوات فشلت في تحقيق أي تقدم حقيقي في المنطقة، بل استمرت التهديدات الأمنية في التفاقم شرق الكونغو، وهو ما دفع كينشاسا لتعزيز تقاربها مع بكين لدعم قواتها المسلحة.

4- تأمين بكين معادن كينشاسا: تسعى الصين لتعزيز انخراطها في الكونغو لتأمين وصولها إلى الثروات المعدنية الهائلة الموجودة لديها، إذ يستخرج من الأخيرة نحو ثلثي إنتاج الكوبالت في العالم، وهي المادة الخام المستخدمة في إنتاج البطاريات. كما تُعد الكونغو الديمقراطية أحد أبرز منتجي العالم من النحاس، بالإضافة إلى امتلاكها احتياطيات كبيرة من الماس والذهب والليثيوم والتنتالوم. 

وشهدت السنوات الأخيرة حالات متكررة لمقتل صينيين خلال الهجمات التي تشنها المجموعات الإرهابية على بعض المناجم داخل الكونغو، لذا تعمل بكين على تأمين وجودها في الداخل الكونغولي للحفاظ على مصالحها هناك، كما تُشكل كينشاسا أهمية خاصة لبكين من الناحية الاستراتيجية المرتبطة بالتحول نحو الطاقة الخضراء.

ويلاحظ أن النفوذ الصيني يفوق نظيره الأمريكي في الكونغو، حيث باتت بكين تمتلك غالبية مناجم الكوبالت في كينشاسا، مقابل فشل الشركات الأمريكية في مواكبة هذا التوسع الصيني، بل ذهبت بعض هذه الشركات إلى بيع حصصها لنظيرتها الصينية.

5- دحض رواية "فخ الديون" الصينية: تعمل الصين حالياً على دحض الرواية الغربية الخاصة بفكرة "فخ الديون"، والتي تراها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بمثابة استراتيجية مقصودة تنتهجها بكين لإغراق الدول الإفريقية في الديون للحصول على أصول هذه الدول وثرواتها. 

وتسعى الصين لتأكيد أنها لا تستهدف استغلال الدول الإفريقية عبر تأكيد موافقتها على مراجعة اتفاقات التعاون السابقة مع الكونغو، والتي رأتها الأخيرة مجحفة بحقها، وذلك للوصول إلى اتفاقات أخرى أكثر عدلاً. 

ارتدادات دولية محتملة:

تعكس المخرجات التي تمخضت عن زيارة الرئيس الكونغولي إلى الصين وجود عدة ارتدادات محتملة ربما تطرأ على المشهد الداخلي في كينشاسا، وعلى السياق الإقليمي المحيط، خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:

1- تعزيز التعاون العسكري: يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة تعزيز التعاون العسكري بين بكين وكينشاسا، وهو ما يرسخ موطئ قدم للصين في العمق الإفريقي، خاصة مع إشارة تقارير عدة إلى سعي بكين للحصول على قاعدة عسكرية جديدة لها في وسط وغرب إفريقيا، لذا لا يستبعد أن تكون الكونغو هي أحد المواقع المحتملة لهذه القاعدة.

ومن ناحية أخرى، ربما تعمل الكونغو على إبرام صفقة مع بكين، يتم بموجبها توسيع الدعم العسكري الصيني للقوات الحكومية الكونغولية، ومساعدتها في فرض السيطرة على منطقة شرق الكونغو، مقابل حصول بكين على امتيازات أكبر فيما يتعلق بالثروات المعدنية الموجودة في كينشاسا، أو هذه القاعدة المحتملة. وربما يعزز هذا الطرح اجتماع وزير الدفاع الكونغولي، جان بيير بيمبا، مع نظيره الصيني، لي شانج فو، والذي أكد خلاله الأخير استعداد بكين لتقديم كافة أنواع الدعم العسكري للقوات الكونغولية.

2- تزايد التنافس الصيني الأمريكي: كانت الولايات المتحدة تمتلك تطلعات واسعة في الثروات الهائلة للكونغو الديمقراطية منذ تسعينيات القرن الماضي. ولذلك قد تُمثل كينشاسا بؤرة تنافس جديدة بين الولايات المتحدة والصين خلال الفترة المقبلة، في ظل الثروات المعدنية الكبيرة التي تزخر بها، ولاسيما فيما يتعلق بالكوبالت، والذي يشكل ركيزة أساسية في صناعة السيارات الكهربائية، وهي أحد أبرز مجالات التنافس الحالية بين واشنطن وبكين، ناهيك عما تُمثله هذه الصناعة من مفتاح رئيسي لتطلعات الإدارة الأمريكية الحالية للحد من تغير المناخ.

ويتسق هذا الطرح مع تقارير غربية أشارت إلى أن حدة التنافس الأمريكي الصيني حول مستقبل الطاقة الخضراء قد شهدت تصاعداً حاداً في القارة الإفريقية، حيث تُعد الأخيرة موطناً للعديد من المواد الخام اللازمة لسباق إزالة الكربون العالمي، والتي تشكل مدخلاً حاسماً للبطاريات والألواح الشمسية.

3- تكريس الاستقطاب في البحيرات العظمى: تُمثل منطقة البحيرات العظمى إحدى أبرز بؤر التوتر في القارة الإفريقية، ويتوقع أن يؤدي تنامي النفوذ الصيني في هذه المنطقة إلى تكريس حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي، خاصةً وأن الدعم الصيني المتوقع للجانب الكونغولي ربما يقابله مزيد من الدعم الغربي للموقف الرواندي، وهو ما قد يؤطر لحرب بالوكالة تزيد المشهد قتامة في هذه المنطقة المضطربة.

وفي الختام، تأتي زيارة الرئيس الكونغولي إلى بكين في إطار حالة الحراك الصيني الراهن تجاه القارة الإفريقية، ومساعيها لتوسيع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري داخلها. ويتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيداً من الزيارات التي سيقوم بها بعض قادة الدول الإفريقية إلى بكين، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة القلق الأمريكي من هذه التحركات، واتجاه واشنطن لتبني إجراءات مضادة، بما قد ينعكس على الأوضاع الأمنية في المنطقة سلباً.