منذ بدء التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير الماضي، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما عقوبات اقتصادية واسعة على روسيا، تضمنت حظر بعض البنوك الروسية من شبكة "سويفت" العالمية، وفرض قيود على الوصول لأسواق التمويل الدولية، وعقوبات أخرى على الشركات الروسية، وعدد كبير من الشخصيات العسكرية والسياسية الروسية.
وتذهب التقييمات الرئيسية إلى أن روسيا لن تكون المتضرر الوحيد جراء فرض العقوبات ومجريات الحرب الراهنة، بل من المتوقع أن تضرر الاقتصادات الأوروبية أيضاً، وهو ما يمكن إيضاحه في النقاط التالية:
1- تباطؤ النمو الاقتصادي: من المرجح أن تؤدي الأزمة الروسية – الأوكرانية لتباطؤ تعافي الاقتصادات الأوروبية، وسط متاعبها السابقة بسبب جائحة كورونا. فقد خفض "بنك باركليز" من توقعاته لمعدل نمو الناتج المحلي للقارة الأوروبية هذا العام إلى 3.5% بعد الأزمة، مقارنة بـ 4.1% قبلها، بينما كان "جي بي مورجان" أكثر تشاؤماً وخفض من توقعاته لنمو المنطقة خلال هذا العام إلى 3.2%، فقط مدفوعاً بطبيعة الحال بالتراجع المتوقع في التجارة الخارجية الأوروبية مع روسيا، وتباطؤ الاستهلاك الخاص.
2- تداعيات سلبية على التجارة: يُعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا، حيث مثّل نحو 37.3% من تجارة روسيا خلال عام 2020، كما تعد روسيا خامس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي. ويرى "رابو بنك" الهولندي، أن العقوبات الغربية المفروضة على روسيا ستؤثر بشدة على العلاقات التجارية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، خاصة مع اعتزام دول السبع والولايات المتحدة إلغاء وضع "الدولة الأولى بالرعاية" الممنوح لروسيا بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية.
ومعنى ذلك أن الكتلة ستكون قادرة على زيادة الرسوم الجمركية أو تحديد حصص على الواردات الروسية، في الوقت الذي ردت فيه موسكو على العقوبات الغربية بحظر تصدير أكثر من 200 منتج إلى الخارج، وهو ما سينعكس سلباً على حجم التجارة بينهما.
3- تهديد الاستثمارات الأوروبية: باتت الأصول الأوروبية في روسيا عرضة لخطر المصادرة أو التأميم بسبب الأزمة الراهنة والعقوبات الغربية، فمن المحتمل أن تخسر الشركات الأوروبية التي قررت وقف أعمالها في روسيا أصولها بالسوق الروسي، وهو ما أكده الجانب الروسي مؤخراً. ويصل رصيد استثمارات بلدان الاتحاد الأوروبي في السوق الروسي نحو 311.4 مليار يورو (ما يعادل 340 مليار دولار) حتى عام 2019. بينما أن الاستثمارات الروسية في دول الاتحاد الأوروبي بلغت نحو 136 مليار يورو خلال العام نفسه.
كما من المحتمل أن تفقد أوروبا جانباً من استثماراتها غير المباشرة (المالية) في روسيا، فوفقاً لبنك التسويات الدولية، هناك حوالي 60 مليار دولار مستحقة لبنوك الاتحاد الأوروبي على كيانات روسية، والتي قد تقوم الأخيرة بتجميد جميع المبالغ أو بعضها، فيما أن حاملي السندات السيادية الأوكرانية من أوروبا قد يتعرضوا أيضاً لمخاطر التخلف عن السداد، علما أن حجم هذه السندات يصل إلى 23 مليار دولار.
4- تهديد أمن الطاقة: تعد روسيا أكبر مورد للطاقة للاتحاد الأوروبي، إذ تستحوذ على حوالي 40% من واردات الكتلة من الغاز الطبيعي، وما يقرب من ثلث وارداتها من النفط. ومع بداية الحرب الأوكرانية، تصاعدت المخاوف الأوروبية بشأن احتمالية قيام روسيا بوقف الإمدادات بسبب العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
وبالرغم من أن تدفقات الغاز الروسي لا زالت مستمرة لأسواق الاستهلاك رغم الأزمة ومع استبعاد أوروبا فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، فإن أسعار الطاقة قد ارتفعت إلى مستويات قياسية منذ بداية الحرب، إذ شهدت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا ارتفاعاً قياسياً لتصل إلى 3300 دولار لكل 1000 متر مكعب في 7 مارس الجاري، كما اخترقت أسعار خام برنت في الفترة نفسها مستوى 127 دولاراً للبرميل، قبل أن تتراجع لاحقاً عند ما يقارب 112 دولاراً للبرميل. وتفرض تلك الزيادات أعباء إضافية على الميزانيات الأوروبية، حيث لجأت كثير من الحكومات الأوروبية مؤخراً لتخصيص أموال كبيرة كإعانات للأسر، لاحتواء آثار ارتفاع أسعار الطاقة.
5- تأثير محدود على الأمن الغذائي: تعد روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، وفي المجمل توفر كل من روسيا وأوكرانيا معاً أكثر من ثلث صادرات الحبوب العالمية. وفي ضوء تطورات الأزمة، ارتفعت أسعار المواد الأساسية؛ بما في ذلك السلع الزراعية خاصة القمح والذرة بنسب تفاوتت بين 40% إلى 60%.
وتشير التوقعات إلى أن الإمدادات العالمية من المنتجات الزراعية الرئيسية، بما في ذلك القمح والشعير والذرة وزيت عباد الشمس، ستنخفض بنسبة تتراوح بين 10% و50%. وعلى الرغم من ذلك، فمن المستبعد أن تواجه الدول الأوروبية، بخلاف الدول النامية، مصاعب في تأمين السلع الغذائية، نظراً لأن القارة مركز رئيسي لإنتاج الحاصلات الزراعية والصناعات الغذائية على مستوى العالم. وهذا ما يفسر تصريح وزير الزراعة الألماني، جيم أوزدمير، بأن توفير المواد الغذائية في ألمانيا والاتحاد الأوروبي لايزال آمناً بشكل كبير.
6- ارتفاع معدل التضخم: بلغ معدل التضخم في منطقة اليورو نحو 5.8% خلال فبراير 2022، وهو أعلى مستوى له منذ 20 عاماً، حيث استمرت أسعار السلع والخدمات بالمنطقة في الزيادة نتيجة جائحة كورونا. ومع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء مجدداً بسبب الحرب، تذهب التقديرات إلى أن التضخم بمنطقة اليورو سيتجاوز معدل 6% خلال شهر مارس الجاري. بينما، يتوقع المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية البريطاني أن يصل التضخم في منطقة اليورو إلى 5.5% في عام 2022 و2.1% في عام 2023، ارتفاعاً من التوقعات السابقة البالغة 3.1% و1.3% على التوالي، بينما يتوقع أن يبلغ معدل التضخم في المملكة المتحدة نحو 7% في عام 2022 و4.4% في عام 2023، ارتفاعاً من توقعات فبراير البالغة 5.3% و2.7% على التوالي.
7- أعباء استضافة اللاجئين الأوكرانيين: غادر أكثر من مليوني ونصف المليون شخص أوكرانيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. ومن المتوقع أن يغادر مليونا شخص آخرون في غضون مدة زمنية قصيرة، أي بإجمالي لاجئين 4 ملايين شخص، وهي أرقام مرشحة للزيادة كلما طال أمد الحرب.
وستبلغ تكلفة جهود إغاثة اللاجئين الأوكرانيين نحو 30 مليار يورو (32.7 مليار دولار) في عامها الأول وفقاً لمركز التنمية العالمية. وهنا، حذّر بعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي من أن أزمة اللاجئين الأوكرانيين تمثل "تحدياً كبيراً" للكتلة، سواء من الناحية المالية أو الاجتماعية.
وسعت دول الاتحاد لمواجهة أزمة اللاجئين سريعاً، فقد اتفق وزراء داخلية دول الاتحاد على ضرورة توفير حماية مؤقتة للأوكرانيين الفارين من الحرب، استناداً على تفعيل إجراء الحماية المؤقتة الخاص بعام 2001، والذي لم يتم تفعيله مسبقاً، والذي يسمح للاجئين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي لفترة الحماية التي يمكن أن تستمر من عام إلى ثلاثة أعوام.
8- تضرر قطاع الطيران: أقرت روسيا مؤخراً حظر الرحلات الجوية من 36 دولة معظمها دول أوروبية كإجراء انتقامي للحظر الذي فرضته الدول الأوروبية على رحلات الطيران المدني التي تشغلها شركات طيران روسية أو المسجلة في روسيا، مما سيؤثر سلباً على رحلات شركات الطيران الأوروبية، لاسيما المتجهة لشرق آسيا.
وستضطر الشركات الأوروبية لتجاوز المجال الجوي الروسي، على نحو سيؤدي لإطالة الوقت الذي تستغرقه الرحلات، ومن ثم ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف الرحلات الجوية، كما يمكن أن تزيد الأزمة من الخسائر المتوقعة في قطاع الطيران الأوروبي خلال العام الجاري والتي قدرتها "إياتا" قبل الأزمة بحوالي 9.2 مليار دولار.
9- قطاع السياحة: تعد روسيا ثالث أكبر مُصدر للسياحة في أوروبا، وفقاً لقاعدة بيانات "جلوبال داتا" (Global Data)، حيث يقدر عدد الرحلات المتجهة من روسيا إلى أوروبا نحو 25.5 مليون رحلة خلال عام 2021، لذا فإن الوضع الحالي سيضر بقطاع السياحة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.
وستخسر دول، مثل بولندا وإستونيا وألمانيا، ما يقرب من مليوني سائح وفقاً لـ "جلوبال داتا" لعام 2022. فضلاً عن ذلك، فمن المتوقع أن يؤدي ارتفاع أسعار وقود الطائرات إلى ارتفاع تكاليف السفر بالنسبة للمستهلكين، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب في قطاع السياحة الأوروبي بشكل عام.
10- نشاط التصنيع: تعد روسيا مورد رئيسي للسلع الأساسية لأوروبا، كما أنها مدرجة في قائمة المفوضية الأوروبية لموردي المواد الخام المهمة والمعادن، لذا فإن انقطاع الإمدادات من هذه السلع، سيترتب عليه تفاقم مشاكل سلاسل التوريد الحالية وتعطيل صناعات معينة بشكل كبير مثل السيارات.
وستضطر بعض مصانع السيارات في أنحاء أوروبا لخفض إنتاجها، نتيجة تعطيل توريد المكونات الأولية الضرورية لإنتاج أشباه الموصلات، والبطاريات وغيرها من المكونات اللازمة للصناعة. ويأتي ذلك بالتزامن مع صعود أسعار المعادن بشكل قياسي، فقد ارتفع مؤشر بورصة لندن للمعادن (LME) بنسبة 10% خلال الأسبوع الماضي، ووصل إلى رقم قياسي عند 5505 نقاط في 7 مارس قبل أن يتراجع لاحقاً.
11- البنوك والخدمات المالية: تعد البنوك الأوروبية أكثر المؤسسات الأوروبية انكشافاً على روسيا، وتبلغ أصول المؤسسات المالية، المملوكة لبلدان الاتحاد الأوروبي بروسيا، نحو 60 مليار يورو (65.5 مليار دولار)، بحصة إجمالية تبلغ 4% من أصول القطاع المصرفي الروسي.
كما تظهر بيانات بنك التسويات الدولية أن لدى كل من البنوك الفرنسية والإيطالية مطلوبات مستحقة من الديون الروسية بلغت حوالي 25 مليار دولار، في حين أن البنوك النمساوية دائنة للكيانات الروسية بنحو 17.5 مليار دولار. وفي ظل الأزمة، تزايدت المخاوف من أن البنوك سوف تحتاج مرة أخرى إلى زيادة مخصصات خسائر القروض، والتي شهدت تراجعاً بعد ارتفاعها المفاجئ بسبب الجائحة في عام 2020.
وفي الختام، يمكن التأكيد أن الاقتصادات الأوروبية ستتضرر بشكل كبير إثر العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، خاصة في المدى القصير مع التوقعات بتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع الضغوط التضخمية، فضلاً عن تضرر بعض القطاعات الرئيسية، مثل السياحة والطيران والمصارف.