تُقدر الأمم المتحدة أن الأرض أصبحت الآن أكثر دفئاً بنحو 1.1 درجة مئوية مما كانت عليه في القرن التاسع عشر، وهي عُرضة إلى أن تزيد بما يصل إلى 4.4 درجة مئوية بحلول نهاية القرن الواحد والعشرين، إذا ما استمرت الانبعاثات الكربونية عند مستواها الحالي. كما يواجه العالم أكثر من أي وقت سابق ظروفاً مناخية استثنائية، تتمثل في تباين عال في درجات الحرارة (موجات حارة أكثر حرارة، وموجات صقيع أكثر برودة)، وتباين أيضاً في معدلات سقوط الأمطار (جفاف أو سيول)، طبقاً لما تراه المنظمة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.
وتهدد تلك التغيرات المناخية، الأمن الغذائي لسكان العالم، فكلما ارتفعت وتباينت درجات الحرارة، انخفضت غلة المحاصيل الزراعية، حيث تعاني الأراضي الزراعية الإجهاد الحراري والجفاف وزيادة معدلات الملوحة وانتشار الآفات وانخفاض خصوبة التربة. وبالتالي من الأهمية بمكان تناول هذا الموضوع بالتزامن مع مناقشته خلال معرض "إكسبو 2020 دبي".
مسار تغير المناخ:
هناك آليتان يمكن للعالم العمل من خلالهما تجاوز أزمة تغير المناخ؛ الأولى تتعلق بتقليل الانبعاثات الكربونية، والثانية تنصرف إلى التكيف مع الأضرار السلبية للأزمة. ووفقاً للأمم المتحدة، فالعالم لم يتبن بعد ما يكفي من السياسات اللازمة لتحقيق هدف اتفاقية باريس لمنع درجة الحرارة العالمية من تجاوز 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، وهو الحد الأقصى المقبول لتجنب كوارث بيئية في المستقبل، حسبما أشارت المنظمة الدولية.
وللحيلولة دون ارتفاع درجات الحرارة 1.5 درجة مئوية، يتطلب من العالم اتخاذ سياسات جذرية تساهم في تقليص الانبعاثات الكربونية بنسبة 7.6% سنوياً في الفترة من عام 2020 إلى عام 2030. ومن دون بلوغ ذلك الهدف، فالعالم معرض لزيادة الانبعاثات الكربونية، ومن ثم ارتفاع درجة حرارة الأرض.
تأثيرات على الأمن الغذائي:
تبذل الدول والمؤسسات الدولية جهوداً مستمرة للقضاء على الجوع، وهو الهدف الثاني ضمن أهداف التنمية المستدامة الــ 17 للأمم المتحدة. وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تنجح في الحد من الظاهرة، وتعرض في العام الماضي نتيجة تداعيات جائحة كورونا وعوامل سياسية والاقتصادية أخرى ما يصل إلى 768 مليون شخص للجوع في العالم، وبزيادة 118 مليوناً عن عام 2019.
ونظرياً، يعتمد تحقيق الأمن الغذائي العالمي على 4 محاور هي: إنتاج الغذاء بكميات وفيرة، ووصوله للمستهلكين، وقدرة المستهلكين على شرائه، أما الركيزة الرابعة فهي استقرار واستمرارية الثلاث ركائز الأولى، وهي أمور تتطلب تكامل السياسات الدولية في مجال إنتاج الغذاء وتسويقه ونقله وتخزينه. ورقمياً، من أجل إنفاذ المخطط العالمي للقضاء على الجوع، يحتاج العالم إلى زيادة سنوية في الإنتاج الزراعي العالمي بنسبة 70% حتى عام 2050 لإطعام 9 مليارات نسمة، وهم عدد سكان الأرض المتوقع بحلول هذا التاريخ.
ويبدو أن تحقيق تلك الزيادة في إنتاج الزراعة غير ممكنة بسبب التأثير السلبي الصافي للاحتباس الحراري على القطاع الزراعي العالمي، حيث إنه يُتوقع أن تتسبب هذه الظاهرة في انخفاض الكميات المنتجة بنسبة 3.8% و5.5% على التوالي حتى عام 2050، بالإضافة إلى زيادة متوقعة في الأسعار بمعدل يصل إلى 29% في حال ثبات باقي العوامل المؤثرة على الإنتاج والتسعير. وهنا، ربما تضيف ظاهرة الاحتباس الحراري إلى العالم ما يصل إلى 183 مليون جائع بحلول عام 2050، وفقاً لتقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة لمُنظمة الأمم المتحدة.
وهناك تأثير سلبي آخر لظاهرة الاحتباس الحراري، يتمثل في التراجع الملحوظ في القيمة الغذائية للمنتجات الزراعية. فعلى سبيل المثال، يحتوي القمح المزروع عند 546-586 جزءاً في المليون من ثاني أكسيد الكربون على 12.7% بروتين أقل، و6.5% زنك أقل، و7.5% حديد أقل، ما يتسبب في انتشار ظاهرة الجوع الخفي أو نقص الحديد وفيتامين (أ) والزنك.
علاوة على ما سبق، سيتسبب التباين المتوقع في درجات الحرارة في اضطراب إنتاجية المحاصيل. فوفقاً لتقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC، فإن الفواكه والخضراوات الصيفية ستفقد 35% من إنتاجيتها، لأنها لن تستطيع تحمل ارتفاع درجات الحرارة 4 درجات مئوية بنهاية القرن الحالي، وأن ما يتراوح بين 30% و60% من مساحة زراعة الفول، وما بين 20 و40% من مساحة زراعة الموز في أفريقيا، ستختفي، حيث إن التربة لن تعد صالحة للزراعة بسبب التقلبات الجوية والجفاف.
وفي السنوات القليلة الماضية، تسبب ارتفاع درجات الحرارة في ضعف إنتاجية المحاصيل الزراعية في عدة دول، مثل الكاميرون، وعلى نحو سوف يؤدي إلى تراجع ملحوظ للدخل القومي. كما باتت زراعة البن غير اقتصادية في مدينة فيراكروز بالمكسيك، حيث هجرها المزارعون نتيجة الجفاف.
واستنتاجاً مما سبق، يتضح أن ظاهرة الاحتباس الحراري ستؤدي إلى أن يكون الغذاء شحيحاً، وغالي الثمن، ومنخفض القيمة الغذائية، وغير مستقر الإنتاجية، أو في بعض الأحيان غير موجود من الأساس. أي أن الاحتباس الحراري يقوض الركائز الأربع للأمن الغذائي العالمي.
تأثر العمالة الزراعية:
على مستوى الاقتصاد الكلي، من المتوقع أن يتسبب الاحتباس الحراري في انكماش الناتج الزراعي العالمي، ما يؤدي في المتوسط إلى خسارة 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً حتى عام 2100، ولكن يبقى التأثير الأسوأ هو ما يتعلق بالعاملين. ووفقاً لبيانات منظمة العمل الدولية، فإن العاملين في قطاع الزراعة هم الأكثر تأثراً بالتغير المناخي، لأنهم يحتاجون جهداً بدنياً أكبر، ويعملون في الهواء الطلق.
وتنخفض القدرات البدنية للعامل وقدرته على العمل والإنتاجية كلما ارتفعت درجات الحرارة أعلى من 26 درجة مئوية. فقد يفقد العامل عند درجة حرارة 34 درجة مئوية والذي يعمل بكثافة عمل معتدلة، 50% من قدرته على العمل، بالإضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة والوفاة.
وهنا تُقدر الخسائر الاقتصادية الناجمة عن انخفاض قدرات العاملين بسبب الإجهاد الحراري بقيمة 2.4 تريليون دولار في عام 2030، وسيظهر تأثير الظاهرة بشكل أكثر وضوحاً في الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض وتلك منخفضة الدخل، وهي الخسارة الأكبر في المجمل بالنسبة للقطاعات الاقتصادية الأخرى، حيث سيستحوذ العاملون في الزراعة على 60% من ساعات العمل المفقودة بسبب الإجهاد الحراري في عام 2030.
علاوة على ما سبق، تسبب ارتفاع درجات الحرارة في أن أصبحت بعض المناطق الزراعية غير منتجة، ما سيؤدي إلى تشريد عدد كبير من العمال، وليس فقط خفض إنتاجيتهم. لذا دائماً ما تنصح منظمة العمل الدولية دول العالم باتباع إصلاحات هيكلية لمساعدة العمال الزراعيين على الانتقال إلى قطاعات أخرى.
الممارسات الأربع:
منذ توقيع قادة العالم على اتفاقية باريس للتغير المناخي في عام 2015، تسعى الدول مجتمعة أو بشكل منفصل لتحقيق هدف الاتفاقية، واحتواء الاحترار العالمي. وعلى المستوى الأممي، تم إطلاق عدد من المبادرات الدولية في السنوات الأخيرة فيما يخص كيفية تعامل القطاع الزراعي مع تحدي التغير المناخي، ومن أبرزها مبادرة البنك الدولي المعروفة بــ "الزراعة الذكية مناخياً" Climate-smart agriculture.
وتقوم المبادرة السابقة على نهج متكامل لإدارة المحاصيل والثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك في ظل ظاهرة الاحتباس الحراري. وللمبادرة ثلاثة أهداف، هي زيادة الإنتاجية، وتحسين القدرة على التكيف والنمو في مواجهة أنماط الطقس غير المنتظمة، والحد من الانبعاثات. ويُذكر أنه في عام 2020، تم توجيه 52% من تمويل البنك الدولي للزراعة إلى مشروعات التكيف مع تغير المناخ والتخفيف من آثاره، كما ساهم البنك الدولي في وضع خطط استثمار زراعي ذكي مناخياً للعديد من دول العالم.
أما الخطط والمبادرات الخاصة بكل دولة، فتتنوع بين جهود تقليل الانبعاثات الناتجة عن أنشطة توفير الغذاء، وبالتالي تحجيم ظاهرة التغير المناخي، وآليات التكيف مع التغير المناخي. وجدير بالذكر أن عملية إنتاج الأغذية وتعبئتها وتوزيعها تساهم بثُلث الانبعاثات المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، ودون التدخل لاحتوائها، فمن المرجح أن تزيد انبعاثات النظام الغذائي بنسبة تصل إلى 40% بحلول عام 2050؛ نظراً لزيادة الدخول وزيادة عدد السكان.
وعموماً، هناك 4 ممارسات رئيسية تتسبب في الغالبية العظمى من الانبعاثات في قطاع الزراعة والإنتاج الحيواني، وهي استخدام الأسمدة النيتروجينية، وانبعاث غاز الميثان من الماشية، وتصنيع الأغذية، وهدر الطعام، وتقوم الكثير من الحكومات بضبط هذه الممارسات الأربع لمواجهة الاحتباس الحراري، وذلك كما يتضح على النحو التالي:
1- تحجيم انبعاثات غاز الميثان: تعتبر دول القارة الأوروبية، وفي صدارتها سويسرا، من أكثر بلدان العالم نجاحاً في تطبيق ممارسات مثلى لتخفيض الانبعاثات الناتجة عن استخدام الأسمدة النيتروجينية، والعملية الحيوية للماشية. وعملت سويسرا، بمساعدة الجامعات والشركات المحلية، على تطوير أسمدة منخفضة الانبعاثات، حتى أن إحدى الشركات العاملة في مجال الكيماويات أعلنت أن نهاية عام 2021 ستشهد إنتاج مواد خاصة تساهم في تقليل انبعاثات أكسيد النيتروز الناتجة عن الأسمدة وبنسبة 98% على أقل تقدير. كما نجحت بعض الشركات السويسرية في تخليق أعلاف صناعية للتغذية الحيوانية بإمكانها خفض غاز الميثان الناتجة عن الماشية بنسبة 30%.
2- تقليل الهدر الغذائي: أهدر سكان العالم نحو 931 مليون طن من الأغذية المتاحة في عام 2019 أو نحو 17% من إجمالي المواد الغذائية المتاحة للمستهلكين، ويخلق ذلك كميات كبيرة من الانبعاثات الكربونية كان من الممكن تفاديهاً. ويُقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن ما بين 8 إلى 10% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية مرتبطة بأغذية تُنتَج ولا تُستهلك. ولذا، عملت المؤسسات الدولية على مساعدة الدول في تقليل الهدر الغذائي ليس فقط من أجل تحقيق الأمن الغذائي، وإنما تقليل الانبعاثات الكربونية أيضاً.
وتُعتبر الاستراتيجية الزراعية المغربية المعروفة بـــ "الجيل الأخضر 2020- 2030" واحدة من أهم التجارب الدولية التي تمولها مبادرة الزراعة الذكية مناخياً، فالاستراتيجية تتسق مع الجهود الدولية لتقليل الانبعاثات، خاصة فيما يتعلق بتقليل الهدر والفاقد الغذائي. وتعمل هذه الاستراتيجية على التدريب التقني للمزارعين المغاربة، حتى يقوموا بالتسويق الرقمي وربط منتجاتهم بسلاسل الإنتاج المحلية، لتقليل فاقد المحاصيل لأقل قدر مُمكن.
3- التحسينات الجينية: عادة ما يُضيف الفلاحون الأسمدة النيتروجينية بكثافة عالية للتربة من أجل زيادة كمية الحبوب المُنتَجة لكل فدان، ولكن ذلك تنتج عنه أضرار بيئية بالغة. إذ إن زيادة إنتاج المحاصيل بنسبة 1% في بعض مناطق أوروبا والصين، يسهم في زيادة الانبعاثات الناتجة عن استخدام الأسمدة النيتروجينية بنسبة 35%.
ولهذا، اتجهت بعض الدول إلى توظيف علم الجينات في تطوير نواقل الأسمدة النيتروجينية للنباتات، لكي تعظم استفادة الأخيرة من المغذيات الصناعية. وقد نجحت الصين في زيادة إنتاج الغلال بنسبة 60% عبر تطوير نواقل الأسمدة النيتروجينية. وجدير بالذكر أن العالم يستهلك نحو 120 مليون طن من الأسمدة النيتروجينية كل عام، لزيادة إنتاجية المحاصيل، وتعويض نقص النيتروجين في الغلاف الجوي. ومن ثم، يمكن اعتبار أن تطوير جينات النباتات المسؤولة عن امتصاص النيتروجين، ستكون خط دفاع أساسياً لمواجهة ظاهرتي الاحتباس الحراري والجوع.
وعلى صعيد آخر، في إطار توظيف علم الجينات من أجل التعامل مع التغير المناخي، استطاع العلماء تطوير العديد من الأصناف الزراعية جينياً لديها القدرة على تحمل الجفاف. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، "الأرز الهوائي" الذي يستهلك 73% مياهاً أقل في عملية تحضير الأرض، و56% مياهاً أقل في فترة نمو المحصول، ويمكن ريه بالتنقيط بدلاً من الغمر، كما أن هذا النوع من الأرز تنتج عنه كميات غاز ميثان أقل من الأنواع التقليدية، وجرت زراعته حالياً في بعض المناطق التي شهدت نقصاً في مياه الأمطار، مثل غرب الولايات المتحدة والصين وجنوب وغرب ووسط آسيا.
4- الري بالتنقيط و"تناقض جيفونز": من البديهي أن يساهم الري بالتنقيط في توفير كميات المياه المستخدمة في زراعة المحاصيل، وقد حفزت كفاءة الري بالتنقيط الحكومات والمزارعين على التوسع في استخدام هذه التقنية حتى في الأماكن الصحراوية المُعتمدة على المياه الجوفية، على نحو عزز الاستخدام الجائر للمياه.
ولكن صاحب ذلك، الاستغلال المُكثف للطاقة في عمليات استخراج المياه وإدارة الري بالتنقيط، ما يولد أثراً سلبياً على درجة حرارة الأرض. ومرجع ذلك المبدأ المعروف بـ "مفارقة أو تناقض جيفونز" Jevons Paradox، والذي يفترض ضمناً أن تقنيات كفاءة استغلال الموارد عادة ما تأتي بنتائج عكسية، وتسهم في كثافة استهلاك الموارد ذاتها.
لهذا، يقوم البنك الدولي والأمم المتحدة بالمساهمة في نشر وتمويل أنظمة الري الصغيرة المعتمدة على الطاقة الشمسية. وقد ساهمت الأخيرة في دعم كفاءة المزارع الصغيرة في بلاد تعاني الآثار السلبية للاحتباس الحراري مثل الكاميرون وأوغندا وباكستان، كما عملت على خفض كميات المياه المُهدرة مع الحفاظ على البيئة وارتفاع كفاءة استخدام الأسمدة وزيادة عائدات النشاط الزراعي. هذا إلى جانب تكنولوجيا إعادة تدوير مياه صرف الصحي، والتي يمكن أن تصبح أحد الحلول الأخرى للتعامل مع مشكلة نقص موارد المياه، وموجات الجفاف.