تتجه الأنظار إلى المشهد السياسي العراقي مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المبكرة المقرر من قبل الحكومة العراقية في 10 أكتوبر المقبل في ظل أزمة خدمات مزمنة وأوضاع سياسية واقتصادية وأمنية أقل ما يقال عنها إنها غير مستقرة، وتكاد البلاد أن تصل إلى مرحلة من الانسداد في الحياة السياسية والاقتصادية وقطاع الخدمات، فضلاً عن الأزمات الأخرى، والتي تأتي في مقدمتها أزمة انفلات السلاح خارج سيطرة الدولة، واستشراء الفساد في مختلف القطاعات، ولم يتم التوصل إلى حل لها طيلة السنوات السابقة، في ظل هذه الأوضاع التي بلغت مبلغاً كبيراً من السخط الشعبي، وكان دافعاً أساسياً في الحراك الذي يشهده الشارع العراقي.
في مقابل ذلك، عادت ظاهرة مقاطعة الانتخابات إلى المشهد السياسي في العراق، وقد تبناها عدد من القوى والأحزاب السياسية المختلفة خلال شهر يوليو الماضي، ولا يخفى ما لهذا الأمر من تعقيد وتأثير على العملية السياسية في العراق، لاسيما عندما يصحب مقاطعة الانتخابات إعلان الانسحاب من العملية السياسية بشكل عام. وهو ما بدأه إعلان التيار الصدري على لسان زعيمه رجل الدين مقتدى الصدر، ثم تلته إعلانات أخرى لانسحاب عدد من القوى والأحزاب السياسية ذات التوجهات المختلفة.
خبرة المقاطعة الانتخابية
إن ظاهرة مقاطعة الانتخابات بشقيها "السياسي والشعبي" ليست وليدة المرحلة الراهنة، إنما رافقت العملية السياسية في العراق منذ عام 2003، واختلف متبنوها وأسبابهم من مرحلة إلى أخرى، وذلك على الرغم مما أثبتته الخبرة التاريخية من أن أصحاب هذه المقاطعات لم يحققوا أهدافهم، بل في معظم الأحوال، استمرت تطورات العملية السياسية واستفاد خصومهم من هذه الانسحابات.
وعند العودة إلى المقاطعة الأولى للانتخابات، فقد كانت خلال العامين 2004-2005، وتبناها عدد من التيارات والقوى السياسية والدينية وفي مقدمتها "هيئة علماء المسلمين" و"تيار الخالصي" و"مكتب آية الله قاسم الطائي" وقطاع ليس بقليل من المكون السني، الأمر الذي كان سبباً في تهميش هذا المكون لاحقاً، وكان مبرر متبنو هذه المقاطعة أن الانتخابات لا تصح في ظل وجود الاحتلال الأمريكي وسيطرته على العراق، وفي عام 2010 قاطعت "جبهة العراق للحوار الوطني" الانتخابات التشريعية في البلاد وذلك بسبب منع رئيسها من الترشح للانتخابات، وفي فبراير 2014 أعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي وانسحابه وأتباعه من العملية السياسية، ومع الانتخابات التشريعية لعام 2018 شهدت الساحة العراقية بروز تيار شعبي كبير يسمى "مقاطعون"، تبنى شعار مقاطعة هذه الانتخابات، بهدف إفشال العملية السياسية ورفض أي مشاركة قد تؤدي إلى عودة "الفاسدين" إلى مقاعد السلطتين التشريعية والتنفيذية على حد رأيهم.
ولا يخفى أن التيار الصدري وخلال السنوات الماضية قد أعلن عدة مرات انسحابه من العملية السياسية، أو تجميد نشاطه أو هيئاته أو فصائله المسلحة، ثم يأتي بقرار لاحق يعود للمشاركة مرة أخرى.
القوى المنسحبة
أول الانسحابات الحالية أعلنه مقتدى الصدر في 15 يوليو المنصرم في خطاب له تضمن الانسحاب من العملية السياسية، ومقاطعة الانتخابات، وفك الارتباط والصلة بأي شخص موجود في الحكومة الحالية والحكومة المقبلة، وذهب في بيانه إلى أن "الكل تحت طائلة الحساب"، وذلك "حفاظاً على ما تبقى من الوطن وإنقاذاً له الذي أحرقه الفاسدون ..."، وأعلن حل الهيئة السياسية للتيار الصدري، ليعلن بعده اتباعه انسحابهم من خوض الانتخابات المقبلة، وفي مقدمتهم حسن الكعبي نائب رئيس البرلمان العراقي وحاكم الزاملي ومها الدوري.
وجاءت خطوة الانسحاب الثانية عبر الحزب الشيوعي العراقي في 24 يوليو، الذي أعلن مقاطعة الانتخابات النيابية، ووجه الدعوة إلى جماهيره بعدم المشاركة فيها، حتى أن رضا الظاهر، الحاصل على عضو اللجنة المركزية للحزب وصف الأمر بأن: "الحزب قرر مقاطعة الانتخابات التي تسبب في الأزمة السياسية والأمنية في البلاد"، وتوالت بعدها الانسحابات من قوى سياسية أخرى لعل أهمها "المنبر العراقي" الذي يتزعمه رئيس الحكومة العراقية الأسبق إياد علاوي، و"جبهة الحوار الوطني" التي يتزعمها نائب رئيس الوزراء العراقي الأسبق صالح المطلك، وحزب "التجمع الجمهوري العراقي" الذي يتزعمه سعد عاصم الجنابي، فضلاً عن قوى وحركات سياسية أخرى قد انضمت إلى قافلة الانسحابات ولكل منها مبرراته.
تكتيك الانسحابات
على الرغم من اختلاف مبررات القوى السياسية المنسحبة من الانتخابات، والتي ظهرت في خطاباتها السياسية، فإن جميعهم اتفقوا على سبب أساسي يتمثل في عدم وجود بيئة آمنة للانتخابات في ظل وجود السلاح خارج سيطرة الدولة، وتأثير المال السياسي، وتوقعهم بعدم حصول تغيير حقيقي من هذه الانتخابات.
وتباينت المبررات الأخرى وفقاً لاختلاف التوجهات السياسية. فقد عبر عنها التيار الصدري في خطاب الانسحاب بقوله: "إن ما في العراق من ظلم وفساد لم يعد بالمقدور محوه أو تقليله، فالكل تكالبوا على البلد، ولا أريد أن أكون معهم ولا منهم، فكلهم لا يريد إلا المال والسلطة والسلاح ولست من طلاب ذلك".
بينما جاءت أسباب الحزب الشيوعي وراء مقاطعته للانتخابات متمثلة في أن الأجواء الحالية التي تشهدها الساحة العراقية غير مواتية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة في ظل السلاح المنفلت والمال السياسي وأن الانتخابات لن يكون لها تأثير في الواقع الحالي، الأمر الذي أشار إليه رائد فهمي الأمين العام للحزب الشيوعي بقوله: "انتخابات لا تفضي إلى تغيير أو أقله لا تقدم مؤشرات حقيقيه نحو التغيير وستجلب في نظرنا كوارث على العراق والعراقيين".
ومن جانبها أشارت كتلة المنبر العراقي إلى "تلاشي فرص النجاح لإقامة انتخابات نزيهة تخدم الشعب العراقي في ظل الأوضاع المتفاقمة وتدهورها، واستمرار الحالة المأساوية في ظروف معيشية غير ملائمة ..." وأنه "لا تتوافر أجواء ملائمة لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة في البلاد" في ظل وجود سلاح لا يزال يغتال النشطاء وأجهزة الدولة التي تمارس القمع والتعنيف، على حد وصف بيان المنبر العراقي.
أما جبهة الحوار الوطني فكان مبررها "عدم توفر بيئة آمنة لإجراء الانتخابات المبكرة، وانتشار السلاح المنفلت، كلها عوامل تؤكد أن لا تغير واضحاً سيحصل"، وتؤكد الجبهة: "عدم إمكانية إجراء انتخابات نزيهة من دون إنهاء عوامل التزوير المتمثلة في السلاح المنفلت والمال السياسي". ولا تختلف مبررات حزب التجمع الجمهوري عن مبررات جبهة الحوار إذ برر الحزب انسحابه بسبب عدم وجود "نزاهة العملية الانتخابية وعدالتها وإيجاد البيئة الآمنة للناخبين والمناخ الديمقراطي البعيد عن الضغوطات"، وأن "المال السياسي بات يصرف لشراء الذمم بطريقة لا أخلاقية واتساع دور الميليشيات وسلاحها المنفلت خارج إطار القانون وضياع هيبة الدولة".
وعلى الرغم من الأسباب التي أعلنت عنها الأحزاب المنسحبة فإن المتابع للعملية السياسية في العراق يدرك أن الأسباب الواقعية للانسحابات بعيدة عما تم الترويج له؛ ففيما يتعلق بالتيار الصدري فقد تعرض لضغوطات كبيرة، لاسيما فيما يتعلق بوزرائه في الوزارات الخدمية التي فشلت في تقديم الخدمات للمواطنين، وعلى رأسها وزارات الصحة والكهرباء والمالية. يضاف إليها أن التيار أعلن أن رئيس الوزراء القادم سيكون صدرياً ووعد بالحصول على 100 مقعد في الانتخابات القادمة، وهو أمر ليس باليسير، فضلاً عن تهم الفساد التي وجهت لعدد من المسؤولين المحسوبين على التيار، كل تلك الأمور دفعت بالتيار إلى إعلان الانسحاب بهذا الشكل المفاجئ، بعد حملة تهيئة كبيرة لخوض الانتخابات، وهو أمر قد يساعد التيار على تحفيز أتباعه لانتخاب مرشحيه في حالة التراجع عن قرار الانسحاب، والعودة للمشاركة في الانتخابات النيابية المبكرة، كما أن هناك من يرى في انسحاب التيار من الانتخابات أنه لا يعدو كونه مناورة سياسية، اعتاد التيار عليها في مناسبات عدة سابقة، ما يلبث أن يتراجع عنها بعد تحقيق أهدافه.
وفيما يتعلق بباقي القوى السياسية المنسحبة فهي أحزاب وقوى لم يعد لها تأثير كبير في العملية السياسية، لاسيما جبهة الحوار الوطني وحزب التجمع الجمهوري والحزب الشيوعي، وبالتالي فإن انسحابها لا يعدو كونه تغطية على تراجعها من جهة، ومحاولة للحصول على تأييد في ظل الإحباط والعزوف الشعبي عن المشاركة من جهة أخرى، ناهيك عن الخشية من خوض تجربة الانتخابات التي قد تؤدي نتائجها إلى خروجها من العملية السياسية.
استكمال العملية الانتخابية
في مقابل تيار الانسحابات، يمكن تحديد عدة مواقف مهمة من المؤسسات والقوى المؤثرة في العملية الانتخابية، وتتجلى هذه المواقف فيما يلي:
موقف قانوني ومؤسسي: تبنته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق إذ أعلنت في 26 يوليو 2021 عن استكمال جميع الإجراءات الخاصة بتصميم وطباعة ورقة الاقتراع التي تضمنت جميع أسماء المرشحين، سواء المنسحبون أو غير المنسحبين وأرقامهم، وأن مجال الانسحاب قد انتهى موعده المقرر في 20 يونيو الماضي، وبالتالي فإن الإعلان عن الانسحابات لا قيمة قانونية له.
وبدورها، أكدت المتحدثة باسم المفوضية، جمانة الغلاي، عن وجود 3249 مرشحاً لخوض الانتخابات، ولم يقدم أي منهم طلبات تحريرية للانسحاب من الانتخابات، وبالتالي فإن الإجراءات تتم بالشكل المقرر لها، وأن أسماء جميع المرشحين مشاركة في الانتخابات بشكل قانوني.
موقف سياسي: ويتمثل في دعوة كل من رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، الموجهة إلى زعيم التيار الصدري من أجل العدول عن قراره والعودة للمشاركة في الانتخابات المقبلة، في الوقت الذي تعهد فيه برهم صالح من خلال بيان للرئاسة العراقية في 31 يوليو بإجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في موعدها المحدد، وأن الحكومة العراقية ملتزمة بتوفير المستلزمات المطلوبة لإجراء الانتخابات بالشكل الذي يحقق الإرادة الحقيقية للناخبين واختيار ممثليهم بعيداً عن التزوير.
تضاف إلى ذلك مواقف سياسية أخرى، إذ رفضت كل من كتلتي رئيسي الوزراء الأسبقين نور المالكي "دولة القانون" وحيدر العبادي "تحالف النصر" مواقف مقاطعة الانتخابات أو الانسحاب منها، ودعت إلى ضرورة المشاركة فيها، فيما صرح رحيم العبودي المرشح عن تيار الحكمة بأن "هناك إصراراً من قبل أغلب الكتل السياسية لإجراء هذه الانتخابات، والمفوضية أكملت جميع استعداداتها"، بينما ذهب النائب عن تحالف قوى الدولة الوطنية، جاسم البخاتي، إلى أن إعلان بعض القوى والأحزاب السياسية انسحابها من الانتخابات المبكرة هو بسبب ضعف فرصها في الفوز، وأن أغلب تصريحات الانسحاب هي من أجل التسويق السياسي، فيما قال شيروان الدوبرداني، النائب عن الحزب الديمقراطي الكردستاني "إن الانتخابات ماضية في موعدها المقرر وإن بعض الكتل السياسية ستتراجع عن انسحابها مستقبلاً". في الوقت الذي رأى فيه زعيم حزب الحوار والتغيير حامد المطلك أن الانسحابات المتتالية من بعض الكتل لن تؤثر على إجراء الانتخابات المقبلة.
تداعيات الانسحابات
لا يعني الإصرار على إجراء الانتخابات من قبل الحكومة أو باقي القوى والكتل السياسية أن مسألة انسحاب ومقاطعة التيار الصدري والقوى السياسية الأخرى من هذه الانتخابات لن يكون لها تأثير على تطورات الساحة السياسية في العراق مستقبلاً، بل أن المشهد السياسي العراقي معقد بطبيعة الحال، وإذا كان انسحاب قوى سياسية معينة لن يكون مؤثراً، فإن انسحاب التيار الصدري له تأثيره وصداه، فهو من القوى السياسية الفاعلة، وقد حصل على أعلى المقاعد في البرلمان من بين القوى السياسية الأخرى المشاركة في انتخابات عام 2018، فضلاً عما يمتلكه من أتباع ومؤيدين في بغداد ومعظم المحافظات الجنوبية، وامتلاكه فصيلاً مسلحاً له تأثير في المجال الأمني.
وتتمثل تداعيات الانسحاب من الانتخابات في إمكانية تغيير خريطة القوى السياسية المشكلة للحكومة، لاسيما أن عدداً من الأحزاب المشاركة هي ذات علاقة وطيدة بإيران، وسيشكل انسحاب مرشحي التيار الصدري فرصة كبيرة لفوز مرشحيها، مثلما قد تؤدي حالة الانسحابات هذه إلى عودة التأزم في العملية السياسية، وتزايد الحراك السياسي والشعبي الذي سيعيق الأداء الحكومي في ملفات تشكل مطالب شعبية ملحة.
ناهيك عن احتمال تأجيل الانتخابات البرلمانية مرة أخرى، وهو أمر يتم تداوله في العديد من الأوساط السياسية، ما يعني أن الحراك الشعبي الذي كان مطلبه التخلص من نتائج انتخابات عام 2018 لم يحقق هدفه بانتخابات مبكرة إن تحقق التأجيل لها هذه المرة، بحيث ستنتهي الدورة البرلمانية بعد انقضاء مدتها الزمنية المحددة بأربع سنوات.
ختاماً، يمكن القول إن الانسحابات التي أعلنها عدد من القوى السياسية هي ليست قطعية، وإنما قابلة للتراجع ولها سوابق عديدة، لاسيما التيار الصدري وجبهة الحوار الوطني، كما أن تجارب المقاطع السابقة في العملية السياسية بالعراق بعد عام 2003 أثبتت أن من يقاطع الانتخابات يتحمل كلفاً باهظة وحده، وأن التطورات جارية من دونه وأن المواعيد غير قابلة للتأجيل، وليست تجربة المقاطعة السنية للانتخابات في الأعوام الماضية ببعيده عن ذلك.