إعداد: شروق عادل
مازال حلم قيام الدولة الكردية يداعب عقول وقلوب شعوب وزعماء الأكراد في مختلف البلاد التي يعيشون فيها، فثمة مساع من الأكراد منذ عقود طويلة لإقامة دولة مستقلة. وقد أفرزت الأحداث الحالية في ظل سيطرة داعش والجماعات المسلحة على بعض المدن العراقية ومنها مدينة الموصل، الكثير من الملفات والأوراق السياسية المعلقة، ومنها ورقة إعلان الدولة الكردية التي تبرز على الساحة الإقليمية بين الحين والآخر، على حسب تأرجح المواقف الدولية والإقليمية والمحلية من القضية الكردية وحق تقرير المصير في المناطق الكردية.
ومما لاشك فيه أن الهوية القومية التي يمتلكها الأفراد تعد من أهم ما يميز قوة الأمم، وهناك العديد من الوسائل التي تتحكم من خلالها الدول في الصورة الذهنية التي تريد ترسيخها في ذهن المواطنين عن أنفسهم وقوميتهم، ومن هذه الوسائل المناهج الدراسية التي تعتمد عليها الدولة لترسيخ تاريخها وتعميقه في الوعي الجمعي لدى مواطنيها لخلق هوية قومية قوية.
في هذا الإطار نشر "معهد الشرق الأوسط" مقالاً للكاتب Sherko Kirmanj بعنوان: "مناهج التاريخ الكردية: إقامة دولة قومية داخل دولة قومية" "Kurdish History Textbooks: Building a Nation-State within a Nation-State"، حيث يستعرض هذا المقال إشكالية ترسيخ الوعي الجمعي وبناء هوية قومية عن طريق المناهج الدراسية المتضمنة في كتب التاريخ والدراسات الاجتماعية لمختلف المراحل التعليمية عند الأكراد. كما يتناول المقال أيضاً كيف يتم التعبير في هذه الكتب المدرسية عن رؤية حكومة إقليم كردستان للآخرين؛ حيث تعد المناهج الدراسية -كما هو الحال مع مشاريع بناء الأمة في أماكن أخرى- في حكومة إقليم كردستان جزءاً من استراتيجية أكبر لإنشاء "المجتمع المتصور"، وتهدف إلى تعزيز عملية إنشاء الدولة القومية الكردية في إطار الدولة القومية العراقية.
مراحل تبلور الثقافة الكردية
تعتبر كل من اللغة والتاريخ بوجه عام أهم ركائز ثقافات الشعوب. ولم يُسمح للأكراد في العراق بالدراسة بلغتهم أو الاعتراف بها كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية إلا بعد محاولات عديدة. بينما عززت طريقة تناول تاريخ الأكراد في المناهج التعليمية الكردية كثيراً من فكرة القومية والهوية الكردية بعد أن كان الأكراد مهمشين تماماً في مناهج التاريخ العراقية العربية.
وفيما يلي توضيح لمراحل تطور لغة وتاريخ كردستان:
أ- اللغة الكردية:
طبقاً لما ذكره Kirmanj في مقاله، فقد مرت اللغة الكردية بعدة مراحل هي:
- المرحلة الأولى: في الفترة ما بين 1870 و1910، حيث تم إنشاء أولى المدارس فيما يعرف اليوم بمنطقة إقليم كردستان شمال العراق، وكانت اللغات الرسمية المستخدمة في الدراسة هي العربية والتركية والفارسية، أما اللغة الكردية فكان يتم استخدامها بشكل ثانوي حتى العقد الثاني من القرن العشرين، حيث سمحت الدولة العثمانية حينها بإدارج اللغة الكردية ضمن المناهج الدراسية. وتم افتتاح أول مدرسة تستخدم اللغة الكردية لغة للدراسة في عام 1918، وبعد ذلك بدأت عمليات الترجمة من العربية إلى الكردية كخطوة جديدة في سبيل تأصيل العلوم وترسيخ هذه اللغة.
- المرحلة الثانية: بعد سقوط الملكية في العراق عام 1958، حيث أنشأت جامعة بغداد في العام التالي قسماً للغة الكردية، وبعد ارتفاع الأصوات القومية خفت نجم اللغة الكردية مرة أخرى، وتم إلغاء قسم اللغة الكردية في جامعة بغداد. لكن بعد تولي حزب البعث للسلطة، رأى أنه من الأفضل أن يتم التقارب بين الأكراد والعرب، فازدهرت اللغة الكردية مرة أخرى.
وفي عام 1970 تم الاعتراف باللغة الكردية لغة رسمية - بجانب العربية - في مناطق تواجد الأكراد في أربيل وأدهوك والسليمانية، وأصبحت الكتب الدراسية من المرحلة الأولى وحتى الثانوية متاحة باللغة الكردية.
ب- التاريخ:
يشير الكاتب إلى تجاهل التاريخ في المناهج الدراسية العراقية لأي ذكر للإثنيات والأعراق المختلفة بما في ذلك الأكراد، حيث كانت هذه المناهج تُكتب من منظور العرب السنة والشيعة فقط. وخلال الفترة الممتدة من عام 1976 وحتى عام 2010 لم يتم ذكر الأكراد أو التركمان في كتب التاريخ العراقي على الإطلاق. وحتى مذبحة حلبجة التي نفذها صدام حسين ضد الأكراد أثناء الحرب بين العراق وإيران وراح ضحيتها الآلاف من الأكراد، تم ذكرها على استحياء دون تفاصيل تناسب حجمها. لكن في مرحلة ما بعد غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، أُتيحت الفرصة لحكومة اقليم كردستان لأن تقوم بتأليف مناهج التاريخ بنفسها حيث يكتبها أكراد.
الهوية في مناهج التاريخ الكردي
كان الهدف الأساسي من مناهج التاريخ في كردستان هو تعزيز نزعة القومية والهوية الكردية، وذلك عن طريق خمس آليات رئيسية، هي:
1 ـ تعميق القومية الكردية عن طريق الدعوة إلى كردستان الكبرى التي تضم كل الأكراد من سوريا والعراق وتركيا وتتسع حدودها لتصل إلى كركوك.
2 ـ تأصيل الوجود الحضاري لكردستان باعتبارها من أقدم الحضارات على وجه الأرض، إذ ترجع إلى أربعة آلاف سنة، مما يساعد على تعميق فكرة الهوية القومية باعتبار أن كردستان مهد للحضارة.
3 ـ خلق نوع من الإحساس بالتفرد والاختلاف، مثل الاعتماد على التقويم الكردي، واعتبار أنه أقدم من التقويم الجريجوري بستة عقود.
4 ـ التركيز على بطولات الأكراد مثل صلاح الدين، ودراستها بتعمق لتعزيز النزعة القومية لدى الأكراد.
5 ـ تعزيز الشعور بالاضطهاد، باعتبار أن الاكراد كانوا دوماً مضطهدين، مما يخلق شعوراً بأنهم ضحية الحكومات العربية المتعاقبة. وفي السياق ذاته لم تُذكر دولة العراق بشكل إيجابي إطلاقاً في كتب التاريخ الكردية إلا بعد الغزو الأمريكي عام 2003.
رؤية "الآخر" في التناول التاريخي الكردي
تتشكل الصورة الذاتية بشكل أساسي عن طريق تعزيز الاختلاف بين "الأنا والآخر". وقد اعتمدت مناهج التاريخ الكردي على ذلك لتعزيز القومية الكردية، فركزت على الاختلاف بين الأكراد والآخرين باعتبار أن العالم من وجهة نظرهم ينقسم إلى أكراد وغير أكراد. فعلى سبيل عند الحديث عن الحضارات القديمة، تشير مناهج التاريخ إلى أنها تنقسم إلى الحضارة الكردستانية وحضارات أخرى (مصرية، يونانية، رومانية.. إلخ).
وفي إطار الحديث عن "الأنا والآخر"، يوضح Kirmanj أن الأكراد يرون أن العرب قد احتكروا الإسلام فأصبحوا يتحدثون باسمه ويمثلونه، في حين أن الإسلام دين العالمين وليس من حق أي فئة احتكاره.
الأكراد ومحاولة بناء الدولة القومية
ترمز كلمة "كردستان" إلى "موطن الأكراد"، وتُعرِف مناهج الدراسات الاجتماعية الكردية، "الوطن" بأنه المكان الذي يعيش فيه مجموعة من الناس على أرض واحدة ولديهم روابط مشتركة. ومنذ إنشاء حكومة إقليم كردستان في عام 1992، تعتبر الكتب المدرسية هذا الإقليم كياناً جغرافياً سياسياً متساوياً في الوضع مع دول الجوار القومية.
وقد حاول الأكراد بناء الدولة القومية في وجدان الطلبة قبل تأسيسها على أرض الواقع، فامتلأت المناهج الدراسية بتاريخ عظام الرجال من الأكراد مع تجاهل متعمد للآخرين، كما أكدت كردستان مراراً وتكراراً أنها لن تتوان عن تحقيق حلم الدولة الكردية، حيث إنها بموجب الدستور العراقي لديها الحق في تقرير مصيرها.
كما اهتمت السلطات في إقليم كردستان بالأعياد القومية الكردية، وأولت لها اهتماماً خاصاً، حيث بلورت هذه الأعياد لتظهر بشكل يليق بما ارتبطت به من أحداث، مما يعزز الشعور بالذات لدى الأكراد.
ختاماً، يؤكد Kirmanj أن الهدف من المناهج الدراسية الكردية واضح، ويتمثل في تأصيل وترسيخ القومية الكردية، والتأكيد على حق الأكراد في تقرير المصير وإنشاء دولة قومية، سواء داخل أو خارج الدولة القومية العراقية، وإن كانت المناهج الدراسية قد عانت من العديد من المغالطات وعدم الدقة في تحري بعض المعلومات، بالإضافة إلى تجاهل متعمد في كثير من الأحيان للعناصر غير الكردية المشتركة في السياق التاريخي.
* عرض موجز لمقال تحت عنوان: "مناهج التاريخ الكردية: إقامة دولة قومية داخل دولة قومية"، المنشور في صيف 2014 بدورية ""The Middle East Journal الصادرة عن معهد الشرق الأوسط.
المصدر:
Sherko Kirmanj, Kurdish History Textbooks: Building a Nation-State within a Nation-State, The Middle East Journal, Volume 68, Number 3 (Washington: Middle East Institute, Summer 2014) pp 367-384.