عرض: د. إسراء إسماعيل - خبير في الشئون السياسية والأمنية
مع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، وتصاعُد الانتقادات التي يتعرض لها الرئيس "دونالد ترامب" بسبب القصور الذي شاب إدارته لأزمة كورونا، مما أسفر عن خسائر جسيمة في الأرواح، والهياكل الاقتصادية، مع توقُّع تفاقُم الخسائر الاقتصادية خلال الفترة المقبلة، خاصة بعد أزمة مقتل "جورج فلويد"، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية؛ يأتي كتاب "بول كروجمان" المعنون "الجدال مع الزومبي: الاقتصاد والسياسة والنضال من أجل مستقبل أفضل"، ليقدم فيه رؤيته حول الكفاح من أجل الحقيقة والعدالة، ومواجهة سوء الفهم والأفكار المضللة، التي أطلق عليها مصطلح "زومبي"، والتي رأى أن تيار المحافظين مسئول عن استمرارها.
و"بول كروجمان" اقتصادي أمريكي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، قدَّم في كتابه فصولًا قصيرة، وهو مؤلَّف من مجموعة من مقالاته الصحفية، كُتبت معظمها لصحيفة "نيويورك تايمز"، وتمتد لأكثر من عقدين من الزمن، حول مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي وبريكست، وتعقيدات الرعاية الصحية الشاملة في الولايات المتحدة، والانهيار المالي في عامي 2007-2008، والإصلاح الضريبي، وفقاعات الإسكان، وأزمة الضمان الاجتماعي، و"دونالد ترامب" الذي جاء تتويجًا لمسيرة تيار المحافظين.
تسييس الأفكار
أشار "كروجمان" إلى أنّ استخدام المحافظين معلومات مضللة أو غير دقيقة لتبرير قطع المساعدات وبرامج الاستحقاقات يعود تاريخه إلى سنوات مضت، وأبرزها محاولة الرئيس السابق "جورج دبليو بوش" الفاشلة عام 2004 لخصخصة الضمان الاجتماعي.
ويوضح "كروجمان" أن المشرعين الجمهوريين يسعون لإلغاء اللوائح، وخفض الضرائب للأغنياء، اعتمادًا على نظريات زائفة، أو ما أطلق عليها "الزومبي"، التي تقوم على فكرة أن القرارات التي تفيد 1% من المجتمع، تفيد بالضرورة الجميع، وأفكار "الزومبي" هي تلك الأفكار التي كان يجب دحضها بسبب ثبوت خطئها، ولكنها استمرت في العبث بعقول الناس.
ويؤكد "كروجمان" أنه في القرن الحادي والعشرين، يتم تسييس كل الأفكار، ففي كثير من الحالات، قد يمثل قبول نتائج الأدلة الخاصة بمسألة اقتصادية ما مؤشرًا على تأييد حزب معين. على سبيل المثال، فيما يتعلق بالتساؤل حول ارتفاع التضخم في حالة شراء الاحتياطي الفيدرالي لكثير من السندات الحكومية، فإن التجربة العملية قد أثبتت عدم صحة ذلك إذا كان الاقتصاد في حالة ركود، فقد اشترى الاحتياطي الفيدرالي 3 تريليونات دولار من السندات بعد الأزمة المالية عام 2008، وبالرغم من ذلك ظل التضخم منخفضًا، لكن هذه الحقيقة لم تمنع التأكيدات الرسمية للمشرعين الجمهوريين بأن سياسة الاحتياطي الفيدرالي كانت تضخمية بشكلٍ خطير، وبالتالي أصبح أي رأي مخالف لرأيهم يعبر ببساطة عن موقف معارض لتوجهاتهم الحزبية.
ويُضيف "كروجمان" أنه حتى في بعض الحالات أصبح يُنظر إلى طرح أسئلة ومناقشة قضايا بعينها على أنها تعكس ميولًا حزبية معينة، فمثلًا إذا تم إثارة قضية عدم المساواة في الدخل فسوف يثير ذلك اعتراض حركة المحافظين، واتهاماتهم بعدم الإخلاص للوطن، كما يرون حتى أن إثارة مسألة توزيع الدخل، أو مقارنة نمو دخل الطبقة الوسطى مع دخل الطبقة العليا، يعكس أفكارًا ماركسية.
ولا يرتبط ذلك بالمجال الاقتصادي فقط، بل ينسحب إلى مختلف المجالات، مثل المناخ؛ حيث يتعرض علماء المناخ للاضطهاد بسبب استنتاجاتهم وأفكارهم، وكذلك علماء الاجتماع الذين يدرسون أسباب العنف المسلح؛ فخلال الفترة من عام 1996 إلى عام 2017، تم منع مراكز السيطرة على الأمراض من تمويل الأبحاث الخاصة بحوادث الإصابات والوفيات الناجمة عن استخدام الأسلحة النارية.
وفي مواجهة ذلك، يحتاج العلماء والباحثون إلى تجاهل التقاطعات والضغوط السياسية ومواصلة البحث، كما يحتاج المجتمع أيضًا إلى المثقفين الذين يفهمون ويحترمون البحث العلمي، وفي الوقت نفسه على استعداد للقفز إلى داخل المعترك السياسي.
جذور التسييس
هناك العديد من القضايا ذات الصلة بالسياسة، وفي هذا الإطار، يوضح "كروجمان" أنه ليس من الدقيق وصف الشخص بأنه يميني أو يساري، فقد يكون لدى نفس الأشخاص مجموعة متنوعة من الآراء. على سبيل المثال، قد يؤيد البعض السيطرة على امتلاك واستخدام الأسلحة النارية، والمطالبة بوضع سياسات حاسمة لمحاربة الاحتباس العالمي، لكنهم -في الوقت نفسه- قد يدعمون فكرة خصخصة الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية.
لكن من الناحية العملية فإن السياسة في الولايات المتحدة الحديثة هي في الواقع ذات بعد سياسي واحد إلى حد كبير، والذي يحدد هذا البعد في الأساس هو التصنيف السياسي التقليدي تجاه اليمين أو اليسار، وما يرتبط بذلك من رأي الأفراد في الدور الذي يجب أن تلعبه السياسة العامة في الحد من المخاطر، والتفاوتات في اقتصاد السوق؛ حيث تتراوح الآراء بين فرض ضرائب مرتفعة، وتوفير شبكة أمان اجتماعي قوية، وتأمين شامل للعمال، مثل الدنمارك على سبيل المثال، وبين فكرة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد والسوق، بما يحقق ازدهارًا اقتصاديًّا أكبر، من خلال تطبيق مبدأ laissez‐ faire، مثل الولايات المتحدة في عصرها الذهبي.
ويضيف "كروجمان" أن محور الخلاف يدور حول القيم؛ حيث يميل مؤيدو اليسار إلى تبني مفهوم العدالة الاجتماعية، وعلى النقيض من ذلك، ينظر مؤيدو اليمين إلى أن تدخل الحكومة للحد من عدم المساواة يعتبر موقفًا غير أخلاقي؛ حيث يرون أن فرض الضرائب على الأغنياء لمساعدة الفقراء هو شكل من أشكال السرقة، مهما كان الهدف جديرًا بالثناء، مؤكدًا أنه لا يمكن للاقتصاد أن يحدد القيم التي يتبناها الأفراد، ولكنه يُلقي الضوء على ما يمكن توقعه من سياسات تعكس قيم المجتمع، وهذا هو المنطلق الذي تتبلور فيه عملية التسييس.
فعلى سبيل المثال، يسعى المعارضون لفكرة اكتساب الحكومة دورًا أكبر، للقول بأن مثل هذا الدور ليس فقط غير أخلاقي، ولكنه يؤدي إلى نتائج عكسية، بل وحتى مدمرة، وإذا لم توافق الأدلة التجريبية أفكارهم، فإنهم يهاجمون هذه الأدلة ومن ينتجونها.
ومن حيث المبدأ، يمكن أن يقع هذا النوع من التسييس من اليسار وكذلك من اليمين، ولكن بالنظر إلى معطيات المال والسلطة، فإن معظم التسييس الذي يحدث في الولايات المتحدة يعكس ضغوطًا من اليمين، حيث يرى أنصار التيار المحافظ من الأغنياء المكاسب المتولّدة في حالة تبني نفس النهج المتَّبع خلال العصر الذهبي للولايات المتحدة، وبالتالي يعملون على ترويج فكرة أن تبني الحكومة لسياستهم سيعود بالنفع على الجميع. وفي هذا الإطار، أشار "كروجمان" إلى الدعم المالي المقدَّم من مليارديرات اليمين، والذي يعد قوة داعمة لأفكار "الزومبي".
الإصلاح الضريبي والاقتصادي
أكثر أفكار "الزومبي" رواجًا واستمرارًا وفقًا لـ"كروجمان" هو الإصرار على أن فرض ضرائب على الأغنياء يدمر الاقتصاد ككل، وأن خفض الضرائب على الدخول المرتفعة يؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي مذهل، وكذلك فكرة الربط بين انخفاض معدل فرض الضرائب والادعاء بأن برامج التأمين الاجتماعي والصحي غير قابلة للتطبيق، والإصرار على أن توفير التغطية الصحية الشاملة أمر مستحيل، على الرغم من أن كل الدول المتقدمة تمكنت بطريقة ما من تحقيق ذلك، فهذا يعد نموذجًا آخر لأفكار "زومبي".
ولكن في حين أنه من السهل فهم تسييس الضرائب وتحليل الإنفاق، يتساءل "كروجمان" عن سبب امتداد التسييس إلى مجالات أخرى لا تتوافق مع المصالح الطبقية، موضحًا أنه حتى المليارديرات يحتاجون إلى كوكب صحي صالح للعيش فيه، متعجبًا من فكرة اتهام مناصري البيئة بالانحياز لتيار دون آخر، كما تساءل عن سبب معارضة تيار المحافظين لطباعة النقود لمواجهة الركود، وعن سبب ارتباط التوجهات العرقية بشكلٍ وثيق بمواقف فرض الضرائب وتحديد سياسات الإنفاق.
ويرجح "كروجمان" أن السبب يكمن في اعتقاد اللاعبين السياسيين بأن هناك نوعًا من "تأثير الهالة" الذي يربط جميع أشكال النشاط الحكومي؛ فإذا تم إقناع المواطنين بالحاجة إلى سياسة عامة للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، يصبحون أكثر تقبلًا لفكرة الحاجة إلى سياسات عامة للحد من عدم المساواة، وإذا اقتنعوا بأن السياسة النقدية يمكن أن تحارب الركود، فمن الأرجح أن يدعموا السياسات التي تتضمن توسيع نطاق التأمين الصحي.
ويشير المؤلف إلى أنه بالعودة إلى الأربعينيات والخمسينيات، فقد قاتل اليمين الأمريكي بشراسة ضد الاقتصاد الكينزي، إلى حد محاولة منع تدريسه في الجامعات، على الرغم من أن "جون ماينارد كينز" وصفه بأنه مذهب معتدل، جاء كوسيلة للحفاظ على الرأسمالية لا ليحل محلها. ويوضح "كروجمان" أن السبب يرجع إلى أنهم رأوا أن نظريته تعتبر الخيط الرفيع لتدخُّل الحكومة بشكلٍ أكبر في الاقتصاد، مؤكدًا اتساع نطاق الاستقطاب السياسي حاليًا بشكلٍ كبير مقارنة بما كان عليه الوضع آنذاك، وهو ما يؤدي بدوره إلى امتداد واستمرار عملية التسييس.
وبالإضافة إلى تأثير الهالة، هناك أيضًا تأثير وضع الاستراتيجيات السياسية، فالسياسة الأمريكية تضم بعدين: محور تيار اليسار/ وتيار اليمين، ومحور المساواة / التمييز العنصري، ويؤكد الكاتب أنه حتى يومنا هذا هناك عدد كبير من الناخبين الذين يحبون تدخل الحكومة بشكل أكبر، ولكنهم لا يحبون الأشخاص ذوي البشرة الداكنة، ومن الناحية الاقتصادية، فقد جنحت السياسات الاقتصادية لكسب الطبقة العاملة البيضاء، مما تسبب في ترسيخ العداء العرقي، لذا فإن التسامح العرقي، والمظاهر الأخرى من الليبرالية الاجتماعية، مثل المساواة بين الجنسين وحقوق المثليين، قد وقعت في الانقسام السياسي نفسه مثل كل شيء آخر.
نهاية حلم التكنوقراط
يصل "كروجمان" إلى نتيجة مفادها أن كل شيء سياسي، وهذا يعني أن الحلم التكنوقراطي قد مات، والذي يعني فكرة وجود محلل سياسي محايد، يساعد صانعي السياسات على الحكم بشكلٍ أكثر فعالية، على الأقل في الفترة الراهنة، لكن هذا ليس الدور الوحيد المتاح للعلماء الذين يهتمون بمسار حركة واتجاه المجتمع، فإلى جانب التخصص في مجال معين مثل الاقتصاد، يحتاج المجتمع إلى أن يتمتع الخبراء والمتخصصون بالقدرة على التأثير على الخطاب العام.
وفي هذا الإطار، يحتوي القسم الأخير من الكتاب على مقال كُتِب في عام 1991 بعنوان "كيف أعمل"، حدد فيه "كروجمان" أربع قواعد للبحث، وبالمثل حدد أربع قواعد خاصة بكيفية الانتقال والتأثير في المجال العام، يتمثل أولها في تناول القضايا السهلة، بمعنى تجنُّب الأسئلة الاقتصادية الصعبة التي تثير اختلافًا في الرأي بين الباحثين الجادين والصادقين، فالصفحة الافتتاحية ليست مكانًا جيدًا للنقاش بشأنها. وثانيًا استخدام لغة مفهومة وواضحة في الكتابة، حتى تصل المعلومة ببساطة لجميع القراء.
وثالثًا التزام الصدق حتى في حالة تناول قضية تتعلق بعدم الأمانة، وهذه القاعدة من المحددات المثيرة للجدل؛ فنتيجة أن كل شيء يتم تسييسه، أصبح يتم تقديم العديد من الحجج العامة في الاقتصاد والمجالات الأخرى بسوء نية، ولصالح أشخاص أو جهات معينة. وأخيرًا عدم التردد في كتابة الأسباب والدوافع المفسرة للقضايا المختلفة. على سبيل المثال، نفس الأشخاص الذين تنبأوا بأن رفع ضريبة "بيل كلينتون" من شأنها أن تسبب كسادًا اقتصاديًّا، يدَّعون الآن أن ازدهار حقبة "كلينتون" كانت بسبب العائد طويل المدى لتخفيض ضريبة "رونالد ريجان" عام 1981، ومن ثمَّ يتضح كذب البعض وتشكيل الأرقام والحقائق وفقًا لمصالحهم.
وختامًا، يرى "كروجمان" أنه في مواجهة ذلك يتعين على الخبراء الاقتصاديين تقديم الأدلة التي تثبت صحة وجهة نظر واحدة وخطأ الافتراضات الأخرى، كما أنه لا بد من التزام الشفافية والمصارحة وإعلام الجمهور ليس فقط بأن هذه الحجج خاطئة، بل إنه يتم تقديمها بسوء نية. وفي هذا الإطار، أكد أنه من المهم الإشارة إلى أن الأشخاص الذين تنبأوا بالتضخم الجامح من شراء السندات الفيدرالية كانوا على خطأ.
كما أنه من المهم أيضًا الإشارة إلى أن أيًّا منهم لم يكن على استعداد للاعتراف بالخطأ، وذلك بخلاف دوافعهم، وإقدام بعضهم على تغيير موقفه فجأة بمجرد وصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض، ويعني ذلك في الغالب الحديث عن طبيعة السياسة الأمريكية المحافظة الحديثة، وشبكة المنظمات الإعلامية والمؤسسات البحثية التي تخدم مصالح المليارديرات من أنصار تيار اليمين، والتي استولت فعليًّا على الحزب الجمهوري، مؤكدًا أن حركة المحافظين هي التي تُبقي على استمرار أفكار "الزومبي".
بيانات الكتاب:
Paul Krugman, Arguing with Zombies: Economics, Politics, and the Fight for a Better Future, (New York: W. W. Norton & Company, 2020)