تسعى تركيا بشتى الطرق إلى إيجاد موطئ قدم لها في منطقة حوض شرق المتوسط خلال السنوات الأخيرة، وتتمثل إحدى آخر محاولاتها في هذا الصدد في طلبها إذناً من حكومة الوفاق الوطني للتنقيب عن الهيدروكربونات قبالة السواحل الليبية، والذي تعتبره أنقرة "ثمناً" لدعمها للميليشيات العسكرية التابعة لحكومة الوفاق في الفترة الأخيرة، والذي شمل إرسال قوات ومرتزقة وعتاد عسكري. ومن شأن تصاعد التدخل التركي في ليبيا أن يزيد ليس فقط من تعقيدات الصراع السياسي، وإنما أيضاً من التوترات في منطقة حوض شرق المتوسط بشكل عام.
دعم واسع:
اتجهت أنقرة في الفترة الماضية إلى دعم حكومة الوفاق الوطني والميليشيات العسكرية التابعة لها بهدف وقف تقدم الجيش الوطني الليبي نحو العاصمة طرابس. ويتسق هذا الدور مع السياسة الخارجية التركية القائمة في الأساس على التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة وفي الملفات الإقليمية المختلفة، من أجل تعزيز نفوذها والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية مستقبلية.
وعلى هذا النحو، وقّعت تركيا مذكرة تفاهم للتعاون الأمني والعسكري مع حكومة الوفاق الوطني في أواخر نوفمبر 2019، والتي مهدت لأنقرة لإرسال مرتزقة بجانب العتاد العسكري للأراضي الليبية، كما أبرمت الأولى في الشهر نفسه مذكرة لإقامة منطقة اقتصادية خالصة تمتد من الساحل التركي الجنوبي على المتوسط إلى سواحل شمال شرق ليبيا، وهو إجراء واجه انتقادات دولية وإقليمية واسعة لانتهاكه السيادة الليبية وسيادة الدول المجاورة مثل اليونان.
حسابات خاصة:
تستعجل تركيا، على ما يبدو، الحصول على "ثمن" تقديم الدعم السياسي والعسكري لحكومة الوفاق الوطني والميليشيات التابعة لها، وهو ما يتضح في عدد من المؤشرات، التي برز أهمها خلال يناير الماضي عندما أودع مصرف ليبيا المركزي بالعاصمة الليبية طرابلس وديعة في مصرف تركيا بقيمة 4 مليار دولار ذات أجل أربعة أعوام وبمعدل عائد صفري.
وتبدو الصفقة السابقة مُربِحة لأنقرة التي تسعى إلى زيادة احتياطياتها من النقد الأجنبي من أجل احتواء الضغوط القوية التي تتعرض لها الليرة، حيث تدهورت بشكل كبير في العامين الماضيين نتيجة خروج مزيد من رؤوس الأموال الأجنبية من السوق، بجانب اتساع عجز الميزان التجاري في البلاد، وهو ما لا ينفصل عن تداعيات التدخلات الخارجية التركية التي أثرت على الاستقرار والأمن في بعض دول الأزمات مثل سوريا وليبيا، وأدت إلى اتساع نطاق خلافاتها مع العديد من القوى الإقليمية المعنية بمكافحة الإرهاب.
وعلى جانب آخر، قدمت مؤسسة البترول التركية (تباو) طلباً إلى حكومة الوفاق الوطني للحصول على إذن بالتنقيب في السواحل الليبية، ويأتي ذلك وسط انشغال العالم بالتعامل مع تداعيات جائحة "كورونا". وتبدو أنقرة على أتم الاستعداد للبدء فوراً في عمليات الاستكشاف بمجرد الحصول على موافقة حكومة الوفاق الوطني وذلك حسبما صرح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز.
وربما لن يكون بإمكان تركيا الاستفادة بشكل عاجل من اتفاقياتها مع حكومة الوفاق الوطني، إلا أن ذلك لا ينفي أنها تعمل على فرض سيطرتها على موارد النفط والغاز الليبية، على نحو يبدو جلياً في حرصها على إعداد مشروعات لمد بنية تحتية من أجل إيصال الغاز الليبي للسوق المحلية بتكاليف رخيصة، علماً بأن لديها موارد محدودة للغاية من النفط والغاز الطبيعي، وتعتمد على الواردات لتلبية أكثر من 80% من إجمالي الطلب على الطاقة.
وعلاوة على ما سبق، ترى تركيا أن إيجاد موطئ قدم في السواحل الليبية قد يسمح لها بإنشاء مشاريعها الخاصة بتسويق ونقل غاز المتوسط للسوق المحلية والقارة الأوروبية، وكذلك تهديد المشاريع التي طرحت في الفترة الماضية مثل خط أنابيب "إيست ميد" بين قبرص واليونان وإسرائيل، وبما يعزز من دورها كمركز للطاقة في الشرق الأوسط. وكانت أنقرة عرضت مشاركتها في عدد من مشروعات نقل الغاز من حوض شرق المتوسط، غير أنها لم تلق قبولاً من جانب بعض القوى الإقليمية بسبب السياسات التي تتبناها والآليات التي تسعى من خلالها إلى التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة.
ترابط واضح:
لا يمكن فصل مساعي تركيا لاستغلال موارد الغاز الطبيعي الليبية عن النهج الذي اتبعته في منطقة حوض شرق المتوسط في الفترة الماضية، فتحت دعوى حماية حقوق القبارصة الشماليين، قامت أنقرة في العامين الماضيين بإرسال أربع سفن حفر ومسح زلزالي للتنقيب عن موارد النفط والغاز في المنطقة الخالصة لقبرص، كما أعاقت القوات البحرية التركية أعمال بعض شركات الطاقة العالمية في بعض الكتل القبرصية.
ومن دون شك، فإن التحركات التركية الأخيرة على الساحة الليبية سوف تزيد من حدة الصراع بين الأطراف الليبية المختلفة وتساهم في تعقيد فرص التوصل لتسوية سياسية بينها، فضلاً عن تأجيج التوترات في منطقة حوض شرق المتوسط وسط رفض القوى الإقليمية والدولية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لانتهاكها للسيادة الليبية، والتي، على الأرجح، سوف تضغط على أنقرة لإثنائها عن هذه التحركات بالوسائل الدبلوماسية والسياسية الممكنة.