أسفر تفشي فيروس كورونا حول العالم عن جملة من التحديات، لعلّ أبرزها تلك المتعلقة باحتمالية تصاعد أزمة أمن غذائي قد تهدد ملايين البشر حول العالم، وذلك في ظل ما انطوت عليه الإجراءات المتخذة من جانب بعض الدول للحد من تفشي الفيروس من تداعيات سلبية على سلاسل توريد الأغذية، وتأخر حركة شحن الواردات الغذائية، وهو ما دعا العديد من المنظمات حول العالم إلى التحذير من مغبة أزمة أمن غذائي على المستوى العالمي قد يكون من الصعب تجاوزها بسهولة. وأشار تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، في 3 أبريل الجاري، إلى أن جائحة كورونا حتى الآن لم تؤثر على سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية، لكنه حذر من حدوث تأثيرات سلبية إذا ما ساد الذعر في صفوف كبار مستوردي الأغذية.
تحديات جمّة:
تتعدد التحديات المرتبطة بالأمن الغذائي في العالم في الوقت الحالي، وهي تتداخل بشكل أساسي مع إجراءات الدول وسلوكيات المواطنين خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تقييد تصدير المواد الغذائية: يرتبط ذلك بالإجراءات والتدابير الاحترازية التي اتخذتها الدول من أجل الحد من تفشي فيروس كورونا، حيث قامت بعض الدول المُصدِّرة للأغذية وكذلك للمنتجات الزراعية بفرض قيود على التصدير خوفًا من طول أمد أزمة كورونا، وتعرض الاحتياطي الاستراتيجي لديها للنفاد بسبب الطلب المتزايد على الغذاء من جانب المواطنين.
فقد أعلنت روسيا، في أواخر مارس الماضي، تعليق جميع صادراتها من الحبوب بشكل مؤقت. كما حظرت كازاخستان، وهي أحد أكبر مصدري الحبوب في العالم، تصدير معظم المواد الغذائية خارج البلاد. في حين قامت فيتنام بإيقاف منح تراخيص تصدير جديدة للأرز، وذلك في ظل تخوفات من نقصٍ في الإمدادات الغذائية في المدى المنظور. كما أصدرت مصر قرارًا بوقف تصدير جميع أصناف البقوليات لمدة 3 أشهر.
2- التمادي في تخزين السلع: لجأت العديد من الدول إلى تعزيز مخزونها الاستراتيجي من السلع والمواد الغذائية المهمة، حيث فضّلت بعض الدول وقف تصدير المنتجات الزراعية واللجوء لتخزينها انطلاقًا من تخوفات عالمية من حدوث نقص في المواد الغذائية في المدى المتوسط، خاصة في ظل لجوء العديد من الدول إلى إغلاق الحدود، ووقف حركة الطيران، بما يُمثل تهديدًا لسلاسل توريد الأغذية، وتأخر حركة شحن الواردات الغذائية حول العالم.
وقد قامت الصين -التي تعد أكبر منتج ومستهلك للأرز- بشراء كميات أكبر منه من المنتجين المحليين على الرغم من أن الحكومة الصينية تحتفظ بمخزونات ضخمة من الأرز والقمح تكفي لمدة عام كامل. فيما قامت كازاخستان بمنع تصدير منتجات غذائية، مثل الجزر والسكر والبطاطس، وقامت بتخزينها. وتوقفت صربيا كذلك عن تصدير زيت عباد الشمس وسلع أخرى من أجل تخزينها. وتمثل تلك السلوكيات تهديدًا للمعروض العالمي من المواد الغذائية في العالم.
3- تعطل طرق الإمداد وإعدام المحاصيل: تسببت الإجراءات المشددة التي لجأت إليها الدول من أجل الحد من تفشي فيروس كورونا في تعطل طرق الإمداد، مما دفع بعض المزارعين إلى هدر بعض المنتجات لديهم مثل الحليب، وقد قدرت جمعية "مزارعو منتجات الألبان في أمريكا" التعاونية، وهي الأكبر من نوعها في البلاد، الكمية التي يهدرها المزارعون من الحليب بحوالي 14 مليون لتر كل يوم، بسبب تعطّل طرق الإمداد.
وفي السياق ذاته، لجأ بعض المزارعين إلى إعدام المحاصيل الخاصة بهم، وذلك بسبب وجود فائض لديهم في المخزون، وتأثر الطلب على المنتجات في الوقت الحالي. فيما يؤثر نقص الأيدي البشرية في ظل التدابير الاحترازية تأثيرًا سلبيًّا كبيرًا على القطاع الزراعي في مجمله. وقد حذّر تقرير للمعارضة التركية، في 15 أبريل الجاري، أعده حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية، من أزمة وشيكة في الغذاء على خلفية المشاكل التي أصابت قطاع الزراعة في البلاد بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد.
4- هلع الشراء Panic Buying: هرع المواطنون حول العالم، تزامنًا مع إعلان حالات الحظر والإغلاق في بعض الدول، إلى شراء كميات كبيرة من المواد الغذائية من أجل تخزينها. وفي منتصف مارس الماضي، أجرى الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" اتصالًا هاتفيًّا بالمديرين التنفيذيين لمتاجر السلع الغذائية وسلاسل الإمدادات، للتأكد من توافر المواد الغذائية. وقد ناشد "ترامب" الشعب الأمريكي عدمَ تخزين المواد الغذائية الأساسية اليومية.
كما تهافت المواطنون في سنغافورة على شراء السلع الأساسية من الأرز وغيره بشكل كبير، مما دفع رئيس الوزراء السنغافوري "لي هسين لونغ"، إلى طمأنة الناس بوجود كميات كافية منه من أجل التوقف عن الشراء بتلك الكميات الكبيرة.
آليات مختلفة:
لجأت بعض الدول إلى الاعتماد على أساليب مختلفة في ظل تفشي كورونا من أجل تقليل المخاطر المرتبطة بتراجع الأمن الغذائي لديها، وذلك على النحو التالي:
1- توظيف الطائرات المُسيّرة الزراعية: في ضوء نقص العمالة البشرية تنفيذًا للتباعد الاجتماعي، لجأت بعض الدول إلى تعويض العمالة عبر توظيف التكنولوجيا في القطاع الزراعي. فقد استخدمت الصين الطائرات المُسيّرة الزراعية للمزارع الكبيرة، وللحكومات المحلية، ولموزعي المنتجات الزراعية، وذلك في إطار تقليل الاتصال البشري. ويأتي الاهتمام بمنتجات وخدمات التكنولوجيا الزراعية في ظل تكثيف الحكومة الصينية جهودها للحد من الاعتماد على واردات المواد الغذائية من الولايات المتحدة ودول أخرى على مدى السنوات القليلة الماضية.
2- استراتيجية الممرات الخضراء: دعت المفوضية الأوروبية، في 23 مارس الماضي، دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني استراتيجية الممرات الخضراء "Green Lanes" لضمان تدفق الإمدادات الغذائية -خاصة الزراعية منها- بين الدول الأوروبية، إضافة إلى السماح بنوع من الحركة العابرة للحدود للعمال الموسميين خلال موسم الحصاد، مع اتخاذ كافة التدابير الوقائية والاحترازية اللازمة في هذا الإطار.
3- تقديم الدعم للمزارعين: أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، في 18 أبريل الجاري، عن برنامج بقيمة 19 مليار دولار لمساعدة المزارعين الأمريكيين على التعامل مع تأثير فيروس كورونا. ومن جانبه، أوضح وزير الزراعة "سوني بيرديو"، أن 16 مليار دولار ستذهب مباشرة للمزارعين، وسيتم استخدام 3 مليارات دولار لشراء منتجات غذائية ستوزع على الأكثر فقرًا.
4- تقييد كميات الشراء من المتاجر: في محاولة من أجل الحفاظ على الكميات المتاحة من المواد الغذائية في المتاجر، لجأت بعض الدول إلى فرض قيودٍ على كميات الشراء، حيث قررت متاجر المواد الغذائية في بريطانيا في 10 مارس الماضي، فرض قيود على زبائنها، من خلال السماح بشراء كميات مُحددة من المواد الغذائية لكل زبون، وذلك لوقف تجريد المتاجر من المواد الغذائية.
وفي المجمل، فإن إطالة أمد انتشار فيروس كورونا، وعدم التوصل للقاح أو علاج فعّال للحد من انتشاره في المدى المنظور؛ من شأنه أن يفاقم من معضلة الأمن الغذائي العالمي، ولا سيما في ظل خشية العديد من الدول من إعادة حركة الطيران وفتح الأجواء بشكل طبيعي في الوقت الحالي، وهو ما يؤثر بالضرورة على سلاسل توريد الأغذية. من جانب آخر، فإن المجتمع الدولي مطالب بتعزيز التدفق السلس للتجارة العالمية بما يساعد في تأمين توريد الأغذية، كما أن هناك حاجة ماسة من أجل توفير الإمدادات الغذائية للدول الأكثر احتياجًا، لا سيما في القارة الإفريقية، وسط تحذيرات أممية من إمكانية تحولها إلى بؤرة لتفشي الفيروس في الفترة المقبلة.