تعاني لبنان حالياً أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية، التي عصفت بالبلاد بين عامى 1975 و1990، وسط تضخم حجم الديون الحكومية، وحلول موعد استحقاق جزء منها، وعدم توافر السيولة اللازمة لذلك. ومنذ فترة غير قصيرة، استشعر البنك المركزي اللبناني حقيقة الأزمة وصعوبتها، فدعا حائزي السندات المحليين، ولاسيما السندات الأقصر أجلاً، إلى استبدالها بسندات أطول أجلاً لتخفيف الضغوط على المالية العامة للدولة، كما دعا الحكومة إلى اتخاذ إجراءات حقيقية لمعالجة الأزمة، وأكد كذلك على ضرورة حصول لبنان على دعم خارجي، ولاسيما من صندوق النقد الدولي، من أجل تجاوزها.
لكن الحكومة اللبنانية المستقيلة لم تستطع إيجاد الحلول اللازمة، ودعت المصرف لإيقاف خطط استبدال السندات، بعد أن حذرت وكالات التصنيف الائتماني العالمية من أن هذه الخطط قد تشكل تخلفاً انتقائياً عن السداد، وربما تضر بالوضع الائتماني للبنان وسمعتها في الأسواق الدولية. ولذلك فإن الحكومة الحالية تواجه تركة مديونية ثقيلة، ووضعاً حرجاً للمالية العامة، على نحو دفعها إلى اللجوء لصندوق النقد، بشكل يطرح تساؤلات عديدة حول مدى نجاح مساعيها في هذا الإطار.
تحركات متواصلة:
شهدت الأسابيع الأخيرة مساعٍ حثيثة من قبل الحكومة للتعاون مع صندوق النقد الدولي، وبعض دول مجموعة العشرين، ومن بينها فرنسا، من أجل إيجاد مخرج للأزمة المالية الحالية، التي وصلت فيها الديون الحكومية إلى 150% من الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة تبلغ 90.8 مليار دولار.
ومن المرجح أن تشهد الأزمة المالية المزيد من التفاقم خلال الأعوام المقبلة، خاصة إن لم يتم إيجاد حل جذري لها، لاسيما أن المديونية تنمو بمعدل سنوي كبير، في ظل العجز المرتفع في الموازنة العامة، والذي بلغت نسبته 9.7% في عام 2019، ويتوقع ارتفاعه إلى 11.5% في عام 2020، وقد يصل وفق تقديرات صندوق النقد الدولي إلى 15% بحلول عام 2024، ما سيكون سبباً في ارتفاع حجم المديونية الحكومية إلى ما يناهز 185% من الناتج المحلي الإجمالي آنذاك.
ومع بداية مارس 2020، فإن لبنان أصبحت على المحك الفعلي في أزمتها المالية، فهى مطالبة بسداد ما يقارب 1.2 مليار دولار من ديونها الخارجية، كما أن هناك سندات مستحقة عليها هذا الشهر أيضاً لدى دائنين محليين تقارب قيمتها 1.3 مليار دولار، وهذه السندات هى التي طالب المصرف المركزي الدائنين باستبدالها بسندات أطول أجلاً. وفي مواجهة هذه المعضلة، لجأت الحكومة إلى صندوق النقد، الذي أرسل بالفعل ممثلين له إلى لبنان خلال الأسبوعين الماضيين، وقام بمناقشة الخيارات المتاحة أمام لبنان للخروج من الأزمة المالية بشكل كلي في الأجل الطويل.
مسارات محتملة:
بشكل عام، مع حلول مارس الجاري، أصبح أمام لبنان عدّة خيارات للخروج من مأزقها المالي: الأول، تسديد مستحقات شهر مارس باستخدام ما تبقى لديها من احتياطيات من العملات الأجنبية في المصرف المركزي، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم أزمة السيولة في الاقتصاد، لاسيما فيما يتعلق بما هو متاح من العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار، في ظل نقص مخزون المصرف من تلك العملات الأجنبية. كما أن هذا الخيار يقلص قدرة المصرف على دعم أسعار الواردات الأساسية كالقمح والأدوية والمحروقات، والتي يتم تمويلها بالعملات.
والثاني، إعادة جدولة الديون المستحقة في مارس، من خلال الدخول في مفاوضات مع الدائنين لطلب تأجيل تسديد الدفعات واجبة السداد، وهو خيار يبدو مقبولاً من الناحية النظرية، لكن أوانه قد يكون انتهى الآن.
والثالث، إعادة هيكلة الدين العام للبنان، وهو خيار يفرض تلقائياً تأجيل دفع الديون المستحقة الآن، والاستعانة بصندوق النقد الدولي والدائنين أيضاً. ويبدو هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً والأكثر جدوى بالنسبة للبنان حالياً، بل وقد يكون الوحيد أيضاً، في ظل الحالة التي وصلتها المالية العامة، وفي ظل عامل الوقت كذلك.
لكن في حالة اللجوء إلى هذا الخيار، ستكون الحكومة مطالبة بتنفيذ إجراءات اقتصادية ومالية صعبة، وذلك بإشراف من صندوق النقد والدائنين، كالتقشف المالي وزيادة الضرائب وخصخصة بعض الأصول والمؤسسات الحكومية، وغيرها. ومن الواضح أن المفاوضات الجارية بين صندوق النقد الدولي والحكومة منذ فترة متعلقة بتنفيذ هذا الخيار، الذي سيؤدي عدم قدرة لبنان على التوصل إلى حل مع الصندوق والدائنين بشأنه، إلى دفعها مباشرة إلى التخلف عن تسديد الديون، وهو ما يعني استحقاق جميع الدفعات المتبقية من الديون، ووضعها في موقف معقد للغاية.
وفي الختام، ووفق ما أعلن من اللقاءات المتتالية بين ممثلي صندوق النقد الدولي والحكومة، فإن الأخيرة طلبت رسمياً المساعدة الفنية في وضع خطة لتخطي الأزمة، وهو ما يعتبر توجهاً للدخول في مفاوضات مع الصندوق والدائنين، لتنفيذ الخيار الثالث المتعلق بإعادة الجدولة أو إعادة الهيكلة.
ومن الضروري التأكيد على أن لبنان -ومن خلال دخولها في تلك المفاوضات- سيكون بمقدورها الحصول على العديد من أشكال الدعم، وعلى رأسها المساعدة الفنية في مواجهة الأزمة، وخاصة بشأن تحديد السياسات المالية والنقدية واجبة التطبيق في هذه الحالة، بجانب تمكنها -عبر الاستعانة بالصندوق- من إقناع الدائنين بجدولة وإعادة هيكلة الديون.
لكن الأزمة الاقتصادية الحقيقية في لبنان تحتاج أكثر من ذلك، والخروج منها يستوجب وفق العديد من التقديرات حصول لبنان على حزمة إنقاذ مالي تتراوح قيمتها بين 20 مليار دولار و25 مليار دولار، بما في ذلك دعم الصندوق، وهى قيمة كبيرة للغاية ليس من السهل تأمينها في الأمد المنظور.
كما أنه بجانب تلك الحزمة المالية، فإن لبنان مطالبة بإعادة النظر في الكثير من السياسات الاقتصادية المعمول بها لديها منذ عقود، ولاسيما فيما يتعلق بهيكل الاقتصاد وميزان المدفوعات. وهناك أيضاً حاجة ماسة لحصولها على دعم، مالي أو عيني، من الدول الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، وهذا مهم للغاية، فهناك حاجة ماسة للبنان لاستقطاب الاستثمار الأجنبي بأحجام تمكنها من تنفيذ المشروعات الكبرى الضرورية، بما في ذلك المشروعات المتعلقة باستغلال نصيبها من موارد الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.