يحاول النظام السوري استغلال التطورات السياسية والميدانية التي طرأت على الساحة السورية في الفترة الأخيرة من أجل تعزيز موقعه وقدرته على توسيع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها، على نحو دفعه، في 30 أكتوبر الجاري، إلى دعوة ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) للانضمام إليه من أجل مواجهة التدخل العسكري التركي، وذلك بعد أن انتشرت بعض قوات النظام في مناطق حدودية بشمال سوريا. لكن اللافت هو أن هذه الخطوة الأخيرة التي جاءت وفق تفاهمات توصلت إليها الميليشيا الكردية مع النظام، لم تمنعها من رفض دعوة الانخراط في صفوف قواته، على نحو يوحي بأنها ترى أن ذلك يتعارض مع حساباتها ورؤيتها للمعطيات الجديدة التي تفرضها مجمل تلك التطورات على الأرض.
ضغوط متواصلة:
توازت الدعوة الأخيرة التي وجهها النظام للأكراد مع تطورين مهمين: الأول، هو انعقاد أولى جلسات اللجنة الدستورية في جنيف برعاية الأمم المتحدة، في اليوم نفسه، والتي تضم 150 شخصاً تم تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام بواقع 50 للنظام و50 لقوى المعارضة و50 للمجتمع المدني. وقد كان هناك إصرار من البداية على استبعاد مشاركة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية، بناءً على ضغوط مارستها تركيا في إطار التفاهمات التي توصلت إليها مع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، لاسيما روسيا وإيران عبر مسار الآستانة.
ومن هنا، اعتبرت "قسد" أنها غير معنية بالاستحقاقات السياسية التي يمكن أن تفرضها النتائج التي ربما تتوصل إليه اللجنة في النهاية، باعتبار أنه تم استبعادها من البداية، رغم أنها تمثل رقماً مهماً في ظل الدور الذي قامت به في إطار الحرب ضد تنظيم "داعش"، والذي أشار إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنفسه خلال إعلانه عن مقتل زعيم التنظيم أبوبكر البغدادي في 27 أكتوبر الجاري.
والثاني، هو انسحاب الأكراد من المناطق المتاخمة للحدود مع تركيا بعمق 30 كيلو متر، وفقاً لما يقتضيه اتفاق سوتشي الذي توصلت إليه كل من روسيا وتركيا في 22 أكتوبر الحالي، على نحو أشارت اتجاهات عديدة إلى أنه يمثل هزيمة للأكراد في مواجهة الضغوط التي تفرضها التفاهمات التي تتوصل إليها تركيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية.
أهداف عديدة:
من دون شك، فإن النظام يسعى عبر ذلك إلى تحقيق أهداف عديدة: يتمثل أولها، في دعم موقعه السياسي والتفاوضي في مواجهة قوى المعارضة التي تدعمها تركيا، بالتوازي مع انعقاد أول جلسة للجنة الدستورية في جنيف. ورغم أن انعقاد هذه الجلسة يعزز من مسار الحل السياسي، إلا أن ذلك لا ينفي أن اللجنة سوف تواجه عقبات لا تبدو هينة في ضوء اتساع نطاق الخلافات بين الأطراف المشاركة فيها: النظام والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني، على نحو دفع اتجاهات عديدة إلى التحذير من رفع سقف التوقعات الخاصة بما يمكن أن تنتهي إليه من نتائج. وهنا، فإن النظام يرى أن الاحتمالات كلها ما زالت واردة، بما فيها العودة إلى التصعيد الميداني، على نحو دفعه إلى الحفاظ على قنوات التواصل التي تم فتحها مع الأكراد في الفترة الماضية.
وينصرف ثانيها، إلى توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمام النظام حتى فيما يتعلق بالتعاطي مع التحركات العسكرية التركية في الشمال. إذ لا تستبعد اتجاهات عديدة أن يتجه النظام إلى عدم إغلاق قنوات التواصل مع تركيا بعد أن وصلت قواته إلى مناطق كانت تسيطر عليها الميليشيا الكردية قبل ذلك، على نحو يمكن أن يعزز من قدرته على ممارسة أكبر قدر من الضغوط على قوى المعارضة التي تدعمها أنقرة، وهو ما يمكن أن يسثتمره أيضاً في اجتماعات اللجنة الدستورية.
وقد كان لافتاً أن تركيا نفسها أشارت إلى أن "هناك اتصالات على مستويات المخابرات مع النظام، فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب"، حسب تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو الذي اعتبر أن ذلك "طبيعي".
ويتعلق ثالثها، بتعزيز قدرة النظام على السيطرة الميدانية على أكبر مساحة من الأراضي، بعد أن تراجع نفوذ ونشاط قوى المعارضة والتنظيمات الإرهابية والمسلحة في الفترة الماضية.
اتجاه مضاد:
سارع الأكراد إلى رفض العرض السوري، وهو ما لا يمكن فصله عن المعطيات الجديدة التي فرضتها التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة. إذ أن انضمام الميليشيا الكردية إلى النظام سوف يؤدي إلى تصعيد حدة التوتر في علاقاتها مع القوى الدولية المعنية بالأزمة السورية. ورغم الانتقادات التي وجهها الأكراد للسياسة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بسحب القوات الأمريكية الموجودة في شمال سوريا، في 7 أكتوبر الجاري، إلا أن ذلك لن يدفعهم إلى اتخاذ تلك الخطوة التي يمكن أن تؤدي إلى إيقاف الدعم الدولي الذي يحصلون عليه بمقتضى الدور الذي قاموا به في إطار الحرب ضد "داعش".
فضلاً عن أن هذه الخطوة في حالة اتخاذها لن تضمن حصول الأكراد على أية مكاسب سياسية في المستقبل، خاصة أن معظم القوى التي تعبر عنهم مستبعدة من اللجنة الدستورية التي تمثل خطوة أولى تمهد لخطوات أخرى تهدف إلى الوصول لحل سياسي للأزمة، على نحو سيؤدي في النهاية إلى إقصاءهم من مجمل الترتيبات السياسية التي يجري العمل على صياغتها في الفترة الحالية.
ومن هنا، فإن الأكراد سوف يسعون إلى الحفاظ على مجمل القنوات مفتوحة للتعامل مع التطورات الجديدة، بما فيها استمرار التنسيق مع النظام في الشمال، وذلك حتى تتبلور معطيات جديدة يمكن معها تحديد أنسب الخيارات التي يمكن أن يتجهون إلى تبنيها في المرحلة القادمة.