السيدة النبيلة وشعبها السمح

26 March 2019


منذ سنوات عديدة حدثني أحد أقربائي عن رغبته في الهجرة إلى نيوزيلندا، ولما أبديت دهشتي تحدث عنها كبلد مسالم آمن يفتح ذراعيه للجميع. وعندما وقعت الجريمة الإرهابية النكراء فيها تذكرت تلك الواقعة بعد أن رأيت النهج المتحضر الذي تعاملت به رئيسة الوزراء النيوزيلندية وشعبها السمح مع تداعيات الجريمة. لم أكن قد سمعت أصلاً بجاسيندا أرديرن لكني لمست -كما العالم بأسره- مدى إنسانيتها الصافية وحزمها الواضح ورؤيتها الثاقبة في كل ما يتعلق بالأزمة التي ترتبت على ذلك الفعل الإجرامي؛ فكان تعاطفها الصادق والفوري مع الضحايا وأسرهم، كما بدا من اجتماعها برموز المجتمع المسلم النيوزيلندي ومواساتها المباشرة لهم واحترامها تقاليدهم بارتداء الحجاب في كل تحركاتها بخصوص الأزمة. وكان تحركها السريع لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بعدم تكرار الجريمة، بدءاً بالتحقيق فيما إذا كان ثمة تقصير قد حدث في توقع الهجوم، ومروراً بتعزيز الحراسة على دور العبادة، وانتهاءً باتخاذ ما يلزم من خطوات لتشديد الضوابط على حيازة الأسلحة بحظر بيع البنادق الهجومية والأسلحة نصف الآلية وجمع ما هو موجود منها مع تعويض أصحابها. ثم كان افتتاح جلسة البرلمان بآيات قرآنية واستهلال أرديرن كلمتها بتحية الإسلام، ثم جاء الحدث الأكبر في صلاة الجمعة الماضية، حيث حضرت رئيسة الوزراء الصلاة في مسجد النور الذي شهد الجزء الأبشع من الجريمة. وفي إجراء استثنائي تم رفع الأذان وإذاعته في مختلف أنحاء البلاد، بينما احتشد الآلاف من غير المسلمين في الحديقة المواجهة للمسجد، وعقب رفع الأذان وقف الجميع دقيقتي صمت كما نُظمت تجمعات مماثلة في مدن نيوزيلندية عديدة.

وتعكس هذه المواقف النبيلة رؤية إنسانية صافية، فهي ترفض أن تكون الكراهية عنواناً لبلدها، وتستخدم تعبيرات جميلة مثل «نحن واحد»، وتستشهد بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام «مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».

وامتداداً لرؤيتها الإنسانية رفضت فكرة «أن فتح الباب أمام من اختار نيوزيلندا بلداً له، تسبب في تنامى هذه الأفكار المتطرفة»، وكيفت ما حدث كعمل عنيف ارتكبه شخص تشبع بهذه الأفكار في مكان آخر: «فإذا أردنا العيش في عالم آمن ومتسامح للجميع لا ينبغي أن ننظر للأمر من منطلق الحدود». والحقيقة أن أرديرن في مواقفها السابقة كانت خير تعبير عن المجتمع النيوزيلندي السمح الذي احتضن بمسيحييه ويهوده وسكانه الأصليين ووسائل إعلامه، مسلمي البلاد، ولم تكن اللفتات الإنسانية المتمثلة في ارتداء الحجاب تعبيراً عن التعاطف والاحترام، مقتصرة على رئيسة الوزراء وإنما أصبحت ظاهرة عامة، ولم يكن تحلق النيوزيلنديين حول مواطنيهم المسلمين في صلاة الجمعة الأخيرة مقتصراً على مسجد النور، بل امتد إلى مسجد العاصمة حيث تجّمعت الحشود من غير المسلمين لتشكيل سلسلة بشرية بدعوة من الكنيسة لحماية إخوانهم المسلمين أثناء أدائهم صلاة الجمعة. وشاركت الحشود من غير المسلمين في تشييع جثامين الضحايا. وقد حدث كل هذا التعاطف الإنساني مع جالية لا تزيد نسبتها عن 1?‏ إلا قليلاً، بما يؤكد الطابع الإنساني وليس السياسي لما حدث. فلا يمثل المسلمون قوة تصويتية أو مالية يُطلب رضاها لاعتبارات سياسية، ولهذا كله كان رد فعل مسلمي نيوزيلندا جميلاً، فخطب إمام مسجد النور قائلاً إن نيوزيلندا عصية على الانقسام والتفكك، بسبب ما أظهرته من حب وتعاطف، وشكر رئيسة الوزراء على احتضانها المسلمين وتكريمهم، معتبراً أنها ضربت مثلاً يُحتذى لزعماء العالم. وقال رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية النيوزيلندية: «إن مَن ينشرون الكراهية فشلوا بشكل يُرثى له، لأنهم زادوا من حبنا بلدنا في مقابل هذا الفيض الهائل من الحب الذي رأيناه».

وبقدر بشاعة الجريمة، تولدت ردود فعلٍ سامية اكتشفنا من خلالها رموزاً للتسامح الإنساني جسدتها هذه السيدة النبيلة وشعبها السمح، وإني لأتمنى أن تُكرمها حكومة دولة الإمارات رائدة «عام التسامح»، وكذلك الأزهر الشريف الذي حَمّل إمامه وزيرةَ الهجرة المصرية شكرَه للسلطات النيوزيلندية، وأحسب أن هذه السيدة هي الأحق بجائزة نوبل للسلام.

*نقلا عن صحيفة الاتحاد