اكتسبت تفاعلات إقليم الشرق الأوسط اهتمامًا خاصًا من جانب الدول الإسكندنافية الثلاث (النرويج والسويد والدانمارك)، على نحو لافت، خلال الأعوام الماضية، وهو ما تجسد في مؤشرات دالة مثل إنشاء معاهد الحوار والتعاون، وتخصيص برامج للشراكة الدانماركية العربية، وافتتاح مراكز لدراسات الشرق الأوسط داخل إحدى الجامعات السويدية، واستضافة جولة جديدة من حوارات أطراف الصراع اليمني، وتوجيه مخصصات مالية لدعم الانتخابات المحلية المستقبلية الليبية، ودعم المنظمات غير الحكومية الهادفة لمساعدة الفئات السكانية المتأثرة بالصراعات مثل النازحين داخليًا واللاجئين عبر توفير الاندماج المحلي أو إعادة التوطين، وزيادة المُحفِّزات المالية للاجئين الذين يغادرون البلاد والعودة إلى أوطانهم. وثمة تفسيرات عديدة لهذا الاهتمام الإسكندنافي بالإقليم منها ضبط تدفقات اللاجئين ومنع هجمات الإرهاب واحتواء خطر التطرف ومواجهة التهديد الإيراني.
سياسة الحياد:
تتمثل الصورة الانطباعية عن الدول الإسكندنافية في أدبيات العلاقات الدولية في أنها دول ديمقراطية سلمية تتبنى سياسة الحياد وتتجنب الانخراط في الصراعات في مناطق مختلفة من العالم، لا سيما أنها دول ليست ذات تاريخ استعماري بما لا يجعلها منشغلة بمزاحمة الدول الأوروبية الكبرى، فضلاً عن اهتمامها بالبناء الداخلي، الأمر الذي جعلها تتصدر التقارير الدولية المرتبطة باقتصاديات السعادة والأمان والسلم. غير أن العقود الثلاثة الماضية شهدت تغيرًا في مساحات اهتمام هذه الدول خارج حدودها الوطنية وفي مناطق بعيدة جغرافيًا عنها مثل دول الشرق الأوسط.
ومن ثم، لم يكن اهتمام الدول الإسكندنافية بالأوضاع في الإقليم جديدًا، وإن كان محدودًا، حيث اقتصر على التبادل التجاري والتدفق الاستثماري والمشاركة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، خاصة في ظل حرص الأمم المتحدة على ضرورة أن تكون عناصر القوات الدولية من دول لا تتماس بشكل مباشر أو غير مباشر بأطراف الصراعات الدولية ومنها نزاعات الشرق الأوسط، وهو ما جعلها مشاركة في بعثات حفظ السلام في مناطق مثل جنوب لبنان ودارفور.
دبلوماسية صامتة:
ارتبط أحد مداخل الدول الإسكندنافية إلى الإقليم بدورها في الصراع العربي- الإسرائيلي، على نحو ما تجسد في استضافة السويد حوارات بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل والولايات المتحدة، والتي مهدت لمؤتمر مدريد في نهاية أكتوبر 1991، ثم قادت إلى مفاوضات أوسلو في عام 1993. فضلاً عن تدشين ما يعرف بـ"إعلان كوبنهاجن"، الذي يضم مجموعة من المثقفين والدبلوماسيين السابقين والأكاديميين من مصر والأردن والأراضي الفلسطينية وإسرائيل، يجرون حوارات، على نحو ما حدث في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، للقيام بدور ملموس في عملية السلام في الشرق الأوسط.
وكان واضحًا أن هذه الدول ليست لها مصالح استراتيجية في المنطقة أو نفوذ تمارسه على القوى الإقليمية، إذ اعتمدت على رصيد الثقة من الأطراف المختلفة فيها، لا سيما مع تقديم مبادرات ووساطات عديدة تعكس إدراكها لمركزية الصراع العربي- الإسرائيلي في قضايا المنطقة. ويأتي ذلك في الوقت الذي لم يقابل هذا الدور بتحفظ أو اعتراض من جانب واشنطن. غير أن هذا الدعم الإسكندنافي تغير فيما بعد نتيجة صعود أحزاب اليمين المتطرف في الحكم.
خطر الآخر:
أدت أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى تصاعد اهتمام الدول الإسكندنافية بأوضاع دول الإقليم، خاصة في ظل وجود جاليات عربية وإسلامية بها، وهو ما دفع حكومات هذه الدول إلى المبادرة بإنشاء معاهد للحوار والتعاون في عدد من العواصم العربية لعل أهمها المعهد السويدي بالإسكندرية (قبل إغلاقه في سبتمبر 2018) والمعهد الدانماركي- المصري للحوار بالقاهرة في إطار الحوار بين الثقافات والحضارات، وكذلك برنامج الشراكة الدانماركية- العربية (DAPP) لبناء علاقات شراكة في مجال الديمقراطية والتنمية الاقتصادية وكذلك تعزيز فرص الشباب والنساء في سوق العمل، بالتركيز على أربع دول (مصر وتونس والمغرب والأردن).
وقد هدفت هذه المعاهد وتلك البرامج إلى الاقتراب من شعوب الإقليم والبحث في كيفية إجراء إصلاحات مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بما يقلص المشكلة الديموجرافية التي تعتبر الرافد الرئيسي لتدفقات الهجرة إلى أوروبا، والتي لم تعد الدول الإسكندنافية بمنأى عنها.
انخراط نشط:
فرضت مرحلة ما بعد الحراك الثوري عام 2011، والذي تحول، في بعض الحالات، إلى صراع مسلح داخل عدد من الدول، ضرورة انخراط الدول الإسكندنافية في تفاعلات الإقليم، بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة، وخاصة في بؤر الصراعات المسلحة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، في 31 أكتوبر الماضي، تعيين الدبلوماسي النرويجي غيربيدرسون في منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا خلفًا لستيفان دي ميستورا، والذي سبق أن شغل مناصب دبلوماسية بارزة، منها السفير النرويجي لدى الصين عام 2017، ومندوب النرويج الدائم لدى الأمم المتحدة خلال الفترة (2012-2017).
كما عين بيدرسون المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان (2007-2008) والمبعوث الشخصي للأمين العام إلى جنوب لبنان (2005-2007). وعمل كذلك مديرًا لقسم شئون آسيا والمحيط الهادي بدائرة الشئون السياسية للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن هذا التعيين يمثل بعدًا شخصيًا للسفير النرويجي، إلا أنه يعد هدفًا مركزيًا واهتمامًا عامًا لدولة إسكندنافية تسعى إلى المساهمة في تقليص تداعيات الأزمة.
2- إيفاد المبعوث الخاص للسويد إلى اليمن بيتر سيمباي، ومسئول قسم الخليج في وزارة الخارجية السويدية هانس غراند بيرغ للقاء رئيس الحكومة اليمنية معين عبدالملك، في 6 نوفمبر 2018، حيث يرجح أن تكون زيارة المبعوث السويدي إلى عدن مرتبطة بالجهود التي تبذلها استوكهولم من أجل الترتيب للمشاورات اليمنية المقبلة بين الحكومة الشرعية وميلشيا الحوثيين، والتي كانت قد أعلنت عن استعدادها لاستضافتها في فترة سابقة.
3- مساهمة الحكومة الدانماركية بمبلغ 6,54 مليون كرونة (حوالي مليون يورو) لدعم الانتخابات المحلية المستقبلية في ليبيا ومشاركة الشعب الليبي فيها، وهو ما تم الإعلان عنه في 4 أكتوبر 2018، عبر زيادة قدرة اللجنة المركزية الليبية للانتخابات البلدية على دعم نشاطات تثقيف وتوعية الناخبين، وتسجيلهم، وتعزيز مشاركة المرأة والأشخاص ذوي الإعاقة في العملية الانتخابية.
وقد انعكست رؤية الدانمارك لتطورات الصراع في ليبيا في تصريحات وزير الخارجية أندرس سامويلسن التي قال فيها: "لقد تسبب النزاع طويل الأمد في ليبيا في إصابة النظام الأمني للبلاد بهشاشة كبرى، والجماعات الإرهابية مثل داعش مازالت موجودة في ليبيا. لذلك، نحن بحاجة إلى تثبيت الموقف وخلق بيئة آمنة للسكان المحليين.. كما أن البلاد أصبحت أيضًا نقطة عبور للمهاجرين في رحلتهم إلى أوروبا"، وأضاف: "إن السلام الدائم في ليبيا يمكن أن يكون ممكنًا فقط إذا تم التوصل إلى حل سياسي وإنشاء مؤسسات شرعية، وهو توجه تكتسب فيه الانتخابات المحلية وفق مصالح أبنائها أهمية كبرى".
وقد جاء تنفيذ هذه المساهمة بالتنسيق مع وكالة التنمية الحكومية الأمريكية USAID والمؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية IFES وهى منظمة لديها العديد من سنوات الخبرة في مساعدة الدول ذات الديمقراطيات الناشئة، حيث وقعت اتفاقية برعاية كبير مستشاري التنمية بالوكالة الأمريكية في ليبيا كلنتون وايت والقائمة بأعمال السفارة ناتالي بيكر والمبعوث الخاص لوزارة الخارجية الدانماركية إلى منطقة الساحل والمغرب العربي وليبيا السفيرة ميتي ثيجيسين.
كما رصدت الحكومة الدانماركية في عام 2017 مبلغ 10 مليون كرونة (حوالي مليون ونصف مليون يورو) للمساعدة في استقرار المناطق المتضررة من النزاعات ولدعم الحكومة المعترف بها دوليًا (حكومة فايز السراج) بخلاف مساهمتها في الجهود الإنسانية وصندوق التمويل الأوروبي المخصص لإفريقيا. ولعل الاهتمام الدانماركي بالأزمة الليبية تعكسه جلسة المحادثات بين وزيري خارجية إيطاليا والدانمارك في 7 نوفمبر الجاري في إطار الاستعداد للأعمال التحضيرية لمؤتمر باليرمو في جنوب إيطاليا في 12 و13 نوفمبر 2018.
4- إعلان الحكومة الدانماركية، في 17 مايو 2018، عن سحب ثلث قواتها الخاصة من العراق (60 فردًا)، لأن معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم "داعش" تم تحريرها. ووفقًا لبيان صادر عن وزارة الدفاع، فإن الانسحاب التدريجي سينتهي في أواخر الخريف، ويظل لدى الدانمارك نحو 180 عسكريًا في قاعدة الأسد الجوية في محافظة الأنبار، يساهمون في المراقبة وخدمة صيانة الرادارات كجزء من التحالف الدولي لمحاربة "داعش" بقيادة الولايات المتحدة، حيث انضمت القوات الخاصة الدانماركية لقوات التحالف منذ أغسطس 2016، وقامت بتدريب القوات العراقية وتقديم الاستشارات والمعلومات الاستخباراتية إلى جانب الدعم الجوي في مناطق الحدود السورية- العراقية.
ويمكن القول إن ثمة أهدافًا محددة للدول الإسكندنافية من انخراطها في بؤر الصراعات بالإقليم تتمثل في:
خطر العائدين:
1- تنامي النزعات الراديكالية داخل أراضيها: على خلفية توجه عدد من مواطني هذه الدول لبؤر الصراعات، وخاصة في سوريا والعراق، فضلاً عن التخوف من تسلل العناصر الإرهابية في صفوف اللاجئين الوافدين إليها بعد اكتساب خبرات قتالية، وهو ما فرض عليها اتخاذ إجراءات أمنية في المناطق التي تتشكل فيها مجتمعات موازية، فضلاً عن تفعيل المنظومة القانونية لمواجهة المواطنين من بؤر الصراعات وساحات القتال. وفي هذا السياق، تستند أجهزة الأمن النرويجية إلى القانون رقم 147، الخاص بمكافحة الإرهاب، والذي يقضي بـ"السجن ست سنوات لكل من يقوم بتأسيس أو تكوين أو المشاركة أو تجنيد أعضاء أو تقديم الدعم المالي أو الدعم اللوجيستي لمنظمة إرهابية تقوم بأعمال غير قانونية".
إرهاب جوال:
2- مواجهة التنظيمات الإرهابية الخطرة: يمثل الإرهاب أحد التهديدات المتصاعدة لأمن الدول الإسكندنافية، وهو ما يفسر انخراط الدانمارك في التحالف الدولي لمحاربة "داعش". وتجدر الإشارة إلى إعلان رئيس الوزراء الدانماركي لارس لوكي راسموسن، في 26 يناير 2017، عن أن بلاده سترسل فرقاطة بيتر فيليموس إلى البحر المتوسط لإشراكها في عمليات التحالف الدولي ضد "داعش"، مضيفًا: "نحقق الانتصار على إحدى المنظمات الإرهابية الأكثر قسوة ووحشية في تاريخ العالم". وقامت الفرقاطة الدانماركية بمرافقة حاملة الطائرات "جورج بوش" التابعة للبحرية الأمريكية في مياه المتوسط والخليج العربي خلال الفترة ما بين فبراير ومايو 2017.
بناء السلام:
3- التسوية السياسية للصراعات المسلحة: تشير التحركات التي تقوم بها الدول الإسكندنافية إلى تهيئة الأجواء للتحول من أتون الصراع إلى مسار السلام، بما يعالج مسببات التهديدات التي تواجهها وفي مقدمتها الهجرة غير النظامية وتدفقات اللاجئين والإرهاب العابر للحدود. وعلى الرغم من اعتبار بعض الدول مثل الدانمارك أن بشار الأسد مجرم حرب إلا أنها ترى أن الإصرار على إخراجه من السلطة قبل الوصول إلى تسوية سيؤدي إلى إطالة الصراع في سوريا، وهو ما لا يصب في صالح الأطراف الداعية للاستقرار وإعادة الإعمار.
تهديد طهران:
4- التصدي لمخاطر التهديدات الإيرانية: أعلنت الحكومة الدانماركية، في 30 أكتوبر الماضي، إحباط عملية اغتيال خططت لها الاستخبارات الإيرانية لاستهداف معارضين من الأحواز داخل البلاد، وأبرزهم رئيس حركة النضال العربي لتحرير الأحواز حبيب جبر. وفي هذا السياق، تسعى حكومة الدانمارك إلى الحصول على دعم شركائها الأوروبيين لفرض عقوبات على طهران. فعلى الرغم من تمسك كوبنهاجن بالدفاع عن الاتفاق النووي الإيراني، إلا أنها لا تتغاضى عن قضايا أخرى مثل برنامج إيران الباليستي والتدخل في النزاعات الإقليمية.
خلاصة القول، إن المخاطر والتهديدات الأمنية التي تواجه دول الشرق الأوسط صارت تلقي بتأثيراتها على الدول الإسكندنافية، رغم البعد الجغرافي النسبي عنها، لكنها الجغرافيا المتحركة التي تجعل الشرق الأوسط يأتي إلى الدول في حالة تجاهلها التحذيرات التي تحتم الإنصات والانخراط مع ما يحدث فيه.