شهدت محافظة البصرة العراقية الغنية بالنفط احتجاجات عنيفة في بداية شهر سبتمبر الجاري بسبب تردي أوضاع الخدمات كالمياه والكهرباء بجانب قلة فرص العمل، واتجه المحتجون لحرق منشآت حكومية ومقار حزبية ودبلوماسية، كما هددوا باقتحام المنشآت النفطية، وهذا ما أثار المخاوف الدولية من إمكانية تعطل إنتاج النفط. وبجانب الاحتجاجات الشعبية، يواجه قطاع النفط العراقي تهديدات أمنية من مصادر أخرى، مثل: الميليشيات الشيعية، وتنظيم داعش، والعشائر المختلفة. كل هذا يضع أمام الحكومة العراقية تحديات أمنية واقتصادية وسياسية ينبغي عليها احتواؤها للحفاظ على استقرار إنتاج النفط في وقت تحتاج فيه لأموال كبيرة لتحسين الأوضاع الاقتصادية.
اتجاهات التعافي:
في السنوات العشر الأخيرة، تمكن العراق من رفع مستويات إنتاج النفط الخام إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 4.5 ملايين برميل يوميًّا في عام 2017 بعد أن كانت أكثر قليلًا من 2 مليون برميل يوميًّا في عام 2007، وجاءت هذه الزيادة بعد أن اتجهت الحكومة العراقية لإعادة إعمار وتأهيل المنشآت النفطية بجنوب وشمال البلاد التي تضررت بسبب الفوضى الأمنية في البلاد في أعقاب التدخل الأمريكي بالعراق عام 2003.
وبالتوازي مع ذلك، زاد العراق من صادراته للأسواق الدولية تدريجيًّا لتصل نحو 3.5 ملايين برميل يوميًّا وهو ما يبلغ ضعفي متوسط معدلات تصديره في تسعينيات القرن الماضي. وبمزيدٍ من الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد، قد تُحقق الحكومة العراقية هدفها وفق ما أعلنته في الأشهر الماضية بزيادة مستوى إنتاجها إلى 6.5 ملايين برميل يوميًّا، أي أكثر بـ2 مليون برميل عن المستوى الحالي، بيد أن ذلك يتطلب بلا شك ضخ استثمارات بمليارات الدولارات.
ولبلوغ الهدف السابق، تضع وزراة النفط العراقية على أولوية أجندتها الاستثمارية في الأجل القريب تطوير تسعة حقول نفطية في محافظات البصرة وميسان والمثنى وواسط وديالى في جنوب ووسط العراق وكذلك في مياه العراق الإقليمية، وعلى الأرجح سيكون لشركات النفط الأجنبية الدور الأكبر في تطويرها. كما تخطط أيضًا لزيادة الطاقة التكريرية للنفط الخام، والبالغة حاليًّا نحو 919 ألف برميل يوميًّا، عبر بناء عدد من المصافي النفطية في الفاو والناصرية والقيارة وكركوك والأنبار.
Source: BP Statistical Review of World Energy 2018
أما بالنسبة للغاز الطبيعي، فتعمل وزارة النفط العراقية على استغلال الموارد الوفيرة منه، والمصاحبة في العادة لحقول النفط، وذلك عبر معالجته بدلًا من حرقه ومن ثم إمكانية تحويله لتشغيل محطات الكهرباء العراقية، علمًا بأنه حاليًّا لا يتم الاستفادة إلا بحوالي 45% من الإنتاج السنوي (10.4 مليارات متر مكعب) فيما يتم حرق الكميات المتبقية. وعلى جانب آخر، تعتزم وزراة النفط العراقية أيضًا تطوير بعض الحقول الغازية بالأساس، ولعل أبرزها حقل السيبة والمنصورية بالتعاون مع الشركات الأجنبية. وعلى الرغم من أهمية الخطوات السابقة في تطوير موارد الغاز، فإن الأمر يتطلب جهودًا إضافية لتأمين بنية تحتية قادرة على تخزين الغاز وتسييله وخطوط أنابيب لنقله لمحطات الكهرباء.
تهديدات متصاعدة:
يواجه قطاع النفط والغاز العراقي بالآونة الأخيرة تهديدات أمنية قد تعرقل أنشطة التنقيب والإنتاج عن النفط والغاز في الأجل المنظور، فيما يلي أبرزها:
1- الاحتجاجات الشعبية: لم تهدأ وتيرة الاحتجاجات التي شهدتها المحافظات العراقية منذ شهر يوليو الماضي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والخدمية في البلاد، بل زادت حدتها منذ الأسبوع الأول بشهر سبتمبر الجاري عندما أقدم المحتجون في محافظة البصرة العراقية على اقتحام وحرق منشآت الحكومية ومقار حزبية وأخرى دبلوماسية، كما هددوا أيضًا باقتحام المنشآت النفطية للمحافظة الغنية بالنفط والتي تنتج أكثر من ثلثي إنتاج العراق من النفط من حقول عديدة (الرميلة، والمجنون، وغرب القرنة)، ويأتي هذا في الوقت الذي لم تتوصل فيه التيارات السياسية العراقية لتوافق حول تشكيل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في مايو الماضي.
وبالفعل، تجمهر المحتجون عند مداخل بعض الحقول النفطية على غرار حقل نهر بن عمر النفطي الذي يبلغ إنتاجه حاليًّا 44 ألف برميل يوميًّا، كما قاموا باحتجاز موظفين عراقيين لساعات قلية في منشأة لمعالجة المياه تابعة لحقل غرب "القرنة 2" النفطي الذي تديره شركة "لوك أويل" الروسية، وهذا ما زاد من تخوفات الأسواق العالمية بشأن ضعف الإمدادات النفطية من المحافظة نتيجة تعطل الإنتاج أو غلق ميناء البصرة (منفذ تصدير النفط الوحيد بالعراق)، خاصة مع تسبب المحتجين في غضون الأسبوعين الماضيين في إغلاق ميناء أم قصر الخاص بتداول شحنات الأغذية وغيرها من المنتجات.
2- نفوذ الميليشيات الشيعية: علاوة على ما سبق، يطرح تصاعد نفوذ الميليشيات الشيعية في المشهد السياسي والأمني العراقي، وأبرزها الحشد الشعبي، خاصة مع الدور الجوهري الذي ساهم به في هزيمة تنظيم داعش، تهديدًا محتملًا لصناعة النفط العراقية. فعلى الرغم من أن ميليشيات الحشد الشعبي تحمل طابعًا رسميًّا تحت اسم "هيئة الحشد الشعبي" وتتبع القوات المسلحة العراقية، إلا أن ما يحركها من الناحية الواقعية هو مصالحها الخاصة أو الإملاءات الخارجية خاصة من قبل إيران وفق بعض الترجيحات.
وأحد المؤشرات المفسرة لذلك الاتهامات التي وُجهت مؤخرًا للحشد الشعبي من قبل بعض أعضاء البرلمان العراقي بتهريب النفط من المحافظات الشمالية العراقية بعد السيطرة على حقول النفط هناك، والحصول في المقابل على عوائد مالية كبيرة. في الوقت نفسه، أثيرت بعض المخاوف من أن قوات الحشد الشعبي أو الميليشيات الشعبية بشكل عام قد تلجأ لاستخدام العنف أو التهديد به ضد شركات النفط لابتزازها والضغط عليها لجني أموال، هذا في الوقت الذي قد تتصارع فيه الميليشيات الشيعية لتعظيم نفوذها ومصالحها الاقتصادية.
3- الخلافات العشائرية: تمثل الاشتباكات العشائرية تهديدًا بين حين وآخر لإنتاج النفط في العراق، وذلك على غرار ما حدث في سبتمبر 2017 عندما شهدت المناطق المحيطة بحقلي النفط غرب القرنة ومجنون بمحافظة البصرة اشتباكات كثيفة بين العشائر بالأسلحة الثقيلة والخفيفة، وهو ما تسبب وقتها في التأثير على أعمال الشركات الأجنبية وفق ما أكدته حينها شركة نفط البصرة، وسبق وأن شهد العراق حوادث مماثلة كان أبرزها في عامي 2014 و2015 عندما شهدت شركة بتروتشاينا الصينية وشركات من جنسيات أخرى العاملة في محافظة ميسان تهديدات مختلفة من قبل عشائر مختلفة في المنطقة بسبب تأخر سداد التعويضات عن الأراضي التي أصبحت ضمن موقع الاستكشاف علاوة على تباطؤ الشركات في تنفيذ تعهداتها بتوظيف الأهالي.
4- التهديدات الداعشية: لا يزال تنظيم داعش يمثل خطرًا أساسيًّا على صناعة النفط العراقية، لا سيما في المحافظات الشمالية مثل كركوك وصلاح الدين والأنبار على الرغم من هزيمته بشكل نهائي من قبل القوات العراقية في أواخر العام الماضي. وقد اتجهت عناصر التنظيم للهروب لصحراء المحافظات الشمالية لتتخذها نقطة انطلاق لمهاجمة المنشآت النفطية عبر تكتيكات أخرى، مثل استخدام العبوات الناسفة، وهذا ما يكشفه تفجير خط أنابيب نقل النفط الخام في محافظة كركوك في 9 سبتمبر الجاري بواسطة عبوتين ناسفتين من قبل التنظيم. وربما التمركز الجديد لداعش في صحراء الأنباء وغيرها من المناطق بجانب وجود خلايا تابعة له في شمال العراق يعطي مساحة له لمهاجمة مزيد من منشآت النفط بشمال العراق في الفترة المقبلة.
آفاق مستقبلية:
يدرك جميع الأطراف العراقية -شعبًا وحكومة- أن العراق يمر بأوضاع اقتصادية صعبة تتطلب الحفاظ على مستويات إنتاج النفط الحالية لتوفير احتياجاته التمويلية لتحسين الخدمات، وإعادة إعمار المدن العراقية المتضررة بسبب الحرب ضد تنظيم داعش. وبناء عليه، هناك مسئولية مشتركة بين الطرفين للحفاظ على استقرار قطاع النفط والغاز الطبيعي.
ولكن في حقيقة الأمر، تتحمل الحكومة العراقية الدور الأكبر في هذا الصدد، حيث ينبغي عليها أن تبذل جهودًا أكبر لتحسين الخدمات من مياه وكهرباء وتوفير فرص عمل وذلك من خلال جلب الدعم الدولي لهذا الاتجاه، بجانب تجفيف منابع الفساد العام لتجنب الغضب الشعبي، وإن لم تنجح في التعامل مع هذه التحديات الصعبة في الفترة المقبلة، فهذا قد يتسبب في اتساع حدة الاحتجاجات الشعبية مجددًا بما قد يدفع المحتجين لعرقلة أعمال شركات النفط، ويهدد بتقويض خطط الحكومة لجذب استثمارات جديدة.
ويبقى الأمل الأخير في نجاح التيارات السياسية العراقية، والمدعومة من الميليشيات الشيعية، في الفترة المقبلة في تشكيل حكومة عراقية توافقية تعمل على تكريس المصالح الوطنية، وذلك في وقت يعلم فيه الجميع أنه لا يمكن لأي طرف أن يستأثر بمكاسب سياسية واقتصادية وحده دون الآخر.