بدأت القوات التركية في شن هجمات على مواقع انتشار عناصر حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، بعد استعدادات عسكرية للجيش التركي استغرقت ثلاثة أشهر منذ مارس 2018 في مناطق المثلث الحدودي مع العراق وإيران. وبحسب المعطيات الميدانية الأولية، يبدو أن تركيا بصدد شن عملية واسعة لن تقتصر على النطاق المعلن عنه في جبال قنديل وسنجار. ووفقًا لأحدث التصريحات الرسمية للقادة العسكريين والسياسيين الأتراك، فإن العملية ستمتد في العمق العراقي لتصل إلى منطقة مخمور على تخوم الموصل بدعوى استهداف الدعم اللوجستى للأكراد، وهو ما يوحي بأن ثمة أهدافًا سياسية أخرى للعملية العسكرية الحالية.
وقد ادعت أنقرة أن كلاً من طهران وبغداد وافقتا على تلك التحركات في مواجهة الأكراد، إلا أن المواقف السياسية المعلنة لكليهما كشفت عن توجهات معارضة لهذه الخطوات على النحو الذى بدا جليًا أيضًا خلال التوغل التركي في بعشيقة في عام 2015، لكنهما لم تتخذا إجراءات دفاعية فى المقابل باستثناء تحرك عراقي يبدو أقرب إلى ترتيبات انتشار لا تتعارض مع التحركات التركية.
أهداف مختلفة:
تكشف الاستعدادات العسكرية التركية، إلى جانب التصريحات الخاصة بالعملية، أن تركيا بصدد إقامة طويلة الأمد فى المنطقة، لا سيما بعد تأسيس أربعة قواعد عسكرية ثابتة، منها قاعدة مركزية فى جبال "بالكايا" على ارتفاع 2400 متر في شمدينلي التابعة لولاية هكاري جنوب شرقى تركيا، وثلاث قواعد في العمق العراقي فى جبل "كتكين".
وقد أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن منطقة مخمور (جنوب الموصل)، ضمن قائمة الأهداف المحتملة لهجمات القوات التركية، حيث وصف مخيم مخمور بأنه "بات مفرخة للإرهابيين" في إشارة إلى أنه يمد قواعد حزب العمال الكردستاني بالعناصر الداعمة له في القتال ضد القوات التركية، مستندًا إلى أن الحكومة العراقية لم تقم بما يلزم لوقف التسلل إلى العمق التركي فيما يتعلق بسنجار وقنديل، وأن الأمم المتحدة على الجانب الآخر تتحمل المسئولية عن مخمور.
وتسعى تركيا إلى تحقيق أهداف عديدة من العملية العسكرية الحالية يمكن تناولها على النحو التالي:
1- وقف التسلل الكردي: يركز الإعلان الرسمي للعملية على أن الهدف الوحيد من التحرك التركي هو استهداف مواقع انتشار عناصر حزب العمال الكردستاني، حيث قال أردوغان في هذا السياق: "هدفنا هو تجفيف أكبر مستنقع للإرهاب في جبال قنديل التي تعد تهديدًا ضد تركيا وشعبها".
2- عرقلة الاتصال الكردي: تحاول تركيا عبر ذلك كسر قنوات التواصل بين المراكز الكردية فى تركيا وسوريا وإيران والعراق، بشكل يمكن أن يساهم في تقويض المشروع المحتمل لإقامة دولة كردية فى تلك المناطق على المدى الطويل، خاصة وأن التطورات الأمنية التى شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة خاصة فى العراق وسوريا عززت طموح الأكراد تجاه هذا المشروع.
3- تدمير البنية العسكرية للأكراد: تشير التحركات الأولية للجيش التركي فى جبال قنديل إلى استهداف 12 موقعًا مركزيًا من بينها مقر القيادة الكردية لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، كما كشفت تقارير عديدة أن القوات التركية استهدفت بنية تحتية مدنية أيضًا فى شمال أربيل مثل الجسور والقناطر الخاصة بوديان قنديل ومئات المنازل والمزارع، بدعوى وجود مقرات لعناصر الحزب على مقربة منها، في منطقة تبدأ من محافظة دهوك وتنتهي في المثلث العراقي– التركي– الإيراني.
4- إقامة محاور دعم لوجستية: خاصة في المنطقة التي تمتد من الحدود إلى دهوك وأربيل وباتجاه التقاطع مع حدود الموصل لمواصلة التنسيق مع قوى تتبنى توجهات معارضة للتمدد الكردي، وتشير بعض التقارير إلى محاولات مستمرة من جانب أنقرة للوصول إلى نقاط اتصال مع قبائل عربية على غرار ما جرى فى مناطق غرب سوريا.
مواقف متعددة:
على خلاف المواقف السابقة من التدخل التركي في العراق في مناطق مثل بعشيقة عام 2015، الذي اعتبر بمثابة احتلال لأراضٍ عراقية، لم توجه كل من بغداد وطهران انتقادات حادة للعملية الحالية فى المناطق الكردية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء محاولات الدولتين الاستفادة من المواجهة الحالية في إضعاف موقع الأكراد، خاصة في ظل الخلافات التي نشبت بين تلك الأطراف، في مرحلة ما بعد إجراء الاستفتاء الكردي للانفصال عن العراق في سبتمبر 2017.
وعلى الصعيد العراقي، تم نشر قوات مشتركة عراقية– أمريكية محدودة في إطار تأمين مناطق الأيزيدين فى سنجار، وهى الخطوة التى واكبها إخلاء عناصر حزب العمال مواقعها في سنجار بدعوى تجنيبهم مسار المعركة، لكن إجمالاً يبدو من كافة هذه التحركات أن ثمة ترتيبات غير معلنة بشأن إعادة هيكلة الأوضاع الأمنية فى تلك المنطقة. وفى هذا الصدد تحديدًا يمكن الإشارة إلى أن المسئولين الأتراك يكررون عبارة "نموذج عفرين" كثيرًا خلال الهجوم على المواقع الكردية، في حين أن الهدف فى النهاية هو تكرار "نموذج منبج" الذي قد يحقق مصالح أغلب الأطراف باستثناء الأكراد بالطبع.
لكن في المقابل أيضًا، يبدو أن الحكومة العراقية لا تتفق مع مساعي توسع العملية التركية خارج نطاقها المفترض باتجاه العمق العراقي، وهو ما تؤكد الخطوة الوقائية التى اتخذتها باتجاه تحريك قوة عسكرية مشتركة إلى سنجار فى إطار ترتيبات أخرى، إلا أن الأتراك، على ما يبدو، لم يهتموا بتلك الاعتبارات مستغلين توقيت الانتخابات العراقية التى انشغلت فيها كافة الأطراف بما فيها الحكومة العراقية.
أما على الصعيد الإيراني، فلا يبدو أن الموقف مختلف كثيرًا، إذ قد تحاول إيران توظيف الحملة لتقليص مستوى تهديد التمدد الكردي فى العراق والذى سيكون له تداعيات ربما مباشرة على إيران من خلال حزب الحياة الحرة لكردستان، وإن كان بدرجة أقل، حيث لم تمنح إيران أولوية لدعوة وجهها وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي للتنسيق فى هذا الصدد.
فى النهاية، لا يبدو أن التوغل التركي في العراق يثير قلقًا واضحًا من جانب القوى المعنية به، لا سيما إيران والعراق، خاصة أنه يقتصر، حتى الآن، على مواجهة حزب العمال الكردستاني. ووفقًا للتطورات الراهنة، فإن العملية العسكرية الحالية تجري بالتنسيق مع الولايات المتحدة، على غرار ما حدث في منبج السورية، بما يمكن القول معه أن ترتيبات أمن الحدود العراقية- التركية، والتي تتوافق مع مساعي أنقرة لتقويض المشروع الكردي تبدو قيد التحقق. لكن ذلك لا ينفي أن الأطراف الأخرى تبدي حذرًا تجاه المسارات المحتملة لتلك العملية، خاصة في حالة ما إذا اتجهت أنقرة إلى توسيع نطاق أهدافها، بما يمكن أن يدفع الأولى إلى اتخاذ خطوات مقابلة لعرقلة التحركات العسكرية التركية.