تشير نتائج الانتخابات العراقية إلى عدة مفاجآت، أهمها حلول قائمة تحالف "سائرون" التي يدعمها رجل الدين الشيعي "مقتدى الصدر" في المرتبة الأولى في أغلب محافظات العراق، تليها قائمة "الفتح المبين" التابعة للقيادي في الحشد الشعبي "هادي العامري" المرتبط بإيران، ثم قائمة "النصر" التابعة لرئيس الوزراء "حيدر العبادي"، ثم قائمة "دولة القانون" بزعامة رئيس الوزراء السابق "نوري المالكي"، وبعد ذلك ائتلاف الوطنية بزعامة "إياد علاوي".
دلالات أولية:
تحمل النتائج التي أعلنتها المفوضية العليا للانتخابات في العراق عدة دلالات، لعل أهمها ما يلي:
1. إظهار التيار الصدري قوة شعبيته المتجذرة: حافظ التيار الصدري على الموقع الأول حتى الآن في الانتخابات على المستوى العراقي العام، وعلى المستوى الشيعي كذلك. وقد حصد التيار الصدري هذه النتيجة غير المتوقعة على الإطلاق رغم الإرباك والاضطراب اللذين أصابا هذا التيار خلال الفترة الأخيرة، لا سيما إعلان زعيمه الروحي "مقتدى الصدر" التحالف مع الشيوعيين والعلمانيين. وتعكس هذه النتيجة تجذر التيار الصدري في البيئة الشعبية العراقية. ويُشار في هذا الإطار إلى أن التيار الصدري كان قد حصل خلال الانتخابات التشريعية السابقة في عام 2014 على المركز الثاني بعد ائتلاف دولة القانون.
2. عجز "العبادي" عن حصد ثمار نجاحاته الداخلية: رجحت أغلب التوقعات قبيل الانتخابات أن تتصدر قائمة "النصر" التي يتزعمها "حيدر العبادي" نتائج الانتخابات بفارق معقول عن أقرب منافسيها، وذلك نظرًا للنجاحات التي حققها "العبادي" في ورقة الحرب على إرهاب "داعش"، وتعامله الناجح مع محاولة الأكراد للانفصال. وبالرغم من ذلك تؤشر النتائج الأولية حتى الآن إلى تراجعه إلى المرتبة الثالثة، وتفوق قائمة الحشد الشعبي عليه. وتتمثل أقرب التفسيرات لإخفاق "العبادي" في انفتاح قائمته على كلٍّ من الكتلتين السنية والشيعية، وهو أمر ربما يكون قد أغضب جزءًا كبيرًا من الشارع الشيعي وربما دفعه للتصويت ضده.
3. تراجع ائتلاف "دولة القانون" بصورة لافتة: رغم أن ائتلاف "دولة القانون" كان في طليعة الكيانات السياسية الفائزة في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت عامي 2010 و2014، حيث تقدم على سبيل المثال في انتخابات 2014 بفارق 50 مقعدًا عن أقرب منافسيه؛ إلا أنه تراجع بصورة لافتة في انتخابات 2018، ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى الانقسام الذي حصل داخل حزب "الدعوة" بين تياري "المالكي" و"العبادي"، وشبهات الفساد التي لا تزال تلاحق "المالكي".
ويُشار في هذا الإطار إلى أن "المالكي" كان قد أبدى خشيته من تعرض نتائج الانتخابات "للقرصنة" بعد استخدام الأجهزة الإلكترونية لأول مرة في الاقتراع، كما قام ائتلاف "دولة القانون" بالطعن في نتائج الانتخابات البرلمانية أمام المفوضية العليا للانتخابات، وهي أمور تعكس حنق الائتلاف من مجيء نتائج الانتخابات على غير هواه.
4. تقدم التيار الديني المرتبط بإيران: يُعتبر أهم ملامح التغيير السياسي الحالي في العراق بعد الانتخابات الأخيرة هو تقدم التيار الديني المرتبط بإيران نسبيًّا، ومن الواضح أن التصعيد الأمريكي الأخير بشأن الاتفاق النووي خدم القوائم الأكثر ارتباطًا بإيران في الانتخابات التشريعية العراقية، ولم يصب هذا الأمر في صالح قائمة رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" المعتدل.
5. استمرار تراجع التيار العلماني: كشفت النتائج الأولية عن تواصل انهيار شعبية الكتلة العلمانية التي يقودها "إياد علاوي"، حيث جاء ائتلاف "الوطنية" التابع له في المراتب الأخيرة. ويُشار في هذا الإطار إلى إعلان "علاوي" يوم 13 مايو الجاري رفضه نتائج الانتخابات، ومطالبته بإلغائها، وتشكيل حكومة لتصريف الأعمال.
6. هشاشة الائتلافات المتنافسة في العملية الانتخابية: تعتبر أغلب الائتلافات المشاركة في العملية الانتخابية هشة بدرجة كبيرة، وذلك نظرًا إلى أن أغلب الأحزاب والكيانات المكوِّنة لتلك الائتلافات كانت تستهدف بالدرجة الأولى تأمين دخولها العملية الانتخابية؛ إلا أن تباين وجهات نظر هذه الأحزاب والكيانات فيما بينها بخصوص عدد من القضايا الداخلية أو التعامل مع دول الجوار أو الكتل السياسية الأخرى يرجح احتمال انهيار هذه التكتلات عند توزيع المناصب الرئيسية، سواء في الحكومة أو مؤسسات النظام السياسي المختلفة.
7. توقع تأخر تشكيل الحكومة الجديدة: في ضوء هذه النتائج وتوزع المقاعد، من الصعب على الكيانات السياسية تشكيل حكومة عراقية جديدة بسرعة، خاصة وأن حلول ائتلاف "سائرون" في المركز الأول يجعل "العبادي" أقل حظًّا لتشكيل الحكومة الجديدة، وستكون هناك حاجة لتأمين تحالفات تقودها كتلة "سائرون" مع كتل أخرى للوصول إلى أغلبية 165 مقعدًا للاتفاق على رئيس وزراء جديد للبلاد.
ويُشار في هذا الإطار إلى أن تشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات عام 2010 استغرق تسعة أشهر من المفاوضات، وكان ائتلاف "القائمة العراقية" بزعامة "إياد علاوي" هو الكتلة الأكبر بـ91 مقعدًا، ورغم ذلك نجح "نوري المالكي" حينها في قيادة مفاوضات ناجحة مع الكتل الأخرى مما مكّنه من الحصول على منصب رئيس الحكومة. كما استغرق تشكيل الحكومة بعد انتخابات عام 2014 ثلاثة أشهر من المفاوضات، وكان ائتلاف دولة القانون هو الكتلة الأكبر بـ93 مقعدًا، ورغم ذلك فشل "المالكي" وقتها في إقناع الكتل الأخرى بتمريره لولاية ثالثة.
ظواهر مجتمعية:
كشفت الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق عن مجموعة من الظواهر المجتمعية، والتي يمكن رصد أهمها على النحو التالي:
1. تواصل هيمنة الفكر الطائفي: لا يزال العمل الطائفي مؤثرًا كما كان في الانتخابات السابقة، فالتكتلات الرئيسية في العملية الانتخابية الأخيرة قامت على الاصطفاف الطائفي الشيعي بالدرجة الأولى، وذلك على الرغم من تأكيدات كبار قياداتها سواء قبل العملية الانتخابية أو بعدها على وجود نوايا للدخول في ائتلاف موسع لتحقيق أغلبية شيعية تمتلك المزيد من الفرص لتشكيل حكومة. كما يُشار في هذا الإطار إلى الاشتباكات الطائفية التي وقعت بين أنصار ائتلافي "النصر" التابع للعبادي و"سائرون" التابع للصدر في مدينة النجف يوم إجراء الانتخابات على خلفية الاتهامات المتبادلة بحدوث تزوير، وكذلك الجدل الحالي بشأن نتيجة الانتخابات في محافظة كركوك.
2. استمرار تشرذم المجتمع العراقي: كرست نتيجة الانتخابات من فكرة التعددية في جميع الطوائف والمذاهب والأعراق المكونة للمجتمع العراقي، إذ لم يستطع أي فصيل أو كيان سياسي احتكار التمثيل أو الحصول على أكثر من 50 %من أصوات الناخبين، وهو ما يعني اختلاف وتشرذم القناعات الشعبية العراقية بين أجندات مختلفة.
3. ظهور فكرة العقاب الشعبي للقادة للسياسين: كشف تراجع نسب المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وعزوف قطاع كبير من الشعب العراقي عن الإدلاء بأصواتهم، عن وعيه بأن بإمكانه معاقبة النخب والزعماء السياسيين على استمرار فشلهم السياسي والاقتصادي من خلال فكرة المقاطعة. ويُشار في هذا الإطار إلى أن نسبة المشاركة بحسب المفوضية العليا للانتخابات بلغت حوالي 44.5%، وهي أقل نسبة حدثت مقارنة بالانتخابات التشريعية الثلاثة التي تمت بعد سقوط نظام صدام حسين.
4. تراجع نسبي لدور المرجعيات الدينية: كان من الملاحظ حدوث تراجع نسبي لدور المرجعيات الدينية الذي غلب في انتخابات سابقة خاصة انتخابات 2005 و2010، وهو ما هيأ الأرضية للصراع الطائفي الحاد الذي استشرى من قبل، وكان مقدمة لظهور إرهاب تنظيم "داعش". ويُشار في هذا الإطار إلى أن دور المرجعية العليا اقتصر على الدعوة التي أطلقها المرشد الشيعي الأعلى في العراق "علي السيستاني" في 4 مايو الجاري بعدم إعادة انتخاب "الفاشلين والفاسدين ممن تسلموا مناصب عليا سابقًا".
رحلة التوافق:
على الرغم من حصول ائتلاف "سائرون" التابع لمقتدى الصدر على الكتلة الأكبر داخل البرلمان القادم، إلا أنه من غير المتوقع أن يتمكن هذا الائتلاف من تأمين أغلبية مباشرة تتيح له بسهولة الحصول على منصب رئاسة الوزراء، وهو أمر سيفرض على "مقتدى الصدر" بالتبعية الدخول في مفاوضات صعبة للبحث عن تحالفات مع الائتلافات الأخرى لتحقيق هذا الهدف.
وتعد الإيجابية الأبرز التي لا تصب في صالح طهران هو حلول قائمة "الصدر" المعتدل شيعيًّا في المرتبة الأولى، وهو أمر قد يقف حائط صد ضد المسعى الإيراني لامتلاك أدوات سياسية لها في العراق عبر وكلائها في الحكومة والبرلمان. وإن كان نجاح ذلك الأمر لا يزال يحتاج إلى صياغة تحالفات مع كيانات شيعية وسنية وكردية مدنية معتدلة تؤمن بالبعد القومي والعروبي بصورة أكثر وضوحًا.
ومن المتوقع في هذا الإطار أن يستغرق تشكيل الحكومة المقبلة عدة أشهر بعد أن يتم التوصل إلى اتفاق شامل لتوزيع مناصب رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان مثلما حدث في عامي 2010 و2014.
وسيؤدي تقارب النتائج لكافة الكتل وعدم قدرة أي كتلة على تأمين أغلبية تمكنها من تشكيل الحكومة إلى تعقد الموقف السياسي، ويحصر خيارات تشكيل الحكومة بالشراكة التي أثبتت عدم نجاحها في الدورات الماضية.
ويُعد الفشل النسبي للقوائم العلمانية مثل فشل ائتلاف "الوطنية" بزعامة "إياد علاوي" مؤشرًا على احتمال تجدد التوترات بين السنة والشيعة، وعودة العنف الطائفي إلى معدلات عالية حتى بعد هزيمة تنظيم "داعش".
وبرغم تراجع دور المرجعية الدينية خلال عملية إجراء الانتخابات الأخيرة، إلا أنه من المتوقع أن تطرح المرجعية العليا رأيها بوضوح في أعقاب إعلان نتائج تلك الانتخابات في المرشحين لمنصب رئيس وزراء العراق، وذلك على غرار ما حدث من قبل مع "نوري المالكي" و"حيدر العبادي".