لم تتراجع الدوافع التي دعت إسرائيل إلى توجيه ضربات جوية لمواقع متعددة على الساحة السورية، في 10 فبراير 2018، عقب إسقاط دفاعات جوية في سوريا لمقاتلة "F-16" إسرائيلية اخترقت الأجواء في اليوم التالي لإعلان تل أبيب إسقاط طائرة من دون طيار إيرانية في مجالها الجوى. فوفقًا لتصريحات رسمية وتقديرات عسكرية إسرائيلية، فإن المواجهة القادمة باتت مجرد "مسألة وقت". ورغم أن المواقف الرسمية الإسرائيلية تؤكد على عدم تغير قواعد الاشتباك، إلا أن مستويات رسمية أخرى أشارت إلى أن حدود الاشتباك ترسمها أربعة "خطوط حمراء".
وفى المقابل، فإن استثمار المحور الثلاثي الذي تقوده إيران ويضم النظام السوري وحزب لله للحادث باعتبار أنه أدى إلى إنهاء التفوق الجوي الإسرائيلي رغم تداعياته المكلفة على البنى العسكرية داخل سوريا، يعني أن الجولة الماضية كانت مجرد اختبار لحدود القوة وردود الفعل بين هذه الأطراف.
رؤى متعددة:
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عقب اجتماع الحكومة المصغرة في 10 فبراير، أن قواعد الاشتباك من جانب إسرائيل في سوريا لم تتغير، لكن المواقف والتقديرات العسكرية الإسرائيلية ربما تسير فى اتجاه مخالف لذلك، وفقًا لمؤشرين هما:
1- تزايد الدعوات لمواجهة تهديدات الوجود الإيراني: وهو ما سعى بعض المسئولين إلى التركيز عليه عقب وقوع الحادث الأخير. ففي حوار مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، قال وزير الاستخبارات يسرائيل كاتز أن "تل أبيب بشنها ضربات ضد مواقع إيرانية رئيسية في سوريا وجهت رسالة واضحة إلى إيران بأنها لن تتسامح مع أى وجود عسكري إيراني بالقرب من حدودها"، مشيرًا إلى أن ثمة "خطوطًا حمراء" أربعة لن تسمح إسرائيل بتجاوزها في سوريا تتمثل في تحويل أسلحة متطورة من إيران إلى سوريا ولبنان، واختراق السيادة الإسرائيلية، ومحاولات إنشاء قواعد عسكرية إيرانية في سوريا، وبناء مصنع محلي لتصنيع الصواريخ في لبنان.
فيما أكد حاغاى تسوريل مدير الاستخبارات أنه "على إسرائيل أن تتعامل مع إيران باعتبار أنها انتقلت إلى حدودها وأنها باتت تشكل خطرًا وجوديًا عليها".
2- تغير نمط وطبيعة أهداف الاشتباك المسبق: لم يكن التدخل العسكري الإسرائيلي السابق في سوريا على المستوى نفسه من كثافة الضربات، على نحو ما كان متبعًا في التعامل مع التحركات التي يقوم بها حزب الله لنقل الأسلحة، خاصة الصواريخ، إلى المخازن التابعة له منذ اندلاع الصراع في سوريا. وقد كان عام 2017 هو أكثر الأعوام التي شهدت تدخلات عسكرية إسرائيلية في سوريا، إذ أشارت تقديرات عديدة إلى أن إسرائيل قامت بشن خمس ضربات عسكرية كان آخرها في ديسمبر من العام نفسه، حيث استهدفت منطقة الكسوة في جبل المناع. وبتحليل أهداف هذه الضربات يتضح أن الاستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل لم تتضمن "الخط الأحمر" الثاني الذي حدده كاتز وهو "اختراق السيادة"، والذي تحول، بعد الحادث الأخير، إلى متغير جديد فى اختبار القوة بين الطرفين.
اختبار الثقة:
ترى معظم التقديرات الإسرائيلية أن إقدام إيران على اتخاذ قرار باستخدام الدفاعات السورية جاء بدافع الثقة التي اكتسبها المحور الذي تقوده وبات يرى أنه حقق أهدافًا عديدة على الساحة السورية خلال الفترة الأخيرة، بشكل دفع إسرائيل، وفقًا له، إلى رفع مستوى تدخلها العسكري على الجبهة السورية على نحو غير مسبوق منذ عام 1982.
وانطلاقًا من ذلك، سعى هذا المحور إلى توظيف الضربة الأخيرة في الاتجاه ذاته، باعتبار أن إسرائيل فقدت بإسقاط مقاتلتها تفوقها الجوي، طبقًا له، رغم أن رد الفعل الإسرائيلي، وفقًا لتقديرات أخرى، دمر تقريبًا نحو 50% من الدفاعات السورية، وهو ما يمثل تكلفة كبيرة، ربما تتضاعف في حالة ما إذا اتضحت حقيقة استهداف الضربات الإسرائيلية لمراكز القيادة والسيطرة.
خيارات روسيا:
مثّل التعامل مع تنامي القوة الإيرانية في سوريا محورًا رئيسيًا في الزيارة الأخيرة التي قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى روسيا، حيث حاولت تل أبيب التركيز على المخاطر التي يفرضها ذلك على أمنها. ومع ذلك، فإن ثمة اتجاهات إسرائيلية ترى أن روسيا لا تزال لديها نفوذ على إيران يمكن أن تستخدمه للحد من ذلك في حالة ما إذا كانت لديها رغبة حقيقية في تقييد النفوذ الإيراني. ويبدو أن الرؤى التي تتبناها تلك الاتجاهات باتت تكتسب اهتمامًا خاصًا داخل إسرائيل، بشكل انعكس في تأكيد نتنياهو على أن "إسرائيل لن تنتظر تدخل موسكو أو واشنطن للتعامل مع تهديدات قادمة من سوريا".
ورغم أن روسيا كانت هى الطرف الذي تمكن من إيقاف المواجهة الأخيرة، لكن ثمة مؤشرات عديدة تكشف أن حسابات الحلفاء فى سوريا تتغير وأن هناك ملفات مشتركة وأخرى لم تعد محل اتفاق، وربما يتسع نطاقها في مرحلة لاحقة.
تداعيات محتملة:
ربما تتجه إسرائيل نحو توسيع حدود الانخراط في الصراع السوري، وهو ما عبرت عنه القيادات العسكرية والأمنية، التي أشارت إلى أن إسرائيل قد تجد نفسها، قريبًا، طرفًا مباشرًا في الصراع الذي بدا أنه يدخل مرحلة جديدة عقب هزيمة تنظيم "داعش"، وذلك بعدما ظلت لسبع سنوات تنأى بنفسها عن التدخل في الحرب السورية بشكل واسع.
أما بالنسبة للمحور الثلاثي، فربما يمكن القول إنه ليس هناك دوافع واضحة لتغيير قواعد الانخراط في الصراع، وفقًا للموقف الذي تبناه حزب الله عقب إسقاط المقاتلة الإسرائيلية. لكن ذلك لا ينفي أن الحزب وحلفائه باتوا معنيين بزيادة القدرات العسكرية في سوريا ولبنان، وهو ما تسعى إسرائيل إلى عرقلته، بشكل يزيد من احتمالات تكرار مثل تلك المواجهات خلال المرحلة القادمة.
وقد تتجه إيران والنظام السوري وحزب الله، فضلًا عن الميليشيات الموالية لها، إلى تكوين محور جديد يستثني روسيا ويكون معنيًا في المقام الأول بالمواجهة المحتملة مع إسرائيل وفق حسابات جديدة لا تنفصل عن التصعيد المحتمل بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في ظل السياسة الجديدة التي تبنتها إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه إيران تحديدًا.
ومن دون شك، فإن الحادث الأخير سوف يدفع روسيا بدورها إلى إعادة حسابات انتشارها الميداني على الأقل، خاصة في ظل المؤشرات التي تعزز من احتمال اتجاه إسرائيل والمحور الذي تقوده إيران إلى تجديد المواجهة مرة أخرى خلال المرحلة القادمة، بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضتها تطورات الصراع في سوريا.
وعلى مستوى البنية العسكرية السورية، وحسب ما تم إعلانه، فقد تم تدمير 12 هدفًا 4 منها إيرانية و8 سورية. ورغم أهمية الأهداف التي تعرضت للضربات، إلا أنها، طبقًا لاتجاهات عديدة، قد لا تمثل عائقًا كبيرًا للنظام فيما يتعلق بحسابات الاشتباك الخارجي، لا سيما في حالة ما إذا قرر تكرار استهداف طائرات إسرائيلية تقوم باختراق المجال الجوي السوري، لكن ربما لا يقدم على خطوة من هذا النوع إلا فى حالة اتخاذ قرار بخوض حرب مفتوحة ومكلفة، وهو احتمال يواجه عقبات عديدة على الأقل في المرحلة الحالية.
ويبدو أن المواقع الإيرانية التي تم استهدافها متحركة، بما يزيد من احتمال اتجاه طهران نحو رفع مستوى قدراتها مرة أخرى، تحسبًا لأى تصعيد جديد خلال الفترة القادمة.
وفي النهاية، يمكن القول إن قواعد الاشتباك بين إسرائيل والمحور الثلاثي في سوريا قد تغيرت. ومع ذلك، فإن نقطة انطلاق المواجهة مجددًا سترتبط بهوية الطرف الذي سيبدأ باختراق القواعد المحددة، ومدى اقترابه من "الخطوط الحمراء" التي حددها كل طرف خلال المرحلة الماضية، وهو ما يمثل متغيرًا سوف يكون له دور بارز في تحديد المسارات المحتملة لانخراط تلك الأطراف في الصراع السوري.