تبذل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جهودًا حثيثة من أجل الكشف عن السلبيات المتعددة التي يتضمنها الاتفاق النووي مع إيران الذي رُفِعت بمقتضاه العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها في منتصف يناير 2016، وذلك بهدف إلقاء الضوء على الانتهاكات المستمرة من جانب الأخيرة، وإثبات أن تأكيدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية المستمرة على التزامها به تواجه إشكاليات عديدة لا تبدو هينة.
كما تسعى واشنطن من خلال ذلك إلى توجيه رسالة قوية للدول الأوروبية بأن تعويلها على استمرار العمل بالاتفاق النووي مع إيران يمكن أن يفرض تهديدات لمصالحها بشكل مباشر، بسبب إمعان إيران في استغلاله لمواصلة عمليات غسيل الأموال ودعم الإرهاب وتهريب الأسلحة إلى الميليشيات الإرهابية الموجودة في دول الأزمات من خلال التحايل على بعض القوانين الأوروبية.
عقوبات جديدة:
وعلى ضوء ذلك، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، في 20 نوفمبر الجاري، فرض عقوبات جديدة على أربعة شركات وشخصين بتهمة انتهاك قيود أوروبية في التصدير وشراء معدات يتم استخدامها في طباعة وتزوير عملات يمنية تقدر بمئات ملايين الدولارات لصالح العمليات التي يقوم بها "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري.
هذه الخطوة الجديدة التي اتخذتها وزارة الخزانة الأمريكية تسعى من خلالها واشنطن إلى تحقيق هدفين: يتمثل أولهما، في توجيه رسالة لإيران مفادها أن الولايات المتحدة تتجه نحو تفعيل الاستراتيجية الجديدة التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب في 13 أكتوبر 2017، لمواجهة تهديداتها التي لم تعد تنحصر في الاتفاق النووي فقط، وإنما باتت تمتد إلى تدخلاتها في الشئون الداخلية لدول المنطقة ودعمها للإرهاب وانخراطها في عمليات لغسيل الأموال بالتعاون مع الميليشيات الحليفة لها، وعلى رأسها حزب الله، الذي تعرض بدوره إلى عقوبات من جانب الكونجرس الأمريكي في 25 من الشهر نفسه، استهدفت تعزيز الجهود المبذولة لتجفيف مصادر تمويل عملياته الخارجية.
وبعبارة أخرى، فإن واشنطن حاولت من خلال تلك الرسالة ممارسة ضغوط قوية على طهران وتأكيد إصرارها على مواجهة أذرعها العسكرية في المنطقة، التي ساهم دورها في تفاقم الأزمات الإقليمية في كل من سوريا ولبنان واليمن والعراق، خاصة مع إدانتها المستمرة لمشاركة حزب الله في الصراع السوري وتهديدات المتمردين الحوثيين لدول الجوار بإيعاز من إيران.
وينصرف ثانيهما، إلى تعزيز الجهود التي تبذلها من أجل إقناع الدول الأوروبية بأن إصرارها على الانخراط في صفقات اقتصادية كبيرة مع إيران تعويلاً على استمرار التزام الأخيرة بالبنود الفنية التي يتضمنها الاتفاق النووي، على غرار تخفيض مستويات تخصيب اليورانيوم، سوف يوجه رسالة خاطئة في النهاية إلى إيران قد تدفعها إلى الإمعان في مواصلة سياستها الحالية التي أدت إلى إفراغ الاتفاق النووي من مضمونه باعتبار أن الهدف الأساسي الذي حاولت القوى الدولية تحقيقه من الاتفاق هو استثماره لدعم الاستقرار في المنطقة، وهو ما لم يتحقق في النهاية بسبب تدخل إيران في الأزمات الإقليمية في المنطقة وعرقلتها للمساعي التي بذلت من أجل الوصول إلى تسويات لها.
وبعبارة أخرى، فإن واشنطن حاولت عبر تلك الخطوة تأكيد أنه لا يمكن الاعتماد على انخراط إيران في التزامات دولية، في ظل مواصلتها الالتفاف على تلك الاتفاقات، بدليل سعيها إلى إنشاء شركات في أوروبا كواجهات للحرس الثوري من أجل تمويل عملياته الخارجية ودعم قدرتها على مواصلة تقديم مساعدات للتنظيمات الإرهابية التي تخدم أهداف إيران في المنطقة، خاصة في اليمن ولبنان وسوريا والعراق.
وقد انعكس ذلك في تصريحات وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين التي قال فيها: "هذا المخطط يكشف المستوى العميق للخداع لدى الحرس الثوري واستعداده لتوظيفه ضد شركات في أوروبا وحكومات في الخليج وباقي العالم من أجل دعم نشاطه في تعزيز عدم الاستقرار"، مضيفًا: "التزوير يضرب بقوة في قلب النظام المالي العالمي، وتورط عناصر حكومية إيرانية في هذا السلوك أمر غير مقبول".
مخاوف متزايدة:
ويبدو أن واشنطن باتت تدرك أن بعض الدول الأوروبية بدأت في الاقتناع بالمبررات التي استندت إليها الأولى لوضع استراتيجيتها الجديدة، على غرار فرنسا، لا سيما في ظل إصرار إيران على عدم الالتزام حرفيًا بالاتفاق النووي، ومواصلة البحث عن ثغرات قانونية فيه، وتأكيد أن ملف الصواريخ الباليستية لا يدخل ضمن نطاقه، بدليل إجراء مزيد من التجارب الخاصة بتلك الصواريخ في الفترة الماضية بل وتهريب بعضها إلى الحوثيين الذين استخدموها في استهداف العاصمة السعودية الرياض في 4 نوفمبر الجاري.
وقد كان لافتًا أن منسقة الشئون الخارجية بالاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني أشارت، في 9 نوفمبر 2017، إلى وجود مخاوف أوروبية من سياسات إيران في المنطقة وبرنامج الصواريخ الباليستية.
أهمية هذه التصريحات تكمن في اعتبارين: أولهما، أنها تؤشر إلى أن ثمة اتجاهًا جديدًا داخل الاتحاد الأوروبي لم يعد يركز فقط على تهيئة المجال أمام مواصلة العمل بالاتفاق النووي ودفع إيران إلى استمرار الالتزام به، وهو ما كان محور خلاف واضحًا مع إدارة ترامب تحديدًا، وإنما بات يرى أن هذه السياسة ساهمت، ضمن عوامل أخرى، في دفع إيران إلى التحرك من أجل دعم تمددها في المنطقة باستخدام نفوذها لدى التنظيمات الإرهابية المختلفة، على غرار حزب الله وحركة الحوثيين.
وقد سبق أن أكدت موغيريني نفسها أن إيران ملتزمة بالاتفاق، وسعت إلى ممارسة ضغوط على إدارة ترامب من أجل عدم الانسحاب منه أو اتخاذ خطوات قد تعرقل استمرار العمل به أو منح الفرصة للمحافظين المتشددين داخل إيران من أجل تجميده.
وثانيهما، أنها جاءت في أعقاب تفاقم التهديدات الإيرانية لدول المنطقة، خاصة بعد استهداف الرياض بصاروخ باليستي تم إطلاقه من اليمن، واندلاع الأزمة اللبنانية التي تسببت فيها سياسات حزب الله، وتعمد المسئولين الإيرانيين توجيه انتقادات قوية للخطوات التي تتخذها الدول العربية من أجل الدفاع عن أمنها واستقرارها في مواجهة تلك التهديدات.
وعلى ضوء ذلك، ربما يمكن القول في النهاية إن استمرار الولايات المتحدة في اتخاذ خطوات مماثلة سوف يساهم في وضع إيران أمام خيارات صعبة، ويفرض وجاهة خاصة على المواقف الدولية التي ترى أنه لا يمكن الوثوق في التزام إيران بأية اتفاقات، وفي مقدمتها الاتفاق النووي، الذي يبدو أنه مقبل على مرحلة جديدة مفتوحة على مسارات مختلفة، سوف تتحدد ملامحها مع القرار الذي سوف يتخذه الكونجرس الأمريكي قبل منتصف ديسمبر القادم تجاهه، والذي سيتضح بناءً عليه ما إذا كان سيتم إعادة فرض عقوبات اقتصادية سبق أن تم رفعها عن إيران بمقتضى الاتفاق أم لا، وهو ما سوف يحدد بعد ذلك قرار إيران الأخير فيما يتعلق بالاستمرار في الاتفاق أو الانسحاب منه والعودة من جديد إلى تنشيط برنامجها النووي.