لن يستطيع الرئيس دونالد ترامب إحداث تغيير في طبيعة الاتفاق النووي مع إيران. وهو في الوقت ذاته، يسعى إلى خلق وهم حول مدى عظمة القوة الأميركية وتأثيرها في عهده المأزوم. هذا الرئيس يبدو قوياً، لكنه في الحقيقة من أضعف رؤساء الولايات المتحدة، قوته مستمدة من تصريحاته ولفظيته، والحقيقة مناقضة لكل ما يعلنه. الموقف الأميركي الذي يمثله الرئيس ترامب من إيران في هذه اللحظة ليس مرتبطاً بتمددها في الإقليم العربي، فأميركا لن تخوض عن العرب معاركهم، بخاصة أنها الدولة التي ساهمت بتمدد إيران من خلال حرب ٢٠٠٣. وتمدد إيران الإقليمي لا يزعج الرئيس ترامب بل يساعده على أكثر من مستوى وذلك من خلال استغلال مخاوف العرب من أجل تحقيق مكاسب سياسية ومالية وصفقات سلاح. إن ما يغضب ترامب من إيران مرتبط بمقدرتها على تغيير جانب من التوازن الصاروخي مع إسرائيل. هذه الإدارة ليست مهتمه بالسلام ولا بالحلول السياسية بمقدار ما هي مهتمه ببيع السلاح وتقوية إسرائيل وخلق جدران جديدة ممتدة بين الولايات المتحدة وشعوب المنطقة الإسلامية وشعوب العالم الثالث. هذه علامات ضعف وإن صح التعبير علامات مشروع هيمنة لم يعد يعرف بأي اتجاه سيسير. فترامب يهاجم إيران، لكنه يغض النظر عن التصرفات العدائية لروسيا وعن الصعود الصيني، وكلماته في مواجهة إيران لفظية، تماماً كتلك التي أطلقها ضد كوريا الشمالية.
قامت القوة الأميركية تاريخياً على قيم مهمة لا تشبه الكثير مما يقوم به الرئيس ترامب، لكنها قامت في الوقت ذاته على عقيدة إبادة سكان البلاد الأصليين ونظام العبودية، في هذين البعدين التناقض الكبير بين أكثر من وجه للحضارة الأميركية التاريخية. ففي السابق تبنّت أميركا سياسات عادلة وذلك عندما طرحت حقّ تقرير المصير للشعوب بعد الحرب العالمية الأولى، وعندما أنشأت الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها فشلت فشلاً كبيراً وأشاعت الدمار عندما حرقت فيتنام، وعندما حلّت الدولة العراقية في ٢٠٠٣، وعندما إنحازت لإسرائيل في كل حالات الصراع العربي الإسرائيلي. لقد مال الميزان الأميركي لمصلحة أميركا عندما نشرت الثقافة والموسيقى والأدب واللغة والسينما والحقوق والحرية والديموقراطية، لكنه يميل ضدها بوضوح في كل موقف تتخذه لكسر إرادة الدول الأصغر في العالم الثالث أو لإرضاء إسرائيل والانتقاص من كرامة الإقليم العربي والإسلامي.
تصعيد ترامب اللفظي ضد إيران والذي قد يقترن بفرض عقوبات سيوتّر مناطق عدة في الشرق الأوسط، وهذا ما لا يراه الرئيس الأميركي الذي يفتقد المستشارين الإستراتيجيين والمفكرين الفاعلين. وبسبب الاستقالات من إدارته وطبيعة الرئيس وشخصيته المتوتّرة، من الطبيعي أن نستنتج بأن سياسة الولايات المتحدة التي يتبعها سترفع من وتيرة الصراع، وستجعل إيران تصعد في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، وهو لن يستطيع عمل شيء جاد لإيقاف التصعيد الإيراني. لكن أوروبا لا تشاطر الرئيس الأميركي التوجهات ذاتها. فقد تنفست أوروبا الصعداء عندما أقرّ الاتفاق النووي لأنه مثل بالنسبة إليها بداية انفراج سياسي للحد من البرنامج النووي الإيراني. أوروبا تؤمن بالحوار مع إيران، وقد تحركت شركاتها ومؤسساتها للعمل مع إيران بخاصة بعد إقرار الاتفاق النووي.
في الوقت ذاته الولايات المتحدة لا تملك الأموال اللازمة لشن حروب على طريقة الرئيس بوش الابن بعد ٢٠٠١، كما أن إيران ليست هدفاً سهلاً، فهي دولة محصنة عسكرياً. إن تصريحات ترامب ضد إيران ستساهم في تقريب إيران من تركيا والدفع بها بصورة أكبر نحو روسيا، وفي جعل أوروبا في حالة ضياع وحيرة تجاه السياسات الأميركية كما أن هذا سيصب في مصلحة روسيا والصين ودول أخرى. في هذه المرحلة يتطوّر مأزق المشروع الأمبراطوري الأميركي.
إن تراجع إيران في الإقليم العربي سيتطلّب أولاً دوراً عربياً متماسكاً ورؤية لطبيعة الصفقات السياسية التي يمكن أِن تخلق الأرضية لتراجع إيراني. لكن الظروف الآن غير ناضجة لهذا التفاهم، فتراجع إيران الإقليمي غير ممكن بلا إجماع معظم الدول العربية وهو غير ممكن بلا تفاهم عربي تركي سابق له. الوضع الإيراني العربي أثقل بالنزاعات بسبب تفكّك البيت العربي وبسبب توسّع إيران في مناطق الفراغ في ظل حروب اليمن وسورية والعراق، إضافة إلى أزمة الخليج بكل تداعياتها وأبعادها. هذه ليست أرضية لفرض تراجع إستراتيجي على إيران.
إيران حضارة ممتدة يصعب اختزالها بالنظام السياسي الإيراني، فإيران فيها نظام سياسي متعدد الأبعاد والتيارات، لكن في إيران أمة تتكوّن من فئات وقوميات وفيها تاريخ وعمق ثقافي وديني ومؤسسات وصناعات وزراعة واعتماد على الذات. إيران متداخلة في دولة واحدة، وهي ليست بالتالي كحال الإمة العربية المنقسمة لعشرات الدول. الحضارة الإيرانية مزيج من الفارسية والقوميات الأخرى والإسلام في ظل دولة واحدة، وهي تغتني بالتاريخ المشترك العربي- الفارسي. وبسبب التلويح بإمكانية اعادة فرض العقوبات يشعر الشعب الإيراني بأنه المستهدف الأول. وهذا واضح من تصريحاته ومن منعه تأشيرة القدوم إلى الولايات المتحدة عن الإيرانيين. وعلى رغم النقد الإيراني في أوساط الشباب الموجّه للنظام السياسي الإيراني، تؤدي سياسات ترامب إلى تمتين الجبهة الداخلية الإيرانية، بل تؤدّي إلى تضامن الشتات الإيراني المعارض مع إيران.
سينقسم المجتمع الدولي أكبر انقسام حول ترامب وسياساته. فروسيا من جهة تلك القوة الكبرى التي تستعجل قطف الفوائد ستسير في طريق مغاير حتى لو كان لمجرد التحدي. والصين، وهي الدولة الكامنة والصاعدة ببطء وهدوء الزاحفة بصمت تحت الرادار، في أمكانها أن تبرز في لحظة تاريخية بلا مقدمات كبيرة، وهي بطبيعة الحال ستتّخذ مواقف منفردة. العالم يتغيّر ولم يعد ينطلق من مركزية الولايات المتحدة والغرب. فمركز القوة في العالم ينتقل إلى آسيا وروسيا والهند والصين، ولم يعد خاضعاً للاحتكار الغربي التقليدي.
الولايات المتحدة في تراجع تاريخيّ، وقدرتها على الحسم تواجه معوّقات كبرى. لقد تغيّر كل شيء، فالمشروع الأمبراطوري الأميركي يعاني من أزمة، وهو مرتبط بغرور القوة والسيطرة، ولهذا يسعى إلى إثارة الحروب والتلويح بها، ويبحث عن أسواق السلاح التي يعتبرها تنمية. إن تحالف الولايات المتحدة مع الصهيونية وعلى الأخص أقصى اليمين الإسرائيلي دليل على مدى تردي السياسة الأميركية. مع سياسات ترامب تتناقض السياسة الأميركية مع أماني الشعوب في الاستقرار والتحرّر من الهيمنة. وفي الوقت ذاته تتصادم سياسات ترامب مع أماني الشعب الأميركي في الحفاظ على مكاسب الديموقراطية وتطوير مبادئ العدالة الاجتماعية. إن المشروع الأميركي لن يستعيد مكانته من دون العودة إلى طريق العدالة والديموقراطية في الداخل والخارج.
* نقلا عن صحيفة الحياة