أثار إعلان السلطات العراقية احتجازها أكثر من 1300 من عائلات ونساء مقاتلي تنظيم "داعش" من الأجانب، في الحادي عشر من سبتمبر الجاري، واللاتي ينتمين إلى 13 جنسية، بعد فرارهن من مدينة تلعفر؛ الكثير من التساؤلات الهامة حول مستقبل هؤلاء النساء بعد عودتهن إلى بلادهن، في ظل التحديات التي سوف تواجههن، لا سيما وأن السلطات قد أعلنت أنها سوف تقوم بتسليم هؤلاء النسوة إلى بلادهن، خاصةً وأن العديد منهن صرن ذوات أطفال.
فضلًا عن أنهن يحملن أفكارًا ومعتقدات في غاية التطرف، إضافةً إلى اعتيادهن العيش في بيئة دموية لا تعرف سوى القتل والعنف، وبالتالي فإن هؤلاء النساء يمكن أن يمثلن قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر إذا لم تجد من ينزع فتيلها في الوقت المناسب، لا سيما وأن العديد من الدول التي ينتمين إليها لا تملك رؤية واضحة حول كيفية التعامل مع هؤلاء العائدات.
ويُعد تنظيم "داعش" من أكثر التنظيمات الإرهابية التي توسعت في تجنيد المرأة، وتطوير أدوارها، وهو ما جعله يحرص على تجنيد النساء واستقطابهن إلى مناطق نفوذه في العراق وسوريا. فطبقًا لتقرير "مجموعة سوفان" الصادر في مارس 2016، وصل عدد المقاتلين الأجانب الذين سافروا إلى العراق وسوريا، ما بين 27 ألفًا و31 ألفًا، ينتمون إلى ما يقرب من 86 دولة حول العالم، موزعة على مناطق من العالم ما بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، وانخرط معظمهم في صفوف "داعش"، وتُشير تقارير دولية إلى أن ثلث أعضاء "داعش" من النساء، من بينهم ما لا يقل عن 500 امرأة أوروبية، تتراوح أعمارهن بين 19 و23 عامًا.
سمات خاصة:
يتصف النساء المنخرطات في صفوف تنظيم "داعش" بالتشدد الفكري، نظرًا لاعتناقهن الفكر الداعشي الذي يأتي على قمة هرم التطرف والعنف، خاصة وأنه كان يعتمد على الكثير منهن في الأعمال غير التقليدية التي تحتاج إلى درجة كبيرة من التشبع الفكري، كالدور "الشرطي" أو "الاحتسابي" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، مثل "كتيبة الخنساء" التي كانت تقودها امرأة تونسية تدعى "أم ريان"، والتي تأسست في عام 2014، وجميع النساء في هذه الكتيبة غير متزوجات، وتتراوح أعمارهن ما بين 18-24 سنة.
يُضاف إلى ذلك "الدور الاستخباراتي"، من خلال جمع المعلومات عن بعض الأهداف الحيوية، ونقل بعض أجهزة التجسس والاتصال، ونقل بعض الرسائل السرية، إضافةً إلى "مساندة المقاتلين" من خلال تحفيزهم على القتال، وحمل السلاح عند الضرورة إذا اقتضى الأمر، في حالة تناقص أعداد الرجال، إضافةً إلى قيامهن بالأعمال الطبية والتمريضية، وكل هذه الأعمال السابقة تحتاج إلى من يكون متشبعًا بأفكار التنظيم وعقيدته بشكل كبير، حتى يتسنى له القيام بذلك، فضلًا عن تأكد التنظيم من ذلك، لأنه شرط أساسي في الترشيح لتلك المهام.
علاوةً على ما سبق، فإن مجرد خروج هؤلاء السيدات من بلادهن إلى مناطق نفوذ "داعش"، في ظل الحرب التي كان يخوضها على أكثر من جبهة، ثم الزواج لاحقًا بالمقاتلين المعرضين للموت في أية لحظة، وإنجاب أطفال صغار في ظل تلك الظروف؛ يُشير إلى أننا أمام سيدات يؤمنَّ بشكل كبير بأفكار تنظيم "داعش"، وأنه يمثل الخلافة والإسلام الحقيقي الذي يجب عدم التخلي عنه، وأن ما قُمن به كان من باب الجهاد ونصرة الإسلام، وهو ما يجب وضعه في الحسبان عند التعامل معهن بعد عودتهن، لا سيما إن كانت هناك برامج تأهيل حقيقية في انتظارهن.
تحديات صعبة:
بعد هذه السنوات التي قَضَيْنَهَا في صفوف واحد من أخطر التنظيمات الإرهابية في العالم وأشدها تطرفًا، فضلًا عن العودة بصحبة أطفالهن الصغار، الأمر الذي سيفرض عليهن مجموعةً من التحديات التي يمكن أن تمثل عائقًا قويًّا أمام إعادة إدماجهن في الحياة، وعدم تعرضهن لانتكاسة فكرية تعيدهن إلى تنظيمات الإرهاب من جديد.
ويمكن تحديد أهم هذه التحديات في الآتي:
1- عدم وجود برامج تأهيل مناسبة: دائمًا ما تُثير قضية العائدين بشكل عام أهمية دور المراجعات الفكرية وبرامج التأهيل كآلية هامة للترشيد الفكري، ومن ثم الإدماج في المجتمع، لكن تكمن مشكلة مثل تلك البرامج في كونها مشكوكًا في جدواها، لا سيما في حالة العائدات اللاتي دخلن إلى عالم التطرف من أوسع أبوابه وأكثرها عنفًا، الأمر الذي يحتاج إلى آلية فكرية مختلفة تمامًا عن تجارب المراجعات السابقة، خاصة وأنها كانت تتعامل مع الرجال، ولم يسبق لها التعامل مع النساء، هذا في حالة الافتراض بأن هناك برامج تأهيل فكري، في حين أن معظم الدول -لا سيما العربية منها- يبدو أنها لا تمتلك برامج أو تصورًا واضحًا للترشيد الفكري، لذا فإنها غالبًا ما ستختار الطريق التقليدي في التعامل مع العائدات وهو الاعتقال أو الإقامة الجبرية، الأمر الذي يُشير إلى احتمالية تعرضهن لضغوط كبيرة ربما تجعل بعضهن أكثر تمسكًا بالنهج المتطرف.
2- سوء المعاملة بعد العودة: نظرًا للتطرف الشديد الذي يتسم به أعضاء تنظيم "داعش"، والذي يجعل المجتمعات متخوفة منهم، وتنظر إليهم على أنهم قتلة ومجرمون، ولا يمكن الاقتراب منهم، فضلًا عن التعامل معهم، فإن هذا الخوف -بطبيعة الحال- يتزايد بقوة في حالة العائدات، حيث ستلفظهن قطاعات عديدة في المجتمع، مما سيعرّضهن لضغوط مجتمعية كبيرة، خاصة وأن بعضهن ذوات أطفال مما يجعلهن في حاجة إلى تعامل ورعاية خاصة، إذ لا يملكن وثائق ثبوتية في وقت يحتجن فيه إلى تقنين أوضاعهن بما يُلاءم إدماجهن في المجتمع، الأمر الذي سيزيد من الضغط على هؤلاء العائدات، خاصة إذا لم يتفهّم المجتمع دوره تجاههن، وفي الوقت نفسه إن لم تقم الدولة بدورها، مما يمكن أن يدفعهن إلى النقمة على المجتمع، خاصة في ظل ما لديهن من موروثات فكرية وعقائدية.
3- تردي الوضع الاقتصادي: من المحتمل بشكل كبير أن تُعاني العائدات من ظروف اقتصادية صعبة، لا سيما في ظل صعوبة الحصول على فرصة عمل مناسبة يستطعن التعيُّش منها بسبب خشية المجتمع منهن، وهذا ما يفرض على الحكومات ومنظمات المجتمع المدني سرعة تدارك هذا الأمر، والتعامل معه بشكل عاجل، وعدم تركهن يواجهن الظروف الاقتصادية الصعبة، خاصة في ظل وجود أطفال، لأنهن في هذه الحالة سيقارنّ بين دور المجتمع وما كان يفعله معهن التنظيم من اهتمام ورعاية، مما سيجعلها مقارنةً لا تصب في صالح المجتمع، وتدفعهن إلى التطرف من جديد إذا ما أُتيحت لهن الفرصة.
احتمالات متعددة:
في ضوء السمات الفكرية السابقة التي يتسم بها العائدات، وكذلك التحديات التي سيواجهنها بعد العودة إلى بلادهن من جديد؛ فان هناك غالبًا ثلاثة احتمالات تحدد مستقبلهن، وسوف يتوقف كل احتمال على مدى قدرة كل دولة أو حكومة على التعامل معهن بشكل يراعي حالتهن الفكرية والاجتماعية والنفسية والأسرية.
ويمكن تحديد أهم هذه الاحتمالات في الآتي:
1- الاندماج في المجتمع: برغم حالة التطرف الفكري التي يُعاني منها هؤلاء العائدات؛ إلا أنه في ظل وجود رعاية واهتمام من الدولة بهن وبأطفالهن، مع قيام المجتمع بدوره في تقبلهن واحتضانهن، وعدم الضغط عليهن؛ فإن ذلك غالبًا ما سيُساهم بشكل كبير في تراجعهن عن أفكارهن، ومن ثمّ الاندماج سريعًا في المجتمع، خاصة إذا ما وُضعت لهن برامج تأهيل فكري واقعية وغير تقليدية، لا سيما وأنهن مررن بتجربة قاسية، أدركن من خلالها أنهن كُنَّ يسرن خلف سراب، وأنهن لم يحصدن من دولة الخلافة المزعومة شيئًا سوى العناء والتشريد، لا سيما وأن التنظيم تركهن في العراء مع أطفالهن في بلاد غريبة. لذا يجب استثمار هذه الحالة، واحتضانهن بشكل جيد؛ لأن ذلك سيدفعهن إلى مقارنة نفسية وفكرية تصب في صالح الدولة والمجتمع.
2- العودة السريعة للتطرف: إن لم يتم توفير العوامل السابقة للعائدات التي تدفعهن إلى الترشيد الفكري والاندماج في المجتمع؛ فإن البديل الآخر سيكون هو العودة السريعة إلى التطرف والعنف من جديد، فالضغوط المجتمعية والاقتصادية، فضلًا عن الأمنية، سوف تجعلهن ناقمات على مجتمعاتهن وحكوماتهن، وبالتالي سيَعُدْن إلى الفرار إلى تلك التنظيمات للاحتماء بها من واقعهن المأزوم، إذ ليس لديهن في مثل تلك الظروف ما يخسرنه، لا سيما وأنهن لم يتخلين عن أفكارهن المتطرفة، مما يمكن أن يعيدهن إلى صفوف التنظيمات الإرهابية من جديد، ربما ليس من باب القناعة الفكرية، وإنما من باب النقمة على المجتمع، فتلك العودة -بحسب اعتقادهن- يُمكن أن تخلّصهن من كل الضغوط التي يعانين منها في مجتمعاتهن.
3- التعايش المؤقت: من أخطر ما يُمكن أن يتعرض له العائدون بشكل عام، والعائدات بشكل خاص، هو الانتكاسة الفكرية التي تنتج عن عدم التأهيل الكافي، والرضا بأنصاف التأهيل، بمعنى عدم المعالجة الكاملة، مع عدم الإهمال الكامل، ورغم أن هذا التوجه سيجبر بعضهم أو معظمهم غالبًا على التعايش في المجتمع، وإظهار التراجع الفكري، من أجل القدرة على العيش؛ إلا أنه -في الوقت نفسه- سيظل متمسكًا بأفكاره في داخل أعماقه، ولكنه سينتظر الفرصة ليس للعودة إلى التنظيمات الإرهابية فحسب، وإنما أيضًا للقيام بعمليات إرهابية أو انتحارية أو على الأقل للمساهمة والمساندة في تلك العمليات إذا ما أُتيحت لهم الفرصة لذلك. وتكمن خطورة هذا الاحتمال في ظن الدولة والمجتمع أن هؤلاء العائدات قد تراجعن عن أفكارهن، وأصبحن متعايشات بشكل طبيعي، في حين أن العنف والتطرف كامنان في أعماقهن، وينتظر الوقت المناسب للتحول إلى إرهاب فعلي، نظرًا لعدم معالجته بشكل صحيح.
نافذة فرصة:
وفي ضوء ما سبق يمكن القول إنه برغم التحديات الصعبة التي ستواجه العائدات الأجنبيات المندمجات في صفوف تنظيم "داعش"؛ إلا أن هناك فرصة لترشيدهن فكريًّا، وإعادة دمجهن في المجتمع من خلال معالجة غير منقوصة تتكاتف فيها الدولة والمجتمع جنبًا إلى جنب، أما الإهمال أو المعالجة المحدودة فإنها ستدفعهن إما إلى العودة للتنظيمات الإرهابية من جديد، هروبًا من الواقع الذي يعانين منه، أو القيام بعمليات إرهابية بشكل مباشر، انتقامًا من المجتمع، وتنفيذًا للأفكار التي لم يتم معالجتها بشكل صحيح، الأمر الذي يُشير إلى أن التعامل مع العائدات ليس له سوى طريق واحد هو المعالجة الكاملة لا المواجهة "الجزئية".