مع استمرار الخسائر التي تتعرض لها التنظيمات الإرهابية في بعض دول الأزمات، لا سيما سوريا والعراق وليبيا، عادت بعض عناصرها من جديد إلى دولها الأصلية، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى التحذير من مخاطر ذلك على حالة الأمن والاستقرار في تلك الدول. ومن هنا اكتسبت البرامج التي وضعتها بعض تلك الدول خلال الأعوام الأخيرة بهدف إعادة تأهيل العائدين من مناطق الصراع أهمية وزخمًا خاصًا، باعتبار أنها قد تمثل آلية مهمة للتعامل مع التهديدات المحتملة التي تفرضها هذه الظاهرة.
لكن ذلك لا ينفي أن ثمة عقبات عديدة يمكن أن تواجه الجهود التي تبذلها تلك الدول في سبيل إعادة تأهيل العائدين من دول الأزمات، يتمثل أبرزها في التحولات الجديدة التي بدأت تتسم بها ظاهرة الإرهاب، فضلاً عن تزايد أعداد العائدين، وتعدد وربما تناقض التوجهات الفكرية للتنظيمات الإرهابية التي انضموا إليها.
اتجاه متصاعد:
أعلنت السلطات التونسية المكلفة بمتابعة ملف العائدين من مناطق الصراع، في 17 سبتمبر الجاري، عن إعداد برنامج تأهيل للعائدين خاصة من سوريا وليبيا والعراق، وأقرت اعتمادات مالية من أجل تنفيذ ذلك البرنامج. لكنها استثنت الإرهابيين الذين ثبت تورطهم في عمليات قتل وذبح وغيرها من العمليات التي تصنف على أنها "جرائم ضد الإنسانية".
ورغم أن مثل هذه النوعية من البرامج ليست جديدة، حيث سبق أن تبنتها دول عديدة بالمنطقة ونجح بعضها في التعامل مع ظاهرة العائدين من مناطق الصراع، إلا أنها بدأت تتسم بخاصيتين جديدتين: الأولى، أنها لم تعد تقتصر على الإرهابيين فقط، وإنما باتت تركز أيضًا على عائلاتهم، باعتبار أن ما يسمى بـ"الإرهاب العائلي" تحول إلى ظاهرة جديدة تصاعدت حدتها خلال الفترة الأخيرة، وهو ما انعكس في بعض العمليات الإرهابية التي شهدتها بعض الدول الأوروبية ونفذها إرهابيون ينتمون لعائلة واحدة. ولذا قرر المجلس البلدي في مدينة الموصل، في 27 يونيو 2017، ترحيل عائلات ينتمي بعض أفرادها إلى تنظيم "داعش" إلى مخيمات لإعادة تأهيلها.
والثانية، أنها باتت تعبر عن اتجاه عالمي عابر لحدود منطقة الشرق الأوسط، بعد أن بدأت بعض الدول الغربية في تبني مثل هذه البرامج للتعامل مع الإرهابيين العائدين من مناطق الصراع، وذلك لاستباق اتجاه هذه العناصر إلى محاولة نشر أفكارها المتطرفة أو تنفيذ عمليات إرهابية ردًا على الخسائر المتوالية التي يتعرض لها تنظيم "داعش" في المنطقة.
ففي هذا السياق، وضعت مدينة أرهوس الدانماركية، في ديسمبر 2014، برنامجًا لتأهيل "الأصوليين" من أجل منعهم من تنفيذ عمليات إرهابية أو ارتكاب أعمال عنف، خاصة أن الدانمارك كانت، في ذلك الوقت، إحدى أكثر الدول الغربية التي انضم بعض مواطنيها للتنظيمات الإرهابية في المنطقة.
وقد أشارت صحيفة "اندبندنت" البريطانية، في 20 أكتوبر 2016، إلى أن مدينة لوند السويدية تبنت برنامجًا لإعادة تأهيل المتطرفين، يقوم على توفير سكن وراتب شهري ووظيفة وخدمات تعليمية، من أجل إقناعهم بالتخلي عن الأفكار المتطرفة والعودة إلى الاندماج في المجتمع من جديد.
تحديات مختلفة:
لكن هذه الجهود في مجملها تواجه عقبات لا تبدو هينة، يتمثل أبرزها في:
1- الأعداد الكبيرة: تشير بعض التقديرات إلى أن عدد المقاتلين الأجانب الذين انضموا للتنظيمات الإرهابية في المنطقة يتراوح ما بين 27 و31 ألف مقاتل، عاد 30% منهم إلى دولهم الأصلية بداية من عام 2016، بعد تراجع قدرة تلك التنظيمات على الاحتفاظ بالمناطق التي سيطرت عليها، بفعل الضربات العديدة التي تعرضت لها وانخراطها في صراعات مسلحة على أكثر من جبهة في وقت واحد. ومن دون شك، فإن ذلك سوف يزيد من الصعوبات التي تواجه الجهود التي تبذلها بعض الحكومات من أجل التعامل مع هذه الظاهرة، باعتبار أن ذلك يتطلب موارد مالية كبيرة وآليات غير تقليدية لتعزيز القدرة على تأهيل الأعداد الكبيرة من الإرهابيين العائدين. ويتفاقم تأثير تلك الصعوبات في الدول التي تواجه أزمات متعددة على أكثر من مستوى، بفعل التطورات التي شهدتها في الفترة الأخيرة.
2- تشابك وتناقض التوجهات التنظيمية والفكرية: لا ينتمي العائدون إلى تنظيم إرهابي واحد، بل إلى تنظيمات إرهابية متعددة تتبنى توجهات متطرفة مختلفة، بشكل يصعب معه وضع برنامج واحد يمكن من خلاله إعادة تأهيل هذه العناصر، خاصة أن بعض تلك التنظيمات تتباين فيما بينها في التعامل مع كثير من القضايا التي تحظى باهتمام خاص من جانبها، وهو ما يزيد من أهمية وضع أكثر من برنامج تأهيلي للتعامل مع تعدد التوجهات التنظيمية والفكرية للعائدين.
3- العنف الراسخ: تشير اتجاهات عديدة إلى أن بعض العائدين المنخرطين في صفوف التنظيمات الإرهابية، خلال السنوات الأخيرة، يتبعون آليات شديدة العنف في تنفيذ أفكار وتوجهات هذه التنظيمات، وهو ما يعني أن إعادة تأهيلهم ربما تستغرق فترة ليست قصيرة، باعتبار أن المشكلة لا تنحصر فقط في التوجهات التنظيمية وإنما تمتد أيضًا إلى الآليات العنيفة التي استخدموها خلال انخراطهم في المواجهات المسلحة التي شاركت فيها تلك التنظيمات في المناطق التي تتواجد فيها.
4- ظاهرة العائدات: تفاقمت تلك الظاهرة خلال الفترة التي سيطر فيها تنظيم "داعش" على بعض المناطق في سوريا وشمال العراق، منذ منتصف عام 2014، وهو ما يفرض على الحكومات وضع برامج خاصة بإعادة تأهيل النساء المنخرطات في صفوف التنظيمات الإرهابية، تراعي أوضاعهن الاجتماعية تحديدًا، خاصة بعد أن تزوجت بعضهن من عناصر تنتمي إلى هذه التنظيمات وأنجبن أطفالاً من الممكن أن تسعى الأخيرة إلى استقطابهم في حالة ما إذا لم تسارع تلك الحكومات إلى اتخاذ خطوات إجرائية في هذا السياق.
5- معضلة "التقية": حذرت اتجاهات عديدة من أن بعض الإرهابيين العائدين قد يتعمدون التظاهر بالتخلي عن الأفكار والتوجهات المتطرفة التي تبنوها خلال فترة انضمامهم للتنظيمات الإرهابية، وهو ما يتطلب طرح آليات جديدة تستطيع من خلالها الجهات المسئولة عن برامج التأهيل تقييم مدى تأثيرها في تغيير هذه التوجهات.
6- الضغط المجتمعي: لا تبدو إعادة إدماج العناصر الإرهابية داخل مجتمعاتها من جديد مهمة سهلة، باعتبار أنهم سيواجهون رفضًا من جانب تلك المجتمعات، خاصة التي تعرضت لانتهاكات مروعة من جانب التنظيمات الإرهابية، وهو ما يمكن أن يقلص من قدرة بعض تلك البرامج على تحقيق أهدافها.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن التحولات الجديدة التي تشهدها ظاهرة الإرهاب باتت تفرض على الدول المعنية بمحاربته ضرورة وضع برامج غير تقليدية للتعامل مع العائدين من مناطق الصراع، من أجل تعزيز قدرتها على تغيير توجهاتهم المتطرفة والتعامل بإيجابية مع التداعيات الاجتماعية والاقتصادية التي قد ينتجها ذلك.