كشف الهجوم الذي تشنه فصائل المعارضة السورية شرق العاصمة دمشق على محور (القابون - جوبر - كراجات العباسيين) عن هشاشة الواقع الأمني والعسكري للنظام في العاصمة السورية دمشق، بعدما انهارت دفاعاته في ساعات الهجوم الأولى، مما اضطر القوات الروسية إلى التدخل واستخدام سلاح الطيران بكثافة، بهدف وقف تقدم الثوار. وبعيداً عن نتائج هجوم المعارضة المفاجئ، يشكل التراجع السريع لقوات النظام انتكاسة استراتيجية لموسكو، التي تعمل منذ فترة على إعادة تأهيل ما تبقى من وحدات عسكرية موالية للأسد، وهي وحدات تعاني نقصاً كبيراً في العديد، الأمر الذي فرض على موسكو الاستعانة الدائمة بمقاتلين تابعين للميليشيات الإيرانية، حيث أصبحت الحاجة لهذه الميليشيات المدربة جيداً أمراً ملحاً أمام عجز قوات النظام عن تحقيق أي تقدم ميداني حتى لو كان مرفقاً بغطاء جوي روسي، وقائع جعلت من فكرة تخلي موسكو عن الدور العسكري الإيراني في سوريا، وخصوصاً في دمشق، شبه مستحيل. فقد باتت موسكو تعي جيداً أن الوجود الإيراني في دمشق وريفها ضرورة من أجل مساعدة النظام على الصمود في هذه المرحلة الانتقالية، وبقاء العاصمة مستقرة أثناء جولات التفاوض المقبلة في جنيف أو آستانة.
الحالة السيئة لقوات الأسد زادت من حرج موسكو المطالبة من عدة جهات دولية وإقليمية بتقليص حجم اعتمادها على طهران في سوريا، وضرورة القيام بخطوات عملية في هذا الاتجاه كشرط أساسي من أجل الحفاظ على مصالحها في سوريا، وهي مطالب حملها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو الأسبوع الماضي، حيث لم يفلح الأخير، وفقاً لما سربته بعض وسائل الإعلام الروسية والعربية، وما كشف عنه الأستاذ عبد الرحمن الراشد في مقاله قبل أيام في صحيفة «الشرق الأوسط» تحت عنوان «الروس لإسرائيل حول سوريا: مضطرون»، في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، وقد اعتبر بوتين أن الوجود الإيراني في هذه المرحلة ضروري إلى حين الانتهاء من الحرب على «داعش»، الأمر الذي دفع بالقيادة الإسرائيلية إلى توسيع نطاق عملياتها الجوية فوق الأراضي السورية، مما تسبب في إحراج كبير لموسكو مع حليفتها طهران بعدما قام الطيران الإسرائيلي بضرب أهداف استراتيجية في تدمر وريف حمص، تجاوز خلالها الخطوط الحمراء التي وضعتها موسكو لتل أبيب في سوريا، الأمر الذي دفع الروس إلى غض الطرف عن قيام الدفاعات الجوية السورية في إطلاق صواريخ «إس200» على الطائرات المغيرة كمؤشر على إمكانية تغيير قواعد الاشتباك. وفي الإطار نفسه، يرفض الكرملين مطالب أميركية بإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا كشرط مسبق للبدء بعملية سلام سورية، وقد امتنع الكرملين عن تلبية مطالب إدارة ترمب التعجيزية لسببين؛ الأول حرص موسكو على تجنب مواجهة صعبة مع طهران في سوريا تمتلك الأخيرة فيها الخبرة الكافية باتشارها الواسع في كل مكان لتحويل الوجود العسكري الروسي إلى وضع لا يطاق، من خلال تشكيل خلايا عسكرية صغيرة تتحرك على طريقة المقاومة، كتلك التي أدارتها في لبنان والعراق، والقيام بعملية نوعية فد تكون موجعة ضد أهداف روسية، وهذا ما لا تريد موسكو أن تواجههن فيكفيها ما هي فيه، أما السبب الثاني فيعود إلى قناعة استراتيجية لدى بعض مراكز صناعة القرار في موسكو بأن إيران تمثل خط الدفاع الأخير عن روسيا، وبأن المصالح الروسية ستصبح مهددة في منطقة الشرق الأوسط، إذا استطاعت واشنطن إنهاء نفوذ طهران الإقليمي.
في هذا الوقت كشفت صحيفة «إزفيستيا» الروسية أن الجانب الروسي تناول مع الطرفين التركي والإيراني، في الجولة الأخيرة من مفاوضات آستانة التي جرت في 14 و15 الشهر الحالي قضية انسحاب الميليشيات الطائفية الإيرانية من سوريا. ما كشفته «إزفيستيا» يمكن وضعه في سياق حاجة موسكو الملحة إلى استمالة المعارضة السورية، بعدما بالغت موسكو في الضغط العسكري والمعنوي عليها، ووضعتها أمام خيار واحد هو الاستسلام، الأمر الذي أدى إلى امتناع وفد المعارضة عن حضور الجولة الثالثة من مفاوضات آستانة، تحت ذريعة عدم وفاء موسكو في تعهداتها، كما أن هذا التسريب لا يخلو من رسائل إيجابية تجاه تل أبيب، التي رفعت من وتيرة التحدي في الساعات الأخيرة، وعادت واستهدفت مواقع داخل الأراضي السورية، ورفعت من حدة تهديداتها للبنان وسوريا.
مما لا شك فيه أن قراراً أميركياً بسحب التفويض المعطى لروسيا في سوريا قد اتخذ، إذ انقلب غياب واشنطن عن آستانة من تهميش لها إلى إضعاف للمؤتمر، بينما يستمر جنيف بشروطه الغربية في الحد من طموحات موسكو وتحويل ما تعتبره انتصارات ميدانية إلى هزائم سياسية.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط