يبدو أن "إعلان موسكو" الذي صدر في 20 ديسمبر 2016، بعد اللقاءات التي جمعت وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران في موسكو، سوف يُمثِّل نقطة تحول فارقة في الأزمة السورية، فبموجبه بدأت تتبلور ملامح التفاهمات التي تم التوصل إليها بقيادة روسية وبمشاركة تركية وإيرانية على أسس براجماتية تسمح بتجاوز الأبعاد المُعقدة للصراع.
ومن هنا ربما يمكن القول إن الأمر لم يعد يقتصر على بحث الترتيبات الأمنية والمستقبل السياسي لحلب بعد صفقة الإجلاء الكبرى التي اتُّفق عليها مع المعارضة السورية وبوساطة تركية وبضمانات روسية في 13 ديسمبر 2016، وإنما بات يتسع تكتيكيًّا ليشمل أبعادًا جوهرية في الصراع تتعلق بإعادة هندسة موازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية، وحدود الأدوار وحجم النفوذ لكل طرف من الأطراف في المستقبل.
وعلى الرغم من أن التوصل إلى "إعلان موسكو" يُعد -مرحليًّا- نجاحًا للاستراتيجية الروسية على المستويات العسكرية والأمنية والدبلوماسية، فإن الأمر لا يخلو من تحديات قد تعيق تقدم هذا المسار، لعل من أبرزها مساحات التباين بين الدول الثلاث، فضلا عن استمرار الصراع على الجبهات الأخرى، والذي يقلل من فرص تكراره إن لم يقوض فرص نجاحه، فضلا عن تحديات أخرى تتعلق بأدوار لاعبين أساسيين مثل الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد تولي إدارة الرئيس الجديد دونالد ترامب مهامها.
ترتيبات أمنية محتملة:
تجدر الإشارة إلى أن الاجتماع الثلاثي لوزراء خارجية الدول الثلاثة المشاركة في "إعلان موسكو" توازى مع اجتماع مماثل لوزراء دفاع الدول الثلاثة، بما يعني أن خطة العمل الدبلوماسية التي أقرتها تلك الأطراف سيتم على الفور ترجمتها في إطارها الأمني والعسكري لإدخالها حيز التنفيذ، وهو ما حدث فعليًّا على الرغم من بعض التباينات التي سادت الاجتماعات، خاصةً على الجانبين التركي – الإيراني، لا سيما فيما يتعلق بالموقف من دور حزب الله في الأزمة.
وفي هذا السياق، فإن اتجاهات عديدة بدأت ترجح احتمال تكرار "سيناريو داريا" على مستوى الإدارة الأمنية في حلب؛ حيث إن الحضور الأمني في حلب الشرقية سيكون، وفقًا لها، حصرًا على قوات النظام السوري وحلفائه، وواقعيًّا ستكون الميليشيات التابعة لإيران، خاصة حزب الله، هى الأكثر حضورًا على هذه الجبهة، بالنظر إلى تقديرات الأعداد الخاصة بقواتها البرية مقارنةً بقوات الجيش السوري.
ومن الواضح أيضًا أن تركيا ستكون في موقع المراقب لترتيبات حلب على الصعيد الأمني، لكن ما يعنيها أن تُبقى على كتلة المعارضة خاصة قوات "الجيش السوري الحر" على خط تأمين حدود مناطق حلب الغربية لإبعاد شبح الحضور الكردي في هذه المنطقة، وبالتالي أصبح من الواضح أن الأهداف التركية من الأزمة السورية الآن تراجعت من العمل على حصد مكاسب سياسية وميدانية إلى محاولة كبح التمدد الكردي باتجاه الحدود التركية، وتُظهر أحدث الخرائط الميدانية لمعهد دراسات الحرب الأمريكي أن شكل الانتشار التركي وانتشار قوات المعارضة السورية يبدو في الوضع الملائم لتحقيق هذا الغرض.
تداعيات متباينة:
سعت روسيا من خلال هذا الاتفاق إلى تحقيق أهداف خطتها الاستراتيجية في حلب والتي تشمل تعزيز موقعها القيادي في الساحة السورية، وبالتالي موقعها من كافة الأطراف، باعتبار أنها الراعي والضامن لأي اتفاق مستقبلي، وأنها الرقم الأساسي الذي يتعين على أي طرف أن يتوصل إلى تفاهمات معه.
كما أنها حاولت عبره إضعاف المعارضة وتفكيك بنيتها التحالفية، بحيث فَصَلَت بين قوات المعارضة المسلحة السورية وبين الميليشيات الإرهابية المحلية والأجنبية في الساحة، حيث تمكنت من الفصل بين مكونات "جبهة فتح الشام" (1500-2000 مقاتل في حلب حسب بعض التقديرات) وبين قوات "الجيش السوري الحر" الموالي للمعارضة (حوالي 8000 مقاتل) والتي أصبح يُطلق عليها مؤخرًا في الخطاب الدبلوماسي "المعارضة المعتدلة".
وفي مقابل ذلك، من المتصور أن إيران سعت بدورها إلى تحقيق أهداف عديدة تتجاوز تفصيليًّا أهداف شركائها، روسيا وتركيا، وثمة مؤشرات عديدة تؤكد ذلك، منها تعمد قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري اللواء قاسم سليماني زيارة حلب الشرقية بالتزامن مع انعقاد مؤتمر موسكو، وما سبقه من إصرار طهران على تضمين صفقة الإجلاء لقوائم قريتي الفوعة وكفريا (أغلبية شيعية)، وهو ما يعني أن طهران أرادت توسيع نطاق الاتفاق بهدف توسيع دائرة نفوذها على خط ريف حلب – ريف دمشق بدعوى ضمان السلامة اللوجستية للاتفاق، لكن بشكل جوهري هناك طموح إيراني لإجراء تغيير ديموغرافي يُراعي البعد الطائفي في سوريا.
أما تركيا فيبدو أنها أعادت تقييم موقفها من الأزمة السورية خلال النصف الثاني من عام 2016، وبالتحديد في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، كما أعادت تقييم منظومة علاقاتها الدولية، وبالتالي ترى أن تقليص حدة التوتر والتوصل إلى تفاهمات مع روسيا أفضل من معاداتها، خاصة أنه يمكن توظيف ذلك في الحد من الدعم الذي قدمته روسيا في السابق للأكراد.
تحديات متعددة:
تواجه الجهود التي تبذلها الدول الثلاث تحديات عديدة ربما تكون كفيلة بوضع عقبات أمام استمرار العمل بالاتفاق أو توسيع إطاره في مرحلة لاحقة، ويتمثل أولها، في غياب أطراف فاعلة عن تلك الجهود رغم أن لها تأثير في المشهد السوري ومنها الولايات المتحدة الأمريكية.
ويبدو أن اتجاهات عديدة في موسكو تعتقد أن التوقيت قد يدفع واشنطن، التي تشهد عملية انتقال في الإدارة السياسية، إلى القبول بالأمر الواقع، خاصة في ظل الأولويات المختلفة التي يمكن أن تتبناها إدارة ترامب بعد توليها مهامها في 20 يناير 2017.
وينصرف ثانيها، إلى صعوبة تعميم النموذج، إذ أن الوضع على الجبهات الأخرى مثل جبهة الرقة لا يمكن أن يكون مشابهًا في مفرداته وأطرافه للواقع في حلب، لا سيما أن روسيا ربما لن يكون لها الدور الأبرز في تحرير الرقة من تنظيم "داعش"، بل إن تقارير عديدة ترشح الولايات المتحدة الأمريكية لممارسة هذا الدور المحوري، بالتعاون مع طرف آخر هو الأكراد، وقد دفعت واشنطن بنحو 300 مقاتل في هذا الاتجاه، في حين أن القوات الكردية تدفع باتجاه الاستئثار بعملية عزل الرقة تمهيدًا لإسقاطها بعد حصارها دون الاستعانة بقوات أجنبية، في إشارة إلى روسيا أو إيران أو أي من الأطراف الأخرى، وذلك بهدف تكريس مكاسبها الاستراتيجية وتجنب أية تفاهمات مضادة من جانب تركيا مع كل من روسيا وإيران.
ويتعلق ثالثها، ببنية المحور الجديد الذي يمكن أن تبلوره التفاهمات بين الدول الثلاث، حيث تبدو هشة نسبيًّا بالنظر إلى حجم التباينات القائمة بين أطرافه، والتي يمكن أن تعصف بها متغيرات لاحقة أو حضور محتمل لطرف لم يكن حاضرًا حاليًا على الساحة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو نشوب أزمات مفاجئة مثل حادث اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف الذي كان يهدف، وفقًا لرؤية تركيا وروسيا، إلى "تخريب" العلاقات الثنائية فيما بينهما.
وفي النهاية، ربما يمكن القول إن قدرة اتفاق حلب وإعلان موسكو على الاستمرار خلال المرحلة القادمة سوف تمثل اختبارًا مهمًا لتقييم مدى قدرة الأطراف المختلفة المعنية بالأزمة السورية على الانخراط في جهود جديدة للتوصل إلى تسوية سياسية لتلك الأزمة، وهو اختبار يواجه تحديات لا تبدو هينة، في ظل اتساع نطاق الخلافات القائمة بين تلك الأطراف.