اغتيل السفير الروسي لدى تركيا "أندريه كارلوف" في 19 ديسمبر 2016، على يد ضابط شرطة تركي بقوات التدخل السريع، يدعى "مولود مرت ألتن تاش"، من مواليد عام 1994 بولاية "أيدن" الواقعة جنوب غرب تركيا، وذلك خلال مشاركته في معرض للصور بعنوان "روسيا بعيون أتراك" تم تنظيمه بالتعاون بين بلدية "تشانقايا" والسفارة الروسية بمركز الفنون العصرية في العاصمة التركية (أنقرة).
وبعد أن أطلق الشرطي النار على السفير الروسي أثناء إلقائه كلمة بمناسبة الافتتاح، صرخ بكلمات عربية وتركية مفادها "الله أكبر.. نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما دمنا على قيد الحياة.. لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا.. كل شخص له يد في هذا الظلم سيدفع الثمن". وقد تمكنت قوات الأمن التركية من قتل منفذ الهجوم في مكان الحادث خلال تبادل لإطلاق النار.
ويُشير هذا الحادث إلى مجموعة من الدلالات المتعلقة بالشرطي مرتكب الحادث، وبأجهزة الأمن التركية. كما أن له تداعيات عدة على علاقات تركيا الخارجية، لا سيما مع روسيا بصورة أساسية، وعلى الداخل التركي.
ردود الفعل الروسية والتركية
عقب حادث اغتيال السفير الروسي في تركيا، عقد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" اجتماعًا أمنيًّا ضم وزير الخارجية "سيرغي لافروف"، ورئيس جهاز المخابرات الخارجية "سيرغي ناريشكين"، ومدير جهاز الأمن الفيدرالي "ألكساندر بورتنيكوف"، لمناقشة ملابسات الحادث الذي وصفه "بوتين" بأنه "عمل استفزازي" يهدف إلى تخريب العلاقات بين موسكو وأنقرة، وتعطيل عملية التطبيع بين الدولتين، وعرقلة الجهود المبذولة لتسوية الصراع في سوريا، مؤكدًا استمرار المباحثات الروسية التركية الإيرانية حول الأزمة السورية.
كما كلف "بوتين" جهاز المخابرات الخارجية بتشكيل فريق للتوجه إلى أنقرة لإجراء تحقيق مشترك مع الخبراء الأتراك في حادث اغتيال السفير الروسي، وطالب السلطات التركية بتقديم ضمانات بشأن توفير الأمن للبعثات الدبلوماسية الروسية، ووجه أيضًا بتعزيز حماية البعثات الدبلوماسية التركية على الأراضي الروسية.
وعلى الجانب التركي، سارع كلٌّ من وزيري الداخلية والدفاع بالذهاب إلى مكان الحادث، وقاما بالاطلاع على ملابساته، وبدورهما عقدا لقاءً مع رئيس الوزراء التركي "علي بن يلدرم" لإحاطته بتطورات الحادث. من جانبه أجرى الرئيس "رجب طيب أردوغان" اتصالا هاتفيًّا بنظيره الروسي "بوتين" أكد فيه أن هذا الحادث يستهدف العلاقات الثنائية بين الدولتين، وأن أنقرة قامت بزيادة التدابير الأمنية بمحيط السفارة والقنصلية الروسية في تركيا. وقد اتفق الرئيسان خلال الاتصال على تشكيل لجنة تحقيق مشتركة حول الحادث. كما قدم الرئيس التركي خلال تصريحاته على خلفية الحادث التعازي للرئيس والشعب الروسي، مشددًا على أن هذا الهجوم يستهدف الدولة التركية، وضرب تطبيع العلاقات بين تركيا وروسيا، وأضاف أن الأصدقاء الروس يدركون هذه الحقيقة.
دلالات الحادث
يُشير حادث اغتيال السفير الروسي على يد أحد أفراد الشرطة التركية، والتصريحات التي أطلقها عن مدينة حلب السورية والجهاد، إلى احتمالين، هما:
الاحتمال الأول: أن ضابط الشرطة التركي "مولود مرت ألتن تاش" قاتل السفير الروسي قد تأثر بفكر تنظيم "داعش" الإرهابي، وأقدم على هذا الحادث من منطلق اقتناعه بأفكار التنظيم المتطرف عن الجهاد وقتال الروس بسبب تدخلهم ضد المسلمين المجاهدين في سوريا، وفقًا لوصف التنظيم. وهو ما يعني في هذه الحالة أن أجهزة الأمن التركية قد تكون مخترقة من قبل التنظيم. وفي هذا الصدد، نُشير إلى نتائج استطلاع للرأي أجرته شركة metro-poll التركية للبحوث الاجتماعية والاستراتيجية في أغسطس 2014، حيث أظهرت أن 11.3% من الأتراك لا يرون أن تنظيم "داعش" منظمة إرهابية.
الاحتمال الثاني: أن ضابط الشرطة التركي قد أقدم على هذا الحادث من تلقاء نفسه بعد تأثره بالمشاهد التي بثتها وسائل الإعلام التركية عن الأحداث الأخيرة في حلب؛ حيث قامت وسائل الإعلام الرسمية والخاصة بتغطية واسعة ومباشرة للأحداث الأخيرة بمدينة حلب السورية، كما قامت بترجمة العشرات من مقاطع الفيديو التي تُظهر معاناة الأطفال والنساء في حلب، ونداءات الاستغاثة من المحاصرين داخل المدينة إلى اللغة التركية وبثتها على شاشات التلفاز. كما أطلقت خمس محطات إذاعية تركية برنامجًا مشتركًا بعنوان "صوت حلب" بهدف تسليط الضوء على المأساة الإنسانية التي تعيشها المدينة.
وعادةً ما يتخلل هذه التغطيات هجوم حاد على كلٍّ من روسيا وإيران، وتحميلهما مسئولية الأوضاع المأساوية في حلب، وقد وجدت تلك التغطية صداها في الشارع التركي بخروج الآلاف من المواطنين الأتراك للتظاهر أمام القنصلية الروسية في 14 ديسمبر 2016، مرددين شعارات مناهضة لروسيا، مثل "روسيا القاتلة انسحبي من سوريا"، بالإضافة للتظاهرات أمام القنصلية الإيرانية في إسطنبول، محملين الدولتين مسئولية الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين في سوريا.
وبجانب ما سبق توجد مجموعة من الدلالات الأخرى المتعلقة بالأجهزة الأمنية التركية ذاتها وعملية تأمين السفير الروسي، وذلك على النحو الآتي:
1- وجود حالة من التراخي والتقصير لدى الأجهزة الأمنية التركية في تأمين السفير الروسي، واختيار الشخصيات الأمنية المسئولة عن تأمينه بعناية، حيث كان الأمر يستوجب تشديد الإجراءات الأمنية على السفير الروسي، وذلك في ضوء حالة الغضب الشديدة لدى الرأي العام التركي من الدور الروسي في سوريا، والتي تفاقمت عقب التغطية المكثفة لوسائل الإعلام التركية لما يحدث في مدينة حلب السورية.
2- عدم قيام الأجهزة الرقابية الأمنية وجهاز الاستخبارات التركي بعملية مراجعة لتوجهات وأفكار عناصر الأمن التركي، واحتمالية ارتباطهم بتنظيمات متطرفة، أو تبنيهم أفكارًا متشددة قد تُشكل تهديدًا للأمن التركي، وقصور جهود تطهير الأجهزة الأمنية من كافة المعارضين والمنتسبين لحركة الداعية المعارض "فتح الله جولن" الذين قد يُشكلون تهديدًا لحكم الرئيس "أردوغان"، وذلك منذ فضيحة الفساد في ديسمبر 2013 التي اتسعت بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 15 يوليو 2016.
3- تأثر الجهاز الأمني التركي سلبًا بحملات التطهير التي قامت بها الحكومة التركية مؤخرًا عقب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة بفقدانه عددًا من العناصر والقيادات الأمنية ذات الخبرة والكفاءة العالية؛ حيث تمت إقالة أكثر من 8000 شرطي من بينهم حوالي 105 شرطيين من ذوي الرتب الرفيعة، والذين كان من الممكن أن يقوموا بدور أكثر فاعلية في عملية التأمين، والتصدي للعمليات الإرهابية التي تعاني منها أنقرة بشدة مؤخرًا.
التداعيات المحتملة
توجد مجموعة من التداعيات المحتملة لاغتيال السفير الروسي في أنقرة، سواء على مستوى العلاقات التركية الروسية، أو على تركيا ذاتها، وذلك على النحو التالي:
أولا: رغم توافق الرئيسين الروسي والتركي على أن هذا الحادث يهدف إلى الإضرار بالعلاقات بين البلدين، واتفاقهما على إجراء تحقيق مشترك، إلا أن سيناريو تحميل موسكو لأنقرة المسئولية السياسية عن الحادث نتيجة للتصعيد غير المسبوق في وسائل الإعلام التركية ضد روسيا على خلفية الأحداث الأخيرة بمدينة حلب السورية لا يزال قائمًا، وهو ما قد يُؤثر سلبًا على العلاقات بين الدولتين. وفي هذا الإطار قد تطلب روسيا من تركيا القيام بإجراءات لتخفيف حدة الغضب الشعبي التركي تجاهها، والتخفيف من حدة الانتقادات الموجهة لها في وسائل الإعلام التركية.
ثانيًا: رغم اتفاق روسيا وتركيا على استمرار محادثاتهما بشأن إيجاد تسوية للأزمة السورية دون التأثر بحادث اغتيال السفير الروسي، إلا أنه من المرجح أن يكون الموقف التركي أكثر ضعفًا في مواجهة كلٍّ من روسيا وإيران؛ لأن الحادث يؤكد ما تروج له إيران وروسيا بأنهما تواجهان الجماعات الإرهابية والمتطرفة في سوريا والمنطقة، ما لم تثبت التحقيقات أن الحادث تم بدافع الوقيعة بين الدولتين. فضلا عن استخدام هذا الحادث من قبل طهران وموسكو كورقة ضغط وابتزاز في مواجهة أنقرة التي باتت مطالَبة بالتوصل للحقائق الكاملة حوله.
ثالثًا: من المحتمل إقدام روسيا على إعادة تشديد إجراءات سفر السياح الروس إلى تركيا، بعدما رفعت حظر سفرهم الذي فرضته بعد أزمة إسقاط أنقرة للطائرة الروسية (سوخوي -24) في نوفمبر 2015، وذلك خوفًا من تعرض المواطنين الروس في تركيا لهجمات انتقامية على خلفية سياساتها بالأزمة السورية، وهو ما سيزيد من تراجع عائدات السياحة التركية المتأثرة سلبًا نتيجة تراجع معدلاتها بصفة عامة جراء الهجمات الإرهابية التي تشهدها المدن التركية، علمًا بأن السياح الروس يحتلون المرتبة الثانية في عدد السائحين بتركيا.
رابعًا: تزايد صورة الوضع الأمني في تركيا سوءًا أمام العالم الخارجي، بالإضافة إلى التشكيك في قدرات جهاز الأمن التركي ومدى فاعليته في مكافحة التنظيمات الإرهابية، خاصة أن حادث اغتيال السفير الروسي يأتي بالتزامن مع تصاعد الهجمات الإرهابية في تركيا مؤخرًا، وهو ما سيزيد من تفاقم الأوضاع الاقتصادية سوءًا نتيجة تراجع عائدات السياحة أو لهروب الاستثمارات الأجنبية للخارج.
خامسًا: تزايد مخاوف كلٍّ من إيران وعدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على سلامة بعثاتها الدبلوماسية ومواطنيهم في تركيا، ومدى إمكانية تعرضهم لهجمات مماثلة، سواء من مواطنين أتراك أو شرطيين تأثروا بحالة الشحن في وسائل الإعلام التركية المستمرة ضد هذه الدول، لا سيما مع تركيز وسائل الإعلام التركية على الدور الإيراني في سوريا، والدعم الذي تقدمه طهران لنظام الأسد والميليشيات الشيعية، كما أن وسائل الإعلام التركية تروج لقيام أوروبا باستضافة إرهابيين من حزب العمال الكردستاني، وتقوم بتوظيفهم ضد الدولة التركية، وأن الاتحاد الأوروبي ينظر بعنصرية لتركيا، لذلك لا يرغب في إعفاء مواطنيها من التأشيرة أو منحها العضوية، فضلا عن الاتهامات الموجهة للولايات المتحدة بدعم محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة برفضها تسليم الداعية المعارض "فتح الله جولن".
وخلاصة القول، إن حادث اغتيال أحد أفراد الشرطة التركية للسفير الروسي في تركيا يحمل عددًا من الدلالات السلبية التي ترتبط بالمشاكل الأمنية التي تمر بها أنقرة مؤخرًا، مع تزايد عدد العمليات الإرهابية التي تتعرض لها المدن التركية، والتي ستكون لها تداعياتها السلبية على الاقتصاد التركي في وقت يمر فيه بأزمات تهدد بتعرضه لموجة متتالية من التدهور. وسيكون لهذا الحادث العديد من التداعيات على علاقات تركيا مع روسيا، وكذلك على علاقاتها الإقليمية والدولية وفي القلب منها الأوروبية، في وقت تشهد فيه مرحلة من التوتر بعد تجميد مفاوضات انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي.