تحولت الحدود إلى أحد أبرز عوامل تصاعد حدة الصراعات واتساع نطاق التدخلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تشابك مصالح وأدوار الأطراف الفاعلة في تلك الصراعات. وقد اكتسبت تلك القضية أهمية وزخمًا خاصًا خلال الفترة الأخيرة، في ضوء اعتبارات رئيسية أربعة: يتمثل أولها، في الجدل الذي أثارته المبادرة التي طرحها المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا لإنقاذ شرق حلب، في نوفمبر 2016، والتي قضت بتأسيس إدارة ذاتية لقوى المعارضة في أحياء حلب الشرقية، في مقابل مغادرة عناصر "جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقًا) للمنطقة.
إذ يمكن القول إن هذه المبادرة تمثل امتدادًا للأفكار التي طرحتها بعض القوى الدولية المعنية بالأزمة السورية، في مارس 2016، والتي قضت بتقسيم سوريا على أساس اتحادي يحافظ على وحدتها باعتبارها دولة واحدة مع منح سلطات واسعة للإدارات الإقليمية للمناطق. كما أنها تتوازى مع طرح أفكار سابقة عن اتجاه إيران ونظام الأسد و"حزب الله" إلى تأسيس ما يسمى بـ"سوريا المفيدة" كخيار أخير للتعامل مع التطورات التي تشهدها الأزمة السورية.
ويتعلق ثانيها، بالتحذيرات التي أطلقها وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إرولت، في 20 نوفمبر الحالي، من أن "الحرب الشاملة سوف تؤدي إلى تقسيم سوريا وتعزيز نفوذ تنظيم داعش".
وينصرف ثالثها، إلى حرص "حزب الله" على تنظيم استعراض عسكري في منطقة القصير السورية بريف حمص الجنوبي، في 14 نوفمبر الحالي، في رسالة عابرة للحدود إلى القوى المعنية بالأزمة السورية تشير إلى أن مستقبل ودور الحزب أصبح مرتبطًا بالمسارات المحتملة للأزمة السورية، وليس بتطورات الوضع الداخلي في لبنان.
أما رابعها، فيرتبط بالتصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني، في 15 نوفمبر 2016، وقال فيها أنه "اتفق مع الولايات المتحدة الأمريكية على عدم الانسحاب من المناطق الكردية التي تمت استعادتها من تنظيم داعش"، مضيفًا أنه "من غير الممكن بعد كل هذه التضحيات أن نقبل بالتعامل المباشر للمركز مع المحافظات". ورغم أن مسئولي الإقليم حرصوا على تأكيد أن هذه التصريحات تم إخراجها من سياقها، إلا أنها حظيت بأهمية خاصة في ضوء تطلع الأكراد إلى استثمار الحرب ضد "داعش" لتحقيق مكاسب على الأرض، وفق ما عبر عنه برزاني نفسه بقوله أن "الحدود الجديدة ترسم بالدم".
مشروعات جديدة:
ربما يمكن القول إن هذه المبادرات والتطورات تلقى الضوء على التصورات والرؤى الجديدة التي باتت تطرح للتعامل مع قضية الحدود في منطقة الشرق الأوسط. إذ أن بعض الأطراف في منطقة الشرق الأوسط، سواء كانوا دولا أو فاعلين من غير الدول، تسعى إلى ما يمكن تسميته بـ"إعادة هندسة" الحدود السياسية المستقرة في مناطق الصراعات، واستبدالها بأنماط جديدة من الحدود غير التقليدية.
وثمة مؤشرات واقعية تكشف عن أن الحدود الجديدة أصبحت قيد التشكيل بالفعل، لا سيما أن هذه الأطراف رسمت حدود وحسابات أدوارها في الصراعات بما يتوافق مع طموحاتها في المنطقة. وتتمل أهم هذه الأنماط الجديدة في:
1- الاستحواذ: وهو ما يعبر عنه المشروع الذي يتبناه "حزب الله"، الذي استحوذ على منطقة القصير في سوريا، ونقل، حسب تقارير عديدة، جزءًا من ترسانته العسكرية إلى هناك، وهو ما ثبتت صحته بعد تنظيم الحزب عرضًا عسكريًّا في القصير في ريف حمص الجنوبي القريب من الحدود السورية مع لبنان.
وبالطبع، فإن هذا العرض العسكري لا ينفصل عن التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة الداخلية والإقليمية والدولية، على غرار المشاورات التي تجري داخل لبنان لتشكيل حكومة لبنانية جديدة بعد انتهاء أزمة "الشغور الرئاسي" بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا جديدًا للجمهورية، إلى جانب فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، واتجاه إيران إلى توجيه رسائل جديدة لواشنطن فيما يتعلق بالمسارات المحتملة للاتفاق النووي في مرحلة ما بعد تشكيل إدارة ترامب.
وقد انعكست هذه الرسائل في مجملها في تصريحات نائب الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم التي قال فيها: "نحن موجودون في سوريا، ولا نحتاج لتفسير أو تبرير، ونحن إلى جانب الجيش السوري والدولة السورية، ولولا تدخلنا في سوريا لدخل الإرهابيون إلى كل المناطق اللبنانية، وموضوع تدخلنا في سوريا لم يعد موضوع نقاش حاليًّا بين الأوساط اللبنانية".
وبعبارة أخرى، فإن الحزب يسعى من خلال هذه الخطوة، التي اكتسبت أهمية متزايدة بعد تعمد الحزب الكشف عن امتلاكه أسلحة تابعة للجيش اللبناني، إلى تأكيد أنه لن يتراجع عن دوره في الصراع السوري، والذي يخدم من خلاله أهداف وطموحات إيران، التي ما زالت مصرة على تقديم مزيد من الدعم لنظام بشار الأسد، بشكل ساهم في تصعيد حدة الأزمة وعرقلة الجهود المبذولة للوصول إلى تسوية لها.
بل إن اتجاهات عديدة تشير إلى أن الحزب حاول من خلال تلك الخطوة توجيه رسالة بأنه يحصل على "أثمان" مشاركته في الصراع السوري، من خلال تأكيد سيطرته على مناطق رئيسية داخل سوريا على غرار القصير.
كما لا يمكن استبعاد أن تكون هذه الخطوة، والتي تمت على الأرجح بتنسيق مع إيران، رسالة إلى روسيا أيضًا، في ضوء إشارة تقارير عديدة إلى أن ثمة مخاوف تنتاب طهران من إمكانية اتجاه روسيا إلى العمل على الوصول إلى تسوية للأزمة السورية غير مرضية بالنسبة لها، خاصة في حالة ما إذا وصلت موسكو إلى توافق محتمل مع الإدارة الجديدة في واشنطن، وهو ما يدفع طهران دومًا إلى تأكيد نفوذها على الأرض داخل سوريا، باعتبارها طرفًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله.
2- الحدود العاطفية: وهو المشروع الذي استدعاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتعبير عن الرؤية التركية الجديدة للتطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية. ففي خطاب رسمي وخلال مناسبة قومية هي إحياء الذكري الـ78 لرحيل مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، قال أردوغان: "نتصدى للذين يحاولون تحديد تاريخ دولتنا وأمّتنا بـ90 سنة". وأضاف: "لا يمكننا أن نُسجن في 780 ألف كلم مربع.. حدودنا الطبيعية شيء، وحدودنا العاطفية شيء آخر تمامًا، إخواننا في القرم والقوقاز وحلب والموصل يمكن أن يكونوا خارج حدودنا الطبيعية، لكنهم ضمن حدودنا العاطفية".
وبالطبع، فإن الكشف عن هذه الرؤية التركية الجديدة يتوافق مع تصاعد حدة التوتر في العلاقات بين تركيا والعراق، بسبب التحذيرات التركية المتكررة من مشاركة ميليشيا "الحشد الشعبي" في معركة تحرير الموصل من تنظيم "داعش"، خاصة فيما يتعلق باجتياح تلعفر ذات الأغلبية التركمانية، حيث هددت تركيا بالتدخل في حالة ما إذا حدث ذلك لتجنب ارتكاب انتهاكات جديدة ضد السكان في تلك المناطق، على غرار ما حدث في بعض المناطق الأخرى مثل الفلوجة وغيرها.
3- الحدود المعنوية: وهي الحدود الخاصة بالمشروع الإيراني، الذي يمثل أحد أسباب اتساع نطاق الأزمات الإقليمية وانتشار التنظيمات الإرهابية، والذي يروج له مسئولون إيرانيون، خاصة من قيادات الحرس الثوري، على اعتبار أن الحرس الثوري هو الذي يقوم بالدور الرئيسي على الساحة الخارجية، لا سيما في العراق ولبنان واليمن وسوريا.
ففي 5 نوفمبر الجاري، قال قائد قوات "التعبئة" (الباسيج) محمد رضا نقدي أن "راية الثورة ترفرف في أربع دول عربية"، وأضاف خلال مناورة نفّذها عناصر من قوات "التعبئة" في مدينة خوزستان جنوب إيران: "إن راية الثورة ترفرف الآن في دول كثيرة، منها سوريا ولبنان والعراق واليمن".
متغيرات محورية:
وبالطبع، فإن اتجاه هذه الأطراف إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الإجرائية في سبيل تحقيق تلك الأهداف، يرتبط بمتغيرات أخرى، يتمثل أهمها، في مدى قبول القوى المعنية بتلك الأزمات بالتغيرات المحتملة التي يمكن أن تفرضها، لا سيما على صعيد توازنات القوى على الأرض، وحدود التوافق والصراع مع الأطراف الأخرى المحلية، التي تتبنى توجهات لا تقل أهمية، على غرار القوى الكردية مثلا، التي تسعى في الفترة الحالية إلى تكريس سيطرتها على المناطق التي ساهمت في استعادتها من تنظيم "داعش"، بشكل يشير في مجمله إلى أن صراعات الحدود سوف تتصاعد خلال المرحلة القادمة، في ظل اتساع نطاق الخلافات وتباين المصالح بين القوى الرئيسية المعنية بها.